أُثيرت منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 ــــ ولا تزال ــــ أسئلة عديدة حول موقع دمشق من الحرب على غزّة، لا سيّما مع دخول "حزب الله" على خطّها وفتحه ما عُرف بـ "جبهة الإسناد"، قبل أن تتزايد الأسئلة على وقع توسّع الحرب إلى لبنان وتوالي أحداثها الدراماتيكيّة.
ثمّة تفاصيل عديدة ومتشعّبة ينبغي وضعها على طاولة البحث في سياق محاولات فهم الموقف في سوريا، ومحلّ دمشق على وجه الخصوص من المعادلات الحاليّة والمستقبليّة في المنطقة. على أنّ أوّل ما يستوجب الإشارة إليه أنّنا أمام مشهد غير مسبوق منذ عقود، إذ تبدو دمشق للمرّة الأولى شبه محيّدة عن واحدة من أكبر جولات الصراع "العربي ــــ الإسرائيلي" وأشدها دمويّة، من دون أن يعني هذا تحييد الأراضي السورية التي كانت مسرحًا لفصولٍ محوريّة (ولو أنّها أخذت شكلًا يختلف عمّا يدور في غزة ولبنان، مثل "إنزال مصياف"، والاعتداءات المتكررة)، مع بقاء الاحتمالات مفتوحةً في ظلّ التحرّكات "الإسرائيلية" المستمّرة داخل المنطقة العازلة في الجولان السوري.
يُؤشّر هذا "التّحييد" على التحوّل الهائل في مكانة دمشق من المعادلات الإقليمية، كما ينطوي في الوقت نفسه على خسارة استراتيجية كبيرة للمحور الذي لعبت العاصمة السورية فيه طويلًا دور "ضابط إيقاع" يمتدّ تأثيره إلى الإقليم بأكمله، ومن دون أن يملأ هذا الفراغ اليوم أحد.
تحييد؟ أم نأي بالنفس؟
ربما كان السؤال الأبرز الواجب الطرح اليوم: هل يحظى وصف "تحييد" بالدّقّة المطلوبة؟ أم أننا أمام موقف مركّب ينطوي على شيء من "النّأي بالنفس"؟ وبصياغة أخرى: هل كانت دمشق قادرة على لعب أدوار أشد فاعليّة بشكل أو بآخر، لكنّها أحجمت؟ وإذا صحّ هذا، فكيف يمكن تفسيره؟
يحلو لهواة المقارنات عقد واحدةٍ بين الرّاهن، وبين حرب تموز/يوليو 2006، وموقع دمشق في كل منهما، وهذه بالطبع مقارنةٌ في غير مكانها على الإطلاق، فلا سوريا اليوم هي سوريا 2006، ولا "حزب الله" كذلك، ولا "إسرائيل"، ولا ــــ قبل كل من ذُكر ــــ المشهد العالمي برمّته.
من النافل القول إنّ قدرة دمشق اليوم على لعب دور سياسي مباشر (وربما غير مباشر أيضًا) معدومة، علاوة على أن لعب دور الإسناد العسكري (غير المباشر بطبيعة الحال) بصورة مماثلة لـ2006 مسألة شديدة الصعوبة، حتى لو اتّخذ القرار بلعبه، مع التسليم بأنّ جزءًا أساسيًّا من أسباب هذه التحولات إنّما يرتبط بتبعات سنوات الحرب، وما خلّفته على مختلف الصّعد: عسكريًا، واقتصاديًا، واجتماعيًّا، وسياسيًّا بشكل خاصّ في هذا السياق.
ثمة جزء أساسي آخر يرتبط بالتوقيت، فالمعركة التي اندلعت في 7 تشرين الأول/أكتوبر جاءت في مرحلة مفصلية شديدة الحساسية بالنسبة إلى دمشق في خضم جهود إعادة تعريف العلاقة بينها وبين المحيط العربي، مع ما يستتبعه هذا من سعي إلى إعادة صياغة العلاقات الإقليميّة، وبشكل خاص هنا مع لاعبين أساسيين: طهران/الحليفة، وأنقرة/العدو الذي ربمّا "ما مِن صداقته بُدّ".
حدود تأثير أي إدارة أميركيّة تظلّ محكومة برغبة الدولة العميقة، وهذه قرّرت منذ سنوات أنها "غير معنيّة بتغيير النظام في سوريا"
لا بأس هنا من استذكار سريع للمشهد قبيل 7 تشرين الأول/ أكتوبر: كان مسار التطبيع بين دمشق وأنقرة قد دخل مرحلة أشبه بالتجميد بشكل بدا مفاجئًا حينها، وكانت طهران قد دخلت على خطّه وقتذاك بعد انفراد موسكو بدور الوسيط شهورًا طويلة.
في منتصف آب/أغسطس 2023، أدلى وزير الدفاع التركي بتصريحات تضع شروطًا للانسحاب من الأراضي السورية، قبل أن يكشف وزير الخارجية الإيرانية عن أن طهران اقترحت خطة لذلك الانسحاب تلعب فيه إلى جانب موسكو دورًا ضامنًا.
ولمزيد من الفهم، ينبغي هنا تذكر مفصل جوهري خلاصته أن دمشق كانت قد تريّثت بشأن مسار التطبيع مع أنقرة لرغبتها في عدم دخول هذا المسار معزولة عن المحيط العربي، فكانت العودة إلى الجامعة العربيّة (أيار/مايو 2023) خطوة أولى لا بدّ منها.
ثمّة في الخلفية هنا لاعبٌ شديد التأثير هو أبو ظبي، التي لعبت دورًا مفتاحيًّا في إعادة هندسة علاقات دمشق العربيّة، وهو لاعبٌ يحظى بثقة وقبول كبيرين في دمشق لأسباب عديدة منها ما يتعلّق بالشكل فحسب، فأبو ظبي "تكتفي بالنصح والتمنّي" على حد تعبير مصدر سوري بارز في جلسة غير رسميّة.
هل لعبت "النصائح الإماراتيّة" دورًا في موقف دمشق 7 تشرين الأول/أكتوبر؟
لا إجابات صريحة يمكن الحصول عليها، لكن ما نعرفه يقينًا أنّ شكل الحضور الإيراني في سوريا كان في مرحلة مراجعة ونقاشٍ حقيقيين في النصف الثاني من العام 2023، وأنّ "طوفان الأقصى" وما تلاها عقّد المسألة كثيرًا، وترك دمشق في موقف مركّب يتداخل فيه "الإحراج" مع ضغط "الالتزامات الاعتبارية" والرغبة في الحفاظ على مظهر "دولة المقاومة" ولو مرحليًّا، بالحاجة القصوى إلى قدر كبير من البراغماتيّة يتيح المضيّ في خطوات عمليّة في مسار التموضع الإقليمي والاستجابة لـ"النصائح".
لم يكن اتخاذ القرار في شأن الحرب على غزة صعبًا، لا بسبب أن العلاقة مع حركة "حماس؛ كانت تراوح في "النقطة الصفر" فحسب، بل وبشكل أساسي لأن دمشق تلقّت ما حصل عبر الإعلام من دون أي معرفة مسبقة. ربما اختلف الأمر نسبيًّا مع "جبهة الإسناد" التي فتحها "حزب الله"، لكن من دون تحولات جوهريّة: لا يمكن أن تلعب دمشق دورًا مباشرًا، ولا تسمح المعطيات بتفعيل جبهة الجولان السوري المحتل.
"الإقليم أوّلًا"
تكثيفًا؛ يمكن القول إن دمشق تنظرُ إلى "ما بعد غزّة" بكل ما في المصطلح من معانٍ سياسيّة، وهذا يشكّل ميزانًا يُحسب عبره كل شيء، لا سيّما أن أحد أبرز الطروحات الإقليمية المتداولة وراء الأبواب المغلقة منذ عامين على الأقل يتلاقى بشكل مباشر مع مصالح دمشق، والحديث هنا يتمحور حول "تصفير قوّة التنظيمات غير الدولتيّة" بوصفه محطة أساسية في الطريق إلى "الشرق الأوسط 2030"، وهذا يعني في حسابات المصالح أن "إيجاد حلول لسيطرة قوى الأمر الواقع على أجزاء من الجغرافيا السورية مهمة إقليمية، لا سورية فحسب". على أن التصدي لمثل هذه المهمة يحتاج حتمًا لتوافقات على نطاق أوسع من الإقليم، لا سيما مع الحضور العسكري المباشر الذي يفرض نفسه على مساحة تقارب ربع مساحة البلاد ولو بأقل عدد من الجنود.
ومن المفارقات هنا أن نتائج الانتخابات الأميركية التي عادت بدونالد ترمب إلى البيت الأبيض ربما قدّمت خدمة لدمشق، برغم أن ظاهر الأمر قد يعني العكس أيضًا. فترمب الذي سبق وأعلن أنه فكّر في تصفية الرئيس السوري بشار الأسد، قال أيضًا إنه غير نادم على عدم فعل ما فكر به، وإن "التعايش ممكن مع كلا الأمرين"، وهو نفسه الذي قرّر انسحابًا أميركيًا من سوريا ثم سرعان ما ثُني عنه.
من المهم هنا الانتباه إلى علامتين فارقتين: أنّ حدود تأثير أي إدارة أميركيّة تظلّ محكومة برغبة الدولة العميقة، وهذه قرّرت كما هو واضح منذ سنوات طويلة أنها "غير معنيّة بتغيير النظام في سوريا". أما الثانية فأن ترامب لم يضغط زر إيقاف للكوكب قبل خروجه من البيت الأبيض، وهو بالتالي لن يعود إلى مشهد مماثل لما كانت الأمور عليه قبل أربع سنوات. فعلى أرض الواقع باتت علاقات دمشق اليوم أفضل بكثير مما كانت عليه سابقًا مع عدد من "أهم أصدقاء ترامب" في الإقليم، وهذا "أمرٌ صالح للبناء عليه"، كما يرى المتفائلون في دمشق.
يبقى أنّ الأبواب تظل مفتوحةً على مفاجآت من مختلف العيارات كما علّمنا هذا الإقليم، لا سيّما إذا فكر بعض اللاعبين في انتهاز مرحلة "البطة العرجاء" لتغيير شروط اللعبة.