الحرب الإسرائيلية تستهدف الذاكرة أيضًا

يرمي فعل التدمير الإسرائيلي في لبنان إلى إنهاء المعالم المُرشدة الى ماضٍ لا ينتهي، وإلى قتل الذاكرة الجمعية بوصفها مفردة من مفردات الهوية الجامعة.

مع توسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان، تعرّضت بساتين قريَتي، النبي عثمان في قضاء بعلبك، لقصف عنيف. واجهتُ الخبر بحيرة. حاولتُ أن أقاربه عبر البحث عن سبب "عسكري" لهذا العدوان، فلم أفلح. إذ لا يتواجد مقاتلون في هذه البساتين التي يبلغ عمرها عشرات السنين، ولم يُصب أحد في القصف، ولا يمكن أن تكون هذه المساحات حيث الِأشجار كثيفة وجذورها ممتدة في عمق الأرض مكانًا لتخزين أسلحة. 

هذه البساتين ليست ملكيات فردية لبعض الأثرياء ولا لأحزاب، بل هي مساحات شاسعة تتجاور فيها ملكيات الفلاحين الصغيرة. يتوارثونها عن آبائهم وأجدادهم. لذلك لم أخلص إلى أن ضربها مجرد "روتين تدمير عادي" بلا أفق.

ظلّ السؤال معلقًا إلى أن دمّرت الضربات الإسرائيلية سوق النبطية الشعبي والعتيق، حيث اجتماع الناس، وبما هي ساحة لذاكرة تتجدّد بفعل العيش في الحاضر. حين دمر الإسرائيليون سوق النبطية، أدّت قوة الضربات إلى اشتعال النيران فيه كما لو كان مشهدًا من مشاهد القيامة، كما لو كان نهاية للحكاية.

وقد عبَّر أبناء النبطية ألمهم بالحديث عن ذاكرتهم المُعتدى عليها. وكان كل منهم يربط ذاكرته الفردية المتعلقة بهذا المكان بذاكرة الجماعة، وبذاكرة المدينة.

سوق النبطية، كما بساتين قريتي، مكان اجتماع العامة وجزء حيوي لالتقائهم. هو مكان من الماضي ذو دورٍ مستمرٍ في الحاضر. وهو، كما البيوت القديمة التي قُصفت في بنت جبيل أو المراكز الجامعة في بلدات أخرى، بمثابة وشم في الذاكرة الجمعية. ولعلّ هذا هو القصد من هذا النوع من الاعتداءات. إنّه سعي لتدمير الذاكرة الجمعية من خلال قتل الأماكن هذه في الذاكرة.

والذاكرة الجمعية هي مجموع ذاكرات أفراد الجماعة، لكنّها لا تنسخها بل تشكّلها لتُنتج ذاكرة تورَّث، وفق التعريف الذي يقترحه موريس هالباوش في كتابه المرجعي "الذاكرة الجمعية".

تؤدي هذه الذاكرة دورًا في صياغة هوية الفرد وهوية الجماعة. فـ"في غياب الذاكرة، لا يقوم عقد، ولا تحالف، ولا تُخط معاهدة، ولا تتكون هويّة فردية ولا هويّة جمعية"، تقول جويل كاندو في كتاب "أنثروبولوجيا الذاكرة" مضيفة: "بلا ذاكرة، كلّ شيء مهدّد بالهلاك، فالذاكرة آلة النقل، هي قاعدة الأساس في الثقافة والمعرفة".

لفعل تدمير الأماكن امتدادٌ في ممارسات سابقة، توَّجَها قصف معتقل الخيام خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006

ترتكز الذاكرة الجمعية على التجربة المُعاشة والمنقولة، وهذا ما يميّزها عن علم التاريخ. كما أن أماكن الذاكرة وفق التعريف الحديث الذي قدمه المؤرخ الفرنسي بيار نورا في كتابه الصادر في ثلاثة أجزاء "أماكن الذاكرة" (1984)، إنما هي معالم تؤدّي دورًا أساسيًا في تشكيل الهوية الجمعية .  

وإن سلّمنا أن الأمكنة تشكل رموزًا تحفّز عملية التذكر، فإن الضربات الإسرائيلية ترمي إلى إحداث خلل في عمليّة استعادة الماضي بصورة حيّة وحاضرة، إذ تدمر تدميرًا وحشيًا أماكن هذه الممارسة.

كلّ الكلمات المعبّرة عن الألم بعد قصف سوق النبطية، إنما تعكس الارتباط بواحد من "أماكن الذاكرة". تحمل هذه الأماكن وظيفة عملية "في الحياة اليومية" ووظيفة رمزية في الاجتماع واستمرار الربط بين التاريخ وعلاقة الحاضر به، وكذلك في التأسيس للمستقبل.

صحيح أن فعل التدمير الإسرائيلي يرمي إلى تحويل الأماكن إلى مساحات يصعب العيش فيها، ولا يعود ممكنًا إعادة بناء مسار اقتصادي فيها بعد الحرب، أو ــــ بالحد الأدنى ــــ تؤجَّل العودة إلى الحياة الطبيعية فيها. لكن هذا التدمير يهدف قبل ذلك إلى إنهاء المعالم المُرشدة الى ماضٍ لا ينتهي، وإلى قتل الذاكرة الجمعية بوصفها مفردة من مفردات الهوية الجامعة.

بل يذهب الأمر أبعد من ذلك. فالحرب هنا هي على الذاكرة الجمعية كمصدر من مصادر بناء سردية نقيضة للسردية الإسرائيلية حول هوية المكان، حيث لبنان جزء من منطقة تشمل فلسطين وأراضٍ من الفرات إلى النيل.  

ولفعل التدمير هذا امتدادٌ في ممارسات سابقة، توَّجَها قصف معتقل الخيام خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، كمكان للذاكرة ورمز للاحتلال الإسرائيلي لجزء من جنوب لبنان، وكمكانٍ لمحاكمة مقاومي هذا الاحتلال وتعذيبهم.

في الحرب القائمة الآن، تتكثف الاعتداءات على مساحتنا العامة والخاصة، ومن بينها أماكن الذاكرة في سهل البقاع، مرورًا بمدن وقرى الجنوب، وصولًا إلى قلب النبطية، أي سوقها، وقرى المواجهة الأمامية.

تقع الذاكرة في قلب بنك أهداف الحرب الإسرائيلية. ولعلّ التحدي يكمن هنا في استخدام هذه الذاكرة مثلما استخدمها الشاعر أمل دنقل، بوصفها محركًا للإبداع وأداة للتحدي، ومنطلقًا لقصيدته ودعوته الشهيرة؛ "لا تصالح"َ!

الياس خوري مؤرخًا قصص الفدائيين

ثمة وحدة حال بين الياس خوري ورواياته، وحدة جمعتهما منذ ركب التاكسي إلى عمان ليلتحق بالفدائيين.. وصولًا إل...

بيسان طي
مواسم الهجرة السورية: الصورة المجتزأة

في اللوحة التي ارتسمت في الذاكرة العالمية للاجئين، لم نشاهد العقد الاجتماعي الذي بُني في مخيمات اللجوء وخ...

بيسان طي
مفاتيح جورج قرم

إلى جانب الاقتصاد والقانون، شكّل التاريخ ميدان كتابة في ما أنتجه جورج قرم، مدققًا في تاريخ أوروبا، وفي ال...

بيسان طي

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة