في أوج عملية الإبادة، ظهر مغني "الهيب هوب" الفلسطيني "بيغ سام" على قناة MBC السعودية، وأحاط المقدمين بالشكر والامتنان لإتاحة الفرصة للظهور على "الشاشة العظيمة"، وجاء اللقاء على خلفية حفله في إمارة دبي التي استضافته مراتٍ عدّة.
في المقابلة هذه، أخرج المقدم ورقة وسأل ضيفه: "أنت ابن مدينة غزة، والمدينة حاليًا تشهد للأسف ظروفًا صعبة مع هذا العدوان. كيف توظّف صوتك لخدمة أبناء مدينتك، لا سيما أنك خارج قطاع غزة؟ وهل تعتقد أن هذا جزء من دورك؟".
أجاب سام: "المسؤوليات الأكبر تقع على عاتق الفلسطينيين في الخارج". وذكر، على سبيل المثال، غسان كنفاني ومحمود درويش اللذين نشطا خارج فلسطين، وأكمل على استحياء أن وجوده كفلسطيني في الخارج هو امتداد لفكرة البقاء.
نجا "بيغ سام" من موجات الانتقاد والاستنكار التي كان يمكن أن تطاله إثر غنائه في حفل "بيت ذا هيت" بدبي خلال الحرب على غزة، في الوقت الذي كان فنانون عرب وأجانب يعتذرون عن المشاركة في المهرجانات والحفلات. وربما انتشلته أغنيته التي خصّصها لغزة، "لو مرّة بس"، والتي جاءت على خلفية العدوان ونالت حظًا وافرًا من الشهرة.
والأغنية التي انطوت على أسىً بالغ ودفقٍ شعوريٍ يحاكي المشهد المفجع، عكست علاقة سامر صوان ــــ الذي اختار لنفسه لقب "بيغ سام" ــــ بمسقط رأسه. فالحيّ الذي ولد فيه والد سامر هو حي "الرمال" في القطاع الذي قوّضه الاحتلال بالكامل، ولم يُبقِ فيه حجرًا على حجر.
يتحدث سام في أغنيته، باقتضاب، عن النزوح ومفهوم الشهادة الذي يبعث في النفس نوعًا من الفخر يتجاوز الحزن ويقترب من الفرح بموت العزيز. يَذكُر رفح وما يعيشه أهلها والهاربون إليها، الخائفون من أن يلقوا حتفهم. وينتقل من الحزن الجارف مطلع الأغنية إلى "ثورية خفيفة"، يمهّد لها بالتدريج حتى لا يستولي الحزن على المساحة كاملة على حساب الغضب. ثمّ يصلُ بالغضب إلى الذروة بوضعه فرضية سقوط غزة ثمّ المسارعة إلى نفي إمكانية حصولها، لأنها، إن سقطت، سقطت معها الإنسانية جمعاء. فالإبادة تنطوي على صراع كونيّ حادٍ بين متضادّات. بين موت وحياة، وبين خير وشر.
لا يشتبك سام مباشرةً مع الاحتلال، لكنه لا يصل إلى القطيعة التامة مع إرث الأغنيات التي تحاكي العناد والتحدي الفلسطينيّين
لم يكن سام بحاجة إلى شهرة. فقد حجز على مدار الأعوام التي عمل خلالها في مجال الإنتاج الموسيقي، مكانة بين فناني الجيل الجديد، ولم يكن يحتاج إلى افتعال مناصرة غايتها تسلق آلام الغزيين أو المزايدة أخلاقيًا على فنانين آخرين، خصوصًا أن جمهوره في الغالب هو عبارة عن معجبين بموسيقى "الأندرغراوند" التي يقدمها وبمحتوى أغنياته الرومانسية.
لذلك سلك مسارًا جعله مختلفًا عن فناني جيله من الفلسطينيين، فلم يطرح نفسه كفنان "ملتزم". ومع ذلك لم تخلُ أغنياته من مفردات دخلت قاموس الفلسطينيين بعد احتكاك طويل مع الاحتلال حفر آثارًا في ذاكرتهم الفردية والجمعية. إذ يمكننا العثور على ملامح فلسطين في بعض أغنياته، منها الأغنية التي قدمها أخيرًا بعنوان "حيفا 2"، وقبلها أغنية "استيطان".
الفن المشاكس مقابل رثاء الضحيّة
وفي مقابل هذا المسار، ذهب بعض مغني الراب الفلسطينيين أمثال "شب جديد" و"الناظر" و"الضبور" الذين احتوتهم منصة "بلانتم" إلى تطوير الأغنية الفلسطينية الفدائية التي تعود إلى زمن الثورة في الستينيات وأغاني الانتفاضتين، فجعلوا الخطاب أكثر عصرية وتواؤمًا مع واقع القهر الفلسطيني الراهن تحت الاحتلال، وتعمّدوا تصوير بؤس الحياة الاجتماعية في الأراضي المحتلة، وتغنّوا برصاص المقاومة وعملياتها.
شكّل هؤلاء "الرابرز" حالة فريدة في المشهد الغنائي الفلسطيني، إذ قدموا فنًا شابًا مشاكسًا ومشتبكًا مع الاحتلال، وانتشرت أغنياتهم كالنار في الهشيم، ووُجّه خطابهم الحماسي الساخط غير المساوم إلى عموم الشباب العربي.
ورثت هذه الأغنيات من تراث الثورة أسطرةَ الشخصية الفلسطينية وإضفاءَ سمات البطولة عليها، في حين جاءت أغنية "بيغ سام" بمثابة إعلان موقف إنساني بالدرجة الأساس. إذ ظلّ في مساحة آمنة لا يقارب القضايا السياسية المحفوفة بالمخاطر، التي قد تفتح على صاحب الأغنية باب مُقاطعة مضادة من دول ومنصات تحظر دعم المقاومة.
فسام لا يشتبك مباشرةً مع الاحتلال ولا يدينه بشكل واضح، لكنه يؤنسن الشخصية الفلسطينية ويكشف عن جراحها وآلامها. مع ذلك، فهو لا يصل إلى القطيعة التامة مع إرث الأغنيات التي تحاكي العناد والتحدي الفلسطينيّين، إذ يُنهي "لو مرّة بس" بعبارة تشير إلى رسوخ الفلسطينيين في أرضهم: "باقون صبًّا كنهر الغيظ"، أيّ بالقوّة والإرغام.
وبالإمكان طبعًا نقد هذا المنطق القائم على تفادي الاشتباك. فهو يموّه الحدود الفاصلة بين الجلّاد والضحية، كما يغيب معه الفاعل وتُجرَّد النتيجة عن مسبباتها. وما ينتج عن ذلك صورة مشوّهة، تقدَّم فيها عملية الإبادة بصرف النظر عمن وراءها، فيغدو حضور الاحتلال في المشهد خجولًا، وتُكرس المساحة الأكبر لرثاء الإنسان الغزي المهدد بالقتل والتهجير وبانتهاك أرضه وما عليها.
قدّم "بيغ سام" أغنية راب وحيدة لفلسطين قبل "لو مرة بس"، صدرت في مطلع مسيرته، عنوانها "آسف يا بلدي". ثمّ بدّل أسلوب مغناه وانتقل إلى نوع هجين من "الهيب هوب" صنع شهرته. ولم تحظَ "آسف يا بلدي" بشعبية واسعة، على العكس من "لو مرة بس" المرتبطة بالسياق السياسي والاجتماعي الراهن.
وقد كتب أغنيته هذه ولحّنها بنفسه، وشارك أيضًا بتوزيعها مع فريق من الموزعين، فتفرّد بخطابها، الذي، إن نُسب إلى أحد، فسيُنسَب له وحده. من هنا يمكن أن ننظر إليها بوصفها تعبيرًا شخصيًا وانطباعيًا، يصف فيها ما يجول بخاطره ووجدانه، فتراه يجعل من مصاب غرة مأساته الشخصية؛ "كنتي ولا زلتي أنا". فما حلّ بغزّة حلّ بجميع الفلسطينيين، في أصقاع الأرض كافة.