مقبرة الكتب المنسيّة
مشهد الجرافات التي اقتحمت الركن المهمل حيث تتكوّم آلاف الكتب المستعملة تحت جسر الرئيس بدمشق، طوى زمنًا كاملًا من ذاكرة المدينة وهويتها.
مشهد الجرافات التي اقتحمت الركن المهمل حيث تتكوّم آلاف الكتب المستعملة تحت جسر الرئيس بدمشق، طوى زمنًا كاملًا من ذاكرة المدينة وهويتها.
"ستجد هذا الكتاب تحت جسر الرئيس". عبارة حاسمة لطالما تداولها العشرات في بحثهم المحموم عن كتاب قديم او مفقود أو نادر.
ففي ذلك الركن المهمل تتكوّم آلاف الكتب المستعملة والدوريات والمجلات التي تلبّي حاجة الباحثين وطلبة الجامعات وهواة القراءة، كآخر ملاذ معرفي في دمشق، بعدما أغلقت عشرات المكتبات أبوابها بما يشبه القتل المتسلسل!
هناك، على كتف المتحف الوطني، وبالقرب من موقف الحافلات، ستلتقي نسخًا نادرة من كلاسيكيات الأدب العالمي أو أعدادًا من مجلّات محتجبة، أو مكتبات كاملة باعها أصحابها بسبب العوز، أو أن الورثة تخلّوا عنها بموت الأب.
لكنّ مشهد الجرافات وشاحنات القمامة التي اقتحمت المكان صبيحة يوم الأربعاء (16 تشرين الأول/أكتوبر 2024) تنفيذًا لقرار بلدية المحافظة بإزالة الإشغالات تحت الجسر، طوى زمنًا كاملًا من ذاكرة المدينة وهويتها.
جرافة بأنياب مفتوحة على اتساعها التهمت آلاف الكتب دفعة واحدة، كما لو أننا حيال مشهد سينمائي لا يعوزه الذكاء الاصطناعي في كيفية دفن الموتى!
لم نسمع صرخات المؤلفين. لكن حبرهم كان يسيل على الرصيف مثل خيط دم سيجفّ بعد قليل. إنها مذبحة الكتب المستعملة حقًّا، أو "مقبرة الكتب المنسيّة" باستعارة من كارلوس زافون، الجملة التي ردّدها كثر في وصف المذبحة.
كانت ذريعة بلدية المحافظة أنها أنذرت باعة كتب الرصيف بإخلاء المكان منذ أشهر، وعندما لم يستجيبوا نفّذت المهمة بشجاعة، ذلك أن مهلة الساعتين التي منحتها البلدية للباعة لتوضيب كتبهم كانت أشبه بالمزحة.
هكذا استجابت المحافظة لشكاوى بالجملة ــــ بحسب قولها ــــ تدعو إلى استعادة الأرصفة المشغولة بالبسطات التي تعرقل حركة المشاة. وإذا بها تساوي بين بسطات الكتب وبسطات الأحذية للعمل على تنظيم المكان وتجميله.
وأمام ضغط عشرات المثقفين الذين وجهوا رسالة مفتوحة لوزارة الثقافة وللمحافظة، صرّح محافظ دمشق بأنه سيجري التواصل مع أصحاب بسطات الكتب ونقلهم إلى أماكن منظمة في إحدى المناطق الشاغرة.
كان شارع الصالحية يتحوّل كل يوم جمعة إلى احتفالية للكتب المستعملة في الهواء الطلق، إلى أن أطاحت به قرارات مرتجلة
ما يتجاهله تصريح المحافظ هو موقع هذا المكان وتاريخيته وحميميته بالنسبة لأجيال من القرّاء ومقتني الكتب. إذ يقع وسط المدينة، نقطة انطلاق الحافلات إلى مختلف أحياء العاصمة. كما أن إخلاء الأرصفة ينبغي أن يطال أرصفة أخرى ليس بينها هذا المكان تحديدًا.
فعلى مقربة من الجسر، يزدحم رصيف كلية الحقوق بعمارتها التاريخية بعشرات البسطات التي تمثّل جماليات القبح بامتياز، عدا الأكشاك التي غزت عشرات الأرصفة في المدينة، والزحف المخيف لمطاعم الوجبات الجاهزة التي أطاحت بالأرصفة وممرات المشاة.
كأن دمشق الحرب وما بعدها منذورة للخراب الروحي والتلوّث البصري والسمعي من تحت ومن فوق. وتاليًا، يقع استهداف بسطات الكتب المستعملة في باب تجريف المدينة من أحد علاماتها المميزة، مثلها مثل ضفاف نهر السين في باريس، وسور الأزبكية في القاهرة، وشارع المتنبي في بغداد، وشارع نهج الدبّاغين في تونس، وسوق درب السلطان في الرباط. فلا عاصمة حقيقية من دون هذه المشهديات التي تنطوي على تاريخ موازٍ لهوية المدينة!
إن نقل هذا السوق إلى مكان آخر يعني موتًا سريريًا وورقة نعي مؤجلة، إلا إذ كان مكانًا مجاورًا مثل سور المتحف الحربي ومحيطه أو سور مدرسة التجهيز.
قرارات كهذه يمكن تعميمها على نقل سوق الهال أو كراجات الانطلاق أو ورشات تصليح السيارات أو دكاكين البلاستيك التي تغلغلت في الأحياء السكنية (لم ننسَ بعد نقل سوق صناعة الزجاج اليدوي من سوق الصناعات اليدوية إلى مكانٍ آخر). أما بسطات الكتب فهي شأن آخر يخص الذاكرة والهوية الحضرية لأقدم عاصمة مأهولة في العالم.
قبل عقود، كان شارع الصالحية يتحوّل كل يوم جمعة إلى احتفالية للكتب المستعملة في الهواء الطلق، إلى أن أطاحت به قرارات مرتجلة. ثم كان علينا أن نحصي خسائرنا من المكتبات العريقة التي رفدت ذائقة أجيال من المثقفين والقرّاء: مكتبة ميسلون، مكتبة نوبل، مكتبة اليقظة، مكتبة دمشق، مكتبة الزهراء، المكتبات التي تحوّلت إلى محال للصرافة وبيع الأحذية وبيع القرطاسية.
هكذا تهاوت القوة الناعمة تدريجيًا تحت ضربات عشوائية. وإذ بسوق الورّاقين وكتاب الفقراء يترنحان في الظلمة، مثلما توارت الصحف الورقية عن واجهات المكتبات والأكشاك، ما استدعى مئات المثقفين بما يشبه الشهقة الأخيرة للمطالبة بالحفاظ على هذا السوق. فلكل واحدٍ من هؤلاء حكايته الشخصية... مع رصيف الكتب المستعملة.