ليس مجددًا... ليس مجددًا

زرت المتحف اليهودي في برلين. أردتُ أن أعرف كيف يستثمر الإسرائيليون دور الضحية ويعيدون إنتاجه كل مرة، وكيف يصدقهم العالم ويتعاطف معهم وقد ارتكبوا آلاف المجازر.

"كلّ وثيقة حضارية هي شاهد على البربرية".

فالتر بنيامين

اعتدتُ منذ قدومي إلى برلين، كلما اختنقتُ، أن أذهب إلى ميدان ألكسندر، حيث ينتصب تمثالا ماركس وأنجلز. هذا الميدان مجاور لجزيرة المتاحف التي تضمّ، في ما تضمّه، متحف البرغامون ومتحف بودي، وعلى مسافة ليست بعيدة، المتحف اليهودي.

أعترف أنّي لستُ من عشاق المتاحف، وعلى وجه الخصوص المتاحف الغربية التي تعرض الآثار. وفي كلّ زيارة لمتحف أوروبي، تتعزز لديّ فكرة المتحف كنصبٍ استعماري. وصادف أن اضطررتُ إلى زيارة متحف البرغامون برفقة صديق، ورأيت بوابة عشتار والطريق إلى بابل ومقتنيات من بلاد الرافدين والشام.

شعرتُ بالانقباض وقتذاك، وتساءلت: ما الذي يحدث لشخص حين يرى أنّ جزءًا كبيًرا من آثار بلاده بات ملكًا لدولة أخرى؟ وبالقدر نفسه، استهجنتُ ميل الغرب الاستعماري إلى رؤية نفسه كحارس للتاريخ البشري وازدرائه الواضح للبلاد المُستعمَرَة.

هكذا، كلما مررتُ أمام قطعة فنية معروضة، تصورتُ الطريق المضرج بالدماء والاستغلال والعنصرية الذي شقّته إلى مقرّها في المتحف.

وهكذا، يسطو المستعمِر على تاريخ المستعمَر، فيجرّده من كل شيء ويمحوه من الوجود، كما يحصل الآن في فلسطين.

أعترف أنّي كنتُ أخاف كلما مررتُ بمحاذاة المتحف اليهودي. بل كنتُ أشيح بنظري عنه. وحين بدأت الأعلام الإسرائيلية ترتفع في الساحات بعد 7 أكتوبر، بدأت تشغلني فكرة ضحية الضحية كما يقول إدوارد سعيد.

بيد أنّ رؤيتي لعجائز يهود في التظاهرات المؤيدة لفلسطين يرفعون لافتات مكتوب عليها: "ليس مجددًا... ليس مجددًا... أوقفوا المجازر"، تزامنًا مع مشاهدتي فيلم "The Zone of Interest"، جعلتني أفكر بزيارة المتحف اليهودي. أردتُ أن أعرف كيف يستثمر الإسرائيليون دور الضحية ويعيدون إنتاجه كل مرة، وكيف يصدقهم العالم ويتعاطف معهم وقد ارتكبوا آلاف المجازر!

فكرتُ بسعر البطاقات وقلت لنفسي: إن كنتُ سأدفع ثمن تذكرة تذهب لشراء طلقة لن أقوم بزيارته. دخلتُ فأخبروني أن التذاكر مجانية! يعرفون كيف يكسبون مزيدًا من التعاطف بمجانية التذاكر، هكذا خطر لي.

ما الفرق بين وضع الناس في غرف الغاز وإحراق الفلسطينيين أحياء في الخيام؟

يُعدّ المتحف اليهودي في برلين من أكبر المتاحف اليهودية في أوروبا. والمتحف الحالي مؤلف من مبنيين، أحدهما مبنىً قديم يعود إلى سنة 1933 وقد أغلقه النازيون عام 1938. وفي عام 1975، تشكلت "رابطة المتحف اليهودي"، ونظمت بعد ثلاثة أعوام أول معرض عن التاريخ اليهودي عام 1978 في المتحف القديم. وفي عام 1988، أعلنت الحكومة الألمانية عن مسابقة لتصميم مبنى جديد للمتحف اليهودي، واشترك في المسابقة 165 مكتبًا معماريًا، ليفوز في المسابقة معماريٌّ يهودي يُدعى دانييل ليبسكند.

لم تكن فكرة المعماريّ مجرد عرض مقتنيات اليهود فحسب. بل أراد دانييل ليبسكند أيضًا إيصال رسائل تقنع الزائر بمدى الظلم والاضطهاد الذي تعرض له اليهود عبر تصميم المتحف المعماري، وإجبار الزائر على التعاطف حين يعيش أحاسيس اليهود أنفسهم خلال التجول في المتحف.

لا مدخل للمتحف الجديد. بل عليك أن تدخل من المتحف القديم كي تصل إلى المبنى الجديد. وفي هذا إشارة لا بد من ذكرها، كما سمعت من خلال الدليل المسجّل: "لكي تعرف مستقبل اليهود، يجب عليك التعرف على تاريخهم".

حين تدخل من المتحف القديم، ستدلف إلى دَرَج طويل يؤدي إلى قبو مطلي باللون الأسود، ثم تمشي في ممر مظلم تشعر فيه بالاختناق. وهذا الممر يفضي إلى محاور ثلاثة: محور الموت أو الهولوكوست، محور النفي، ومحور الخلاص والاستمرارية.

أمشي في محور الهولوكست؛ وهو ممر مظلم آخر تغطي أرضيته قطع حديدية منقوش عليها صور وجوهٍ تصرخ: تدوس عليها فتبعث قرقعة.

Image Credit: NIKOLAS KOKOVLIS/ NurPhoto via AFP

أسمع المسجل: هذا كي يشعر الزائر بمعاناة اليهود وهم في طريقهم إلى المحرقة. ينتهي الممر بباب حديدي يوصل إلى مبنى شاهق الارتفاع أشد عتمة من الممر.

يُقفل الباب الحديدي لخمس دقائق فلا تستطيع الرؤية وما من ضوء سوى ضوء شحيح يتسلل من السقف. يمكنك سماع أصوات غير مفهومة من الشارع، لكن لا أحد يسمع صوتك ويعود الشعور بالاختناق. هكذا كانت المحرقة. أشرد: ما الفرق بين وضع الناس في غرف الغاز وإحراق الفلسطينيين أحياء في الخيام؟

"ليس مجددًا.... ليس مجددًا": تصول الجملة في رأسي، فأرى غزة فرنًا كبيرًا. يصرخ أهل غزة ويصرخون، وهذا العالم يصمُّ أذنيه ويغلق عينيه، ولا يريد أن يسمع الناجين من المحرقة الذين ينددون بإسرائيل وإبادتها.

أما الفيترينات في الجدران فقد احتوت صورًا لعائلات يهودية قضت في عهد النازية، وكتابًا ضخمًا يحمل في جنباته أسماء يهود قضوا في الهولوكست.

Image Credit: STEFANIE LOOS/ AFP

كم مجلد يلزم لكتابة أسماء الفلسطينيين الذين قضوا منذ نشوء إسرائيل؟

أخرج من محور الموت لأمشي في محور المنفى. وقد صُمِّم هذا المحور ليصوّر هرب اليهود إلى فلسطين. ممر ذو أرضية شديدة الانحدار. تمشي فتخاف الانزلاق.

أسمع الدليل المسجّل: حين غادر اليهود ألمانيا إلى فلسطين، كانوا يشعرون بعدم الاستقرار، وهذا ما عكسه المهندس المعماري بتصميمه أرضًا زلقة شديدة الانحدار، تمشي متمهلًا خائفًا وغير مطمئن لعواقب الطريق.

ينتهي المحور بـ 49 من الأعمدة المتقاربة تظللها أشجار الزيتون في إشارة إلى أن فلسطين هي نهاية الرحلة.

أتذكر صورة لسيدة فلسطينية معمرة وهي تحضن شجرة زيتون معمرة لتحميها من الصهاينة، وكيف تمنع سلطات الاحتلال الفلسطينيين من جني موسم الزيتون. يا للمفارقة، يعرفون سرّ ارتباطنا بهذه الشجرة ويحاولون فصم عرانا!

