التكنولوجيا بحد ذاتها لا تحرّر

ثمة فصل تعسّفي يقوم اليوم بين النظر الجيوسياسي لمصائب المنطقة العربية وبين الخوض في التحوّلات التكنولوجية الحاصلة في العالم. ما نودّ قوله هنا أن الاستمرار في هذا الفصل يزيد من شقاء هذه المجتمعات.

تتعذّر الرؤية بعين واحدة. تبرز الحاجة أكثر من أي وقت مضى لتعمّد الرؤية بعدد وافر وغير محصور سلفًا من العيون.

لقد تضاعفت في السنوات الماضية وبشكل محموم وكارثيّ الحصيلة الإجماليّة لعذابات سكّان هذه المنطقة العربية. فذاكرة العقدين الأخيرين تعجّ بالمشاهد الكابوسية لحروب ومجاعات وتشريد الملايين بعيدًا عن ديارهم. وإذ يتكثف المشهد في مأساة قطاع غزة، إلا أنّه يمتدّ من العراق إلى اليمن، ومن سوريا إلى السودان. لكن عذابات سكّان هذه المنطقة وتعاساتهم تشمل، ولو بوتائر وأنماط مختلفة، البلدان الأخرى أيضًا، وليس أقلّها لبنان المتروك في مهب الريح، فريسة للمراوحة والتلف وانسداد أفق أمام العدد الأكبر من الناس. صورة المنطقة اليوم كناية عن مجتمعات متصدّعة، مستسلمة هنا للفقر المدقع وهناك لتبديد الموارد وهدر الطاقات. 

إرادة الشقاء

الحصيلة الاجمالية لمصادرة حقوق الشعوب في في تقرير مصائرها، وحق الناس في تقرير شؤونها، ترسم لوحة قاتمة ومحبطة. تعيدنا لما أوجزه الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا في القرن السابع عشر، حين استهجن كيف "يسعى البشر من أجل عبوديتهم كما لو كانوا يجدون فيها حريتهم". 

هذا التخليط الفظ والمريع والمتكرر بين الحرّية والعبودية، وهذه المفاضلة العبثية بين الاستبداد والاستعمار، وهذا المسخ للتربية والتعليم والإعلام والإرشاد لتحويلها إلى قنوات تجهيل، بات يستوجب الإقلاع عن طرائق نعتقد أنها باتت معدومة الصلاحية في النظر إلى الأمور، تقوم على استبعاد أسئلة الفلسفة السياسية من ناحية، وعلى فصل الواقعين الجيوسياسي والاقتصادي – الاجتماعي لمجتمعات المنطقة عن التحدّيات التي يطرحها العصر الرقمي من ناحية أخرى. فالسؤال حول العذابات والتعاسة التي تصيب مجتمعات بأسرها وتلازمها، وتتحول إلى سمة إقليميّة عامّة، كما السؤال عن "تحصيل السعادة"، إذا ما استعدنا عنوان كتاب لأبي نصر الفارابي، لا معنى للسياسة من دونهما.

وقد كان الفارابي نفسه في طليعة من بيّن أنّ السعادة مسألة تعني المجتمع بأسره، ولا تبحث كمسألة فردية صرف، وتعني الحال الدنيوية، وغير مرحّلة للآخرة فقط لا غير. وما أسماه الفارابي "المدن الجاهلة" هي تلك التي تضلّ طريقها إلى السعادة، وتحسبها على غير ما هي.

الحق في السعادة

ثمة فصل تعسفي يقوم اليوم بين النظر الجيوسياسي لمصائب المنطقة العربية ونزاعاتها وبين الخوض في التحولات العلمية ــــ التكنولوجية الحاصلة على صعيد العالم ككل وتداعياتها على مجتمعات هذه المنطقة. ما نود قوله من خلال هذه العجالة أن الاستمرار في هذا الفصل التعسفي يزيد من شقاء هذه المجتمعات ومن الاستعصاء حيالها، سواء على مستوى النظر أو العمل.

الدمج بين محاولة فهم ما الذي يجري "في السياسة"، وبين انعكاسات الثورة التكنولوجية الراهنة، التي تزداد ارتباطًا بطفرات الذكاء الاصطناعي من ناحية أخرى، ليس خيارًا يمكن أن نقبله أو نرفضه. إنه ضرورة حيوية تفرض نفسها. ليس بالمستطاع تناول تدفق التكنولوجيات الجديدة باتجاه مجتمعاتنا كما لو أنها لوائح طعام ننتقي منها ما نشتهي، ونضع جانبًا ما لا يغرينا منها.

في الوقت نفسه، لا يمكن تناول هذه التكنولوجيات بشكل استسلامي قدري، فكم بالأحرى احتفالي منفصل عن الواقع المتألم لمجتمعات المنطقة. وثمة هنا خطر ذهني أساسي: التوهم بأن "التكنولوجيا بحد ذاتها" تُحرّر، وتُسعد. تعمل عنا وتوصلنا إلى ما نريد. هذه وصفة لامتداح التبلّد والخمول. ليس هذا فحسب، بل هذه وصفة لتجذير العذاب وتوسيعه ونقله إلى مستوى فلكي.

هناك فصل تعسّفي آخر بين مجتمعات منتجة للتكنولوجيا المعرفية وأخرى تستوردها، ويجري التسليم بأن الأخيرة خارج دائرة "تحصيل السعادة"

التكنولوجيا، لا سيما الذكاء الاصطناعي، تزيد من التحدي المزدوج: المجتمعات غير الجاهزة لاستقبال الذكاء الاصطناعي وإنتاج ما يناسبها من نماذجه وبرامجه تنتجُ وصفة لزيادة تعاساتها وإخفاقاتها وارتهاناتها، وليس العكس أبدًا. والمشكلة لا تقتصر على ذلك. فالمجتمعات غير الجاهزة لاستقبال الطفرات العلمية التكنولوجية ذات الطابع العالمي لا يمكنها أن توصد أبوابها أمام ما يحصل على نطاق الكوكب. 

لأجل ذلك، ما من تحرّر سياسي واجتماعي من دون تحرّر معرفيّ. والتحرّر المعرفيّ لا ينفصل عن التنبه لشروط العصر. ذلك أن التعاسة ليست قدرًا. والتجهيل المنهجيّ السائد على مستوى شعوب المنطقة يزداد تناقضًا مع إعادة إنتاج شروط العيش فيها، بما في ذلك الحياة الكئيبة والمبهمة. 

في الوقت نفسه، تفترض القدرة على الإبداع في الحاضر جهوزية للتصالح مع فكرة أن المستقبل فضاء من الممكنات المتعارضة، وأنه صعب الاستشراف بدقة وشمولية. وهذا يفترض الموازنة بين التحسّب للمخاطر والتلهّف لما لم تسبق رؤيته. 

يبقى أنّه في عالم تتحوّل فيه محاكاة الذكاء البشري ومحاكاة البنى العصبية للدماغ البشري، بل محاكاة أنواع أخرى من الذكاء مستمدّة من الطبيعة ــــ كحال خوارزميات "سلوك السرب" المستوحاة من النحل والطيور ــــ وحتى من النظم الاصطناعية نفسها، لا يمكن فصل الأسئلة حول المعاناة والتعاسة وتحصيل السعادة، وحول الإفلات من مصانع التجهيل والخمول، عن تعميق إدراكنا لما هو جارٍ في عالمنا، وما لا يُنتظر. 

النظام المعرفي الكوكبي

هذا الفصل بين "قضايا المنطقة" وبين "انعكاسات الذكاء الاصطناعي" وسواه من التكنولوجيات الراهنة، يبدّد القدرة على التفاعل الفكري والعملي الناجع مع كل من هذه القضايا وهذه الانعكاسات. بالتوازي، يحضر فصل تعسفي لا يقل خطورة، بين مجتمعات منتجة للتكنولوجيا المعرفية وأخرى تستورد التكنولوجيا، ويجري التسليم بأن الأخيرة شقيّة خارج دائرة "تحصيل السعادة"، وأن السعادة فيها لا تُبحث إلا على صعيد فرداني، نرجسي، أو على صعيد فُقاعي، كبيئات طبقية مقفلة. في حين يبقى "تخفيفُ الشقاء" هو الحد الأقصى لبرامجها "المشروعة" كلها. 

لكن هذا الفصل الحاد بين تخفيف الشقاء وبين نشدان السعادة يؤدي في نهاية المطاف إلى مفاضلات لا آخر بين شقائين: أيهما يمكن التصبر عليه أكثر؛ الاستعمار أو الاستبداد، الظلم السياسي أو الاقتصادي، غياب التعليم أو التعليم السيء. هذه القسمة التعسفية بين مجتمعات معنيّة بالسعادة وأخرى معنيّة بالتخفيف من شقائها هي قسمة غير صحية وغير سويّة على الاطلاق. والأخطر أن التطور التكنولوجي الحالي بات يزيد من أكلاف هذا الفصل المبدّد للطاقات الحيوية التحررية لأبناء مجتمعات المنطقة.

التفاوت في العذابات

مقدار العذاب يتفاوت من مجتمع عربي إلى آخر. أما المشترك فيتصل بطبيعة التحدّي المفروض. فما يجري في هذه البلدان هو مجموعة عمليات تقويض شروط إعادة إنتاج الحياة البشريّة فيها. يتصل ذلك في الوقت نفسه بحالة متقدمّة من الفصل بين شروط إنتاج المعرفة وبثّها في هذه المجتمعات (وصقل الوعي الفردي والجماعي بها)، وبين السائد من أنماط استيراد التكنولوجيا والبرمجيات والتطبيقات. 

من وجوه هذا الفصل التعسفي بين المعرفة والتقانة أن كثيرًا من النقاش الدائر حول التكنولوجيا الحديثة والعصر الرقمي والذكاء الاصطناعي ينحصر بـ"المحاسن والمضارّ"، وكيفية حماية الهويات المحتقنة من "الأدوات"، أو تسخيرها خدمة لهذه الهويات والغيبيات. فمع طغيان ذهنيات من هذا القبيل، تتحوّل الأتمتة إلى دعوة مفتوحة للإمعان في الكارثة الحضارية، وليس العكس. 

اندماج العقول بالآلات: لا رجعة

الطاغي في هذا المجال هو البحث في تعقيدات العلاقة بين الجماعات المختلفة في كل بلد وعلى صعيد المنطقة، وما إذا كانت الانقسامات الحاصلة قديمة مستأنفة أو متلاعب بها من الخارج، كما لو أنها مسألة منفصلة عن العلاقة بين البشر في هذه المنطقة وبين تحديات العصر التي تفرضها طفرات العلم والتكنولوجيا المتتابعة، التي لا يعود من الممكن معها الاكتفاء بالنظر إلى "الآلات" كأدوات يجري التخيّر هل نعتمدها أم لا. 

فعلى مستوى العصر: لعلّ هذا الذي نخوض في سديمه منذ سنوات هو أوّل نظام معرفي كوكبي بالكامل، يفرض بإلحاح شديد تضافر أكثر من مضمار وجهد، سواء على مستوى النظر أو العمل، من أجل الوقوف على سماته الآخذة في التبلور تباعًا. يتشكّل هذا النظام المعرفي الكوكبي الجديد من طور متقدّم من اندماج العقول بالآلات، ومن نشوء نوع آخر من الذكاء، اصطلح على تسميته بـ"الاصطناعيّ". 

إن مفاهيم مثل "السيادة" و"الأمن القومي" لم تعد تقاس فقط بحدود الجغرافيا، أو بمدى النفوذ العسكري والاقتصادي، بل بمدى امتلاك الدولة لذكاء اصطناعي سيادي

للسبب نفسه ــــ اندماج العقول بالآلات ــــ تتقلّص المسافة بين الأنساق المعرفية والمحددات الجيوسياسية. إذ لم يعد احتساب مقوّمات الاستقرار أو الاهتزاز في الميزان الجيوسياسي ضمن نطاق محدّد أو على مستوى المعمورة، مكتفيًا بخرائط توزّع وسبيل الوصول إلى الموارد وأماكن انتشار الصواريخ ووجهتها بمعزل عن الشيفرات، بل صار مرتبطًا بتحكم "الكود" في تدفقات القرار والقدرة على الاحتراز والتوقّع بالسرعة المطلوبة. 

فكل فعل، وكل قرار، وكل خوارزمية، يمكنها توليد تأثيرات متسلسلة تتخطى الحدود المعهودة سابقًا لقنوات السيطرة والتحكّم وأنماط السيادة. ما عادت الهيمنة تقاس فقط بعدد الرؤوس النووية والقواعد العسكرية، بل بالقدرة على إنتاج وتوجيه الذكاءات المتعددة والمتشابكة، والتحكم بالبنية التحتية المعلوماتية ــــ الحيوية التي تجمع بين المعالجة الحسابية والتحكم بآليات إعادة إنتاج الحياة نفسها.

الجغرافيا السياسية نفسها أصبحت "خوارزمية"

في الجغرافيا السياسية الراهنة، أخذ ما يمكن تسميته بـ"الاستقرار الخوارزمي" يعرّف طورًا جديدًا من الردع، لا يقوم على موازين القوى الكلاسيكية، بقدر ما يستند الى توازن البيانات ومعالجتها. فإدماج الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة في بنى الأمن القومي لم يعد مجرّد تحديث تقني أو تسريع يقتصر على مستوى كفاءة أدوات القرار، بل بات تحوