كلّما قرأت عن الرقابة وحرية التعبير في بلاد الله الواسعة، وعن تلك المطالب المرفّهة، قياساً بمطالبنا، مما يلاحقه المدافعون عن الحريات هناك، اعتمل في داخلي ضربٌ من الكيمياء الغريبة التي لا أدرك كنهها، وأَسْفَر عن خليط من الحسد، والغيرة، والغضب، وربما الحقد.
كلّما تتبّعت كلمات تلك المواثيق والإعلانات العالمية العظيمة لحقوق الإنسان، بدقّتها الأكاديمية، وحيادها الليبرالي، وتفصيلها الحقوقي في ضروب الحريات، جماعيّها وفرديّها، إنسانيِّها وحيوانيّها، عاودتني تلك الكيمياء ذاتها. وهي الكيمياء نفسها من غير شكّ، حين أرى إلى كتّابنا وأدبائنا يتحدّثون عن الرقابة ويكتبون عنها، كما لو أنّها ما يطفو على السطح من منع هذا الفيلم ثم السماح به بعد فترة، أو منع تلك الرواية ثم السماح بطباعتها أو بإدخالها من بلد مجاور، كأنّ الرقابة عندنا هي ذلك العقل المزاجيّ، الذي يقوم به موظّف متقلّب أو غريب الأطوار سرعان ما يصوّب فعلته موظّف آخر أو جهة أخرى.
إزاء ذلك كلّه، على الرغم من أهميّته وأحقّيته وخطورته التي لا شكّ فيها، تعبر أمام ناظري مشاهد لا نهاية لها تدفع لأن يُوضَع أمر الرقابة في مكان آخر. مكان يتيح، بعكس ما سبق، فهم جوهر الرقابة ومصادرة الحريات في بقعة يكاد يبدّدها الاستبداد إن لم يكن قد بدّدها.
هكذا أرى، في مشهد أول، آلاف المخبرين وعناصر الأمن وقد اسْتُنْفِروا على مدى نصف عام في مدن البلاد كلّها يتتبّعون، ويقتحمون، ويقنصون، ويزّجون في الأقبية الرطبة ما يقارب آلافاً ثلاثةً من " البشر"، شيباً وشبّاناً، نساء ورجالاً ومراهقين، طلبة وعمّالاً ومهندسين وأطباء ومعلّمين ومزارعين وموظّفين وسيدات منازل وعساكر. ثلاثة آلاف تهمتهم أنّهم انتموا إلى حزب يساري، أو قرأوا أدبياته، أو صادقوا واحداً من أعضائه، أو كانوا من أقربائه، أو من معارفه، أو ظهروا في صورة من الصور التي صودرت من بيته. ما من واحد كان قد حمل سلاحاً يهدّد في أي يوم من الأيام. ما من واحد كان قد تآمر مع جهة خارجية أو تعامل معها، كلّ ما اقترفه أعتى عتاتهم هو أنّهم عبّروا عن رأيهم المختلف في برنامج سياسي وجريدة، فكان الثمن بالنسبة إلى مئات منهم أعواماً من الاعتقال تراوحت بين الخمسة والعشرين.
أرى المخبرين وعناصر الأمن، في هذه الحملة الواحدة على هذا الحزب الواحد، يُطْلَقون بسرعة البرق وراء فرائسهم فيقنصونها ويلقون بها في غرف التحقيق والأقبية قبل أن يُخْزَنوا في عتمة برّاكاتهم ومهاجعهم بانتظار أوامر قنص جديدة. وفي الأقبية وغرف التحقيق أرى الدم، والأجساد المشبوحة، والأفخاذ المفسوخة، والأعين المرفوسة بالبسطار، والأعضاء المُكَهْرَبة، والأطراف الملوية حتى الشلل، أو المضروبة حدّ الإنهاك، أرى الموت، وأرى ذلّ البشر وإباءهم. بيد أنني أرى، علاوة على القمع والرقابة اللذين يفرضهما الاستبداد المنفلت على الرأي المخالف المتجسّد في أشكال سياسة منظّمة، عشرة أشخاص إلى عشرين شخصاً من "المواطنين العاديين" البعيدين عن أيّ خطر سياسي، يُحْضَرون كلَّ يوم، لأتفه الأسباب وأعظمها، إلى قبو هذا الجهاز الواحد من بين الأجهزة المتعدّدة في مدينة صغيرة. وبحسبةٍ بسيطة، أجد أنّ المدينة كلّها تُحْضَر هاهنا كلّ عام: صيادون، باعة، أزواج، لصوص، مخمورون، تجار، جنود، ضباط، وموظّفون كبار لفظتهم يد العناية.
سؤال الرقابة هو، أولاً وقبل كل شيء، سؤال عن طبيعة السلطة، وبحث في عيش البشر اليومي، إلا إذا كانت الحرية لا تليق بغير النخب ولا تجدر بسواهم
في مثل هذا المكان، كيف لنا أن نفهم الرقابة ومصادرة حرية التعبير على أنّها ما اعتاد المثقّفون على الشكاية منه، بل وتمنّوا حدوثه في بعض الأحيان، من سحب هذا الكتاب من الأسواق، أو منع هذا الفيلم من العرض، أو شطب بضعة أسطر من هذه الرواية، على الرغم من أهمية ذلك وخطورته في الأحوال جميعاً؟
في مثل هذا المكان، ألا يبدو كلام المواثيق والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان من أنّ الرقابة على الفكر والإبداع هي " تلك الرقابة السابقة على النشر والتي تتدّخل في الأفكار قبل إذاعتها على الملأ "، كلام مرفّهين، على الرغم من عظمته وشدّة حاجتنا إليه؟
في مجتمع تحكمه الأجهزة الأمنية وتتشخصن فيه السلطة ويعمّ فيه الاستبداد والعسف والفساد، ليست الرقابة مجرّد أمر تقني قانوني أو إداري، كما هو حالها في المجتمعات الديمقراطية والعقلانية، بل هي واحد من ألسنة اللهب المستعرة في حريق الاستبداد الشامل الذي يلتهم كلّ شيء. في مثل هذا المجتمع، ليس للرقابة محور قانوني تدور عليه وإنْ وُجِد هذا المحور على الورق. محور الرقابة هنا هو الاستبداد المعمّم ذاته، ذلك أنّ الرقابة لا تتحدّد بذاتها، بل بطبيعة السلطة السياسية التي تفرضها وتمارسها. في مثل هذا المجتمع، تتخطّى الرقابة إلى أبعد من الكتّاب والمبدعين، ذلك أنّ الاستبداد الذي يرى إلى الجميع كمتّهمين يكون قد دمّر فيهم معنى الإنسان قبل أن يصادر حقّهم في القول والكتابة والاجتماع.
وبهذا، يكون سؤال الرقابة، أولاً وقبل كل شيء، سؤال عن طبيعة السلطة، وبحث في عيش البشر اليومي، إلا إذا كانت الحرية لا تليق بغير النخب ولا تجدر بسواهم. في طبيعة السلطة الحديثة المحكومة بالأجهزة الأمنية أنّها تبدي، من حيث بنيتها واختبار البشر لها، شبهاً كبيراً بأنظمة الاستبداد الشرقي القديمة: فهي نظام سياسي تكاد لا تكون له بنية سياسية حقوقية وقانونية، ولا يتمتّع من القانون السياسي سوى بالمظهر. وهو حين يمارس طغيانه في ظلّ مظاهر القانون وألوان العدالة إنما يبلغ بذلك الطغيان أفظع درجاته وأشدّها ترويعاً. ذلك أنّ القانون الفعلي الذي ينتظم كلّ شيء هو شهوة السلطة، ليس لذاتها فحسب بل لأنها في مثل هذه المجتمعات مصدر الثروة، وتقدر أن تحول الدولة إلى مشروع استثماري هائل الأرباح يُسَخّر له كلّ مقوّم من المقوّمات التي تمّ التواضع على أنّها تشكّل قوام الدولة الحديثة. هكذا لا يكون للاستبداد أيّ تعالٍ سياسي أو حقوقي فعلي، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل عمّا إذا كان له تاريخ فيه ماضٍ أو مستقبل. فهو يكاد يكون نظام اللحظة، اللحظة التي لا تجد دوامها وأمانها إلا باختفاء كلّ معارضة وتعميم الخنوع، وجعل البشر جميعاً، مهما تكن تبايناتهم ومواقعهم، متساوين أمامها، لا لأنهم كلّ شيء، كما هو الحال في الديمقراطية، بل لأنهم لا شيء، مجرد رعايا يمكن التحكّم بمصيرهم برمّته في كلّ آن.
هكذا يستمرّ الاستبداد في الحياة تحت مستوى السياسي، بل والاجتماعي، كما لو أنّه حدود السياسة والاجتماع، كما لو أنّ حيّزه هو الفراغ وزمنه هو اللحظة، فكيف لنا، إذاً، أن نتكلّم على الرقابة وحرية التعبير في "حيّز بلا أمكنة وزمن بلا ديمومة"، على حدّ وصف ألتوسر للاستبداد الشرقي؟! ذلك هو مبتدأ الرقابة في الاستبداد. وفي الطريق إلى خبرها، أخاف، في مشهد ثانٍ، من أن أضع اسمي على كتاب تَرْجَمْتُهُ وكان النظام الديني في بلد مؤلِّفه قد قتل هذا الأخير. أتردّد، وأفكّر في تلك الفرصة التي أتاحها لي الناشر في أن أضع اسماً حركياً خُلّباً. تئزُّ بقربي طلقات، وتومض سكاكين، وتهوي عصيّ سبق أن طالت أجساد كثيرين لأسباب قريبة. تلوح صورة شخص يُعْمِل في جسدي ذلك كلّه، شخص بلا ملامح فردية سوى ما يدلّ على انتمائه إلى جماعة دينية سياسية من بين تلك التي أطلقها الاستبداد، والخوف، والأرض اليباب، وردّة فعلها التي هي من جنس الفعل. أرسم ملامحه من خلال جماعته كما يرسم العنصري صورة نمطية للأسود. أشمئزّ منّي. لكنني أعلم أنّ هذا الشخص موجود بالفعل. وقد يفتك بي قبل أن يُتاح لي، ككائن ثقافي، أن أنتقل من وجوده الفعلي القاتل إلى تحليل أسبابه الشائهة.
تستأنف المعارضة الرقابة وتستبطن قمع السلطة وتمارسهما على كلّ من تشتمّ فيه الحَيْدَ، أيّ حَيْدٍ، عن الخطّ "القويم"
ولأنني كنت ما أزال أترجم الكتاب ولم يصدر بعد ليراه، فقد أتيحت لي فرصة أن أخاطب هذا الشخص بلا ملامح. قلت له إنني لطالما اعتقدت أنّ قسمتنا من التحديث والحداثة اللذين أتيا في سياق علاقة تاريخية معقّدة وعنيفة مع ما دعوناه بالغرب، كانت على نحو يعيد فيه الحاضر إنتاج الماضي من دون أن يقوى على تجاوزه. قلت له: هكذا تجاور الطربوش والقبّعة، والعلم والخرافة، والعلماني والأصولي، والحديث والقديم، على نحو لا يمكن فيه لأحدهما أن يستأصل الآخر إن لم يستأصل البنية التي تعيد إنتاجهما معاً. بل قلت له إنّه حديث بهذا المعنى، وإن ما يربطنا يفوق ما يفرّقنا، وإنني أرى أنّ الحلّ لمشكلة الأصولية، مثلاً، هو حلّ سياسي وثقافي ومدني، وليس أمنياً وعسكرياً، وإنني لطالما كرهت أن أوقّع على بيان يطالب بإطلاق سراح اليساريين إن لم يشتمل على إشارة إلى جميع السجناء مهما تكن اتجاهاتهم.
وخطر لي، وأنا أقول ذلك، أنني أمللته أشدّ الإملال ولا بدّ أن يقتلني ألف مرّة إضافية. وفي الطريق إلى خبر الرقابة المستبدّة، أرى في مشهد ثالث، معارضين يساريين، حزبيين، وحزبيين سابقين، وأصدقاء، وسواهم ممن لا أُحْسِن تصنيفهم. أراهم وقد انتهى التحقيق ونُقِلوا إلى السجون. هناك، في تلك "الجنّة" قياساً بأقبية التحقيق، ثمّة من يحاول بكلّ الوسائل، بما فيها العضلات، منع كلّ محاولة لنقد تجربة حزبه وخطّه السياسي. ثمة من "الرفاق" من يراقب رسائل رفاقه التي يرسلونها بمعونة حرس السجن، من طابق لآخر، إلى رفاقهم وأقاربهم. يراقبها ويشطب منها كلّ ما يجد فيه حَيْدَاً عن مسيرة الحزب أو تراخياً فيها. يراقبها ويشطب منها، بخلاف حارس السجن الذي ينقلها أو يعطي إشارة الأمان لتدلية الحبل الذي يحملها عبر نوافذ الطوابق.
وهناك، ثمة من "الرفاق" من يأمر بوضع "مخبرين" في المهاجع التي يُشَكُّ بأنّ سجناءها قد بدّلوا شيئاً من آرائهم أو كوّنوا بعضاً من رؤية نقدية، مبرّراتهم لذلك استثنائية الظروف، والمحنة التي يمرّ بها الحزب، والخطر المُحْدِق، مثل مبرّرات الاستبداد تماماً. هكذا تستأنف المعارضة الرقابة وتستبطن قمع السلطة وتمارسهما على كلّ من تشتمّ فيه الحَيْدَ، أيّ حَيْدٍ، عن الخطّ "القويم". هكذا تعيد الرقابة إنتاج ذاتها لدى المعارضة التي يُفْتَرض بها أن تمثّل ضرْباً من السيناريو البديل. لكأنّ سياط الاستبداد وأدوات تعذيبه قد غرست قيمها في الجلود وهي تنهال عليها بلا شفقة، وتفسّخ من الداخل أشكالاً راقية من المقاومة وتدفعها لأن تستدخل القمع والرقابة اللذين قامت، أصلاً، لمواجهتهما. بيد أنّ الرقابة في المجتمع الاستبدادي لا تكتفي بإعادة إنتاج ذاتها على مستوى المعارضة، بل تمدّ إعادة الإنتاج تلك إلى مستويات المجتمع كلّها إذْ تتوسّع وتغزو كل ّ أفراده وجماعاته.
وبذلك يقلّد الشعب بأكمله صورة المستبدّ، وتتّخذ العلاقة بين الآباء والأبناء، والرجال والنساء، والروائيين وشخصياتهم الروائية صورة القمع. فالابن مجرّد نسخة مُراقَبَة ومكرورة، والشخصية الروائية مجرد نسخة مبتذلة، لا قول لها سوى ما ينطق به الكاتب على لسانها من إيديولوجيته أو أحزانه أو أوهامه الفقيرة. فهي، على اختلافها وتعدّدها، مجرّد أدوات للنطق بما يمكن أن يكون لديه من خطاب فقير. ذلك هو انتصار الرقابة: أن تغزو جماعات المجتمع ككلّ وتعيد لديها إنتاج ذاتها. أن تدفع المجتمع إلى استكمال دورة القمع والمراقبة بخلق ضروب السلطة المستبدّة الموازية. آلتها في ذلك هي الخوف، ذلك الانفعال العفوي، البسيط، الذي لا يحتاج إلى تعليم، ولا يتميّز بطابع اجتماعي أو سياسي، ولا يعرف لوائح أو قوانين، ولا يثنيه شيء عن الولادة آن يُسْتَوْلَد. الخوف، الخوف، ثم الخوف، ذلك ما يصنع حياة هذا النظام الغريب. ليست الرقابة، إذاً، بذاتها بل بعلاقتها مع السلطة والمجتمع المحددين.
وفي الاستبداد الذي يزيل مرتبة السياسيّ ويستسلم للخوف المعمّم المتبادل، ليس مدهشاً أن نجد التكرار اللانهائي للدوافع ذاتها لدى الجميع. وإذْ تدور الرقابة هنا على محور الاستبداد، وتنتصر إذ يُعاد إنتاجها، عبر الخوف، على مستويات المجتمع جميعاً، فإننا نكون إزاء الإطار الذي يمكن أن نتناول فيه هذه الرقابة بمعناها التقني كما يتجلّى في مكان مخصوص، وما يرتبط به من مصادرة للحريات. فإذا ما كان ثمّة أكثر من جهة رقابية، فلأنّ ثمّة من يراقب الجميع ويرسم حدودهم. وإذا ما كانت الرقابة سابقة على نشر الكتاب أو عرض الفيلم، بخلاف دول الدنيا التي تخلّت عن هذا النوع من التحكّم واستعاضت عنه بالرقابة التي تأتي بعد النشر وتمارسها هيئات المجتمع المدني وفعالياته الاجتماعية التي تحتكم في ذلك إلى القضاء، فلأنّ الاستبداد لا يحبّ المفاجآت، ويحبّ بالمقابل أن تأتي الأمور من بين يديه عطاءات ومكرمات.
لم يَعُد للاستبداد مثقّفوه الذين يُعتَدُّ بفعاليتهم، ولا أجهزته الإيديولوجية التي يوثَق بنجاعتها في خلق الوهم. لم يعد لديه سوى الخوف. وما دامت هذه الآلة شغّالة، فإنّ بمقدور الرقابة أن تسمح بهذا القول النقدي أو ذاك ممّا يمسّ السلطة ويُظهِر نقصها. بمقدورها أن تبدي من المزاجية ما قد يحيّر الأفهام في تقلّبها بين المنع والسماح للعمل الواحد ذاته. فبعد أن تكون الرقابة قد تيقّنت من اشتغال الخوف الفاعل، وتأكّدت من تحطيمها أشكال المقاومة الأنجع والأرقى، لا يعود من المهم لها أن تكون مطلقة لا تلين. وبعد أن تكون قد غزت كلّ ركن وغدت طَبْعَاً لدى الجميع، وخلقت شروطاً يكاد يستحيل فيها الإبداع، لا يهمّ الرقابة المستبدّة، التي هي أداة لإنتاج الصمت المطبق، أن تصدر حشرجة رافضة من هنا، أو دمدمة منتقدة من هناك. يطلقها في القَفْر الاجتماعي أشخاص بلا إرادة حقيقية ولا ذاكرة. لقد عرف أهل القفر جميعاً قدرتها على إنتاج ذلك الصمت.
من أين يأتي الأمل في قَفْر؟ من أين يأتي الأمل في منظومة سياسية تمثّل حدود السياسة ذاتها، حيث يعلن الاستبداد صراحةً أنّه الدولة والوطن أجمعين؟