من قال إن عصر النازية انتهى؟ لقد اختلفت الضحية فحسب

فكرت للحظة: إن كان المصمم يعتبر إن اليهود نُفوا إلى فلسطين، ألا يُبطل هذا مزاعم إسرائيل بأن فلسطين هي الأرض الموعودة، ويقوّض نظريتها؟ 

سوف ترى في فيترينات الجدران، أيضًا، بعض صور العائلات اليهودية الألمانية التي ذهبت إلى فلسطين.

أعود إلى نقطة التقاطع لأنطلق في محور الخلاص أو الاستمرارية. وهو سلم طويل ينطلق من القبو إلى قاعات العرض. تتغير الإضاءة من الظلام الدامس تدريجيًا نحو النور. وفي منتصف الطريق علم أزرق عليه نجمة داوود. قيل إن المصمم كان قد اقترح أن تكون القاعات فارغة، لكنهم أحضروا في ما بعد 4000 قطعة من مقتنيات اليهود الضحايا ووضعوها في هذه القاعات.

لم ينسوا، بالطبع، أن يضعوا أسماء مفكرين وعلماء يهود أغنوا الحضارة الإنسانية من أمثال ماركس وأينشتاين. أقف أمام اسم ماركس وأتذكر عبارته الشهيرة: "لا نبحث عن سرّ اليهودي في ديانته اليهودية، بل نبحث عن سرّ الديانة اليهودية في اليهودي الواقعي".

أعود للطريق نفسه. في كل مرة تبحث عن الخلاص، عليك أن تتذكر الهولوكست والمنفى. كيف يمكن للفن المعماري أن يروي الحكاية من دون شرح؟

الفراغات الكبيرة في المتحف، النوافذ المصممة على شكل شرائح طولية وكأنها ندوب جروح لا تُنسى لشعب مضطهد. كل ذلك جعلني أشعر بالاستفزاز والغضب والسؤال: لماذا؟ لماذا على الفلسطيني أن يدفع ثمن ما اقترفته النازية؟

"ليس مجددًا... ليس مجددًا". أخرج من المتحف، تصلني في الوقت نفسه رسالة عبر "الواتساب" فيها فيديو لوزيرة الخارجية الألمانية وهي تتحدث عن التزام ألمانيا بأمن إسرائيل حتى في قصف الأماكن المدنية، وتقول إنه لا ينبغي مهاجمة الإرهابيين بل تدميرهم.

أغلق هاتفي وأفكر: من قال إن عصر النازية انتهى؟ لقد اختلفت الضحية فحسب.

أمشي على طول قناة شبري. أصل إلى جسر قرب كاتدرائية برلين، فأرى مجموعة مناصرة لقضية فلسطين تعرض أحذية فلسطينيين قضوا في غزة، أطفالًا ونساء ورجالًا. أتذكر اللقطة الأخيرة لفيلم "The Zone of Interest": أحذية اليهود الذين قضوا في محرقة النازية معروضة في فيترينات زجاجية.

أقول لنفسي: متى يأتي اليوم الذي ينتهي هذا كله؟ هل ستغدو حرب الإبادة هذه وثيقة حضارية أيضًا؟

الياس خوري: صوت الضحية

يعود الياس خوري في كل مرة ليروي تاريخ فلسطين من خلال حكايات متعددة. لا يكتفي برواية واحدة، وكأن الرواية ب...

هنادي زرقة
الفرح ليس مهنة الشعراء

كلما خرجت مجموعة شعرية جديدة لي من المطبعة، أفرح ثم أتذكر أن هذه المجموعة صدرت في حين أن سوريين كثر ماتوا...

هنادي زرقة
أيلول طرفه بالدمع مبلول

"ورقه الأصفر شهر أيلول تحت الشبابيك... ذكرني وورقه دهب مشغول ... ذكرتي فيك"، أدندن الأغنية وأنا لا أحب أي...

هنادي زرقة

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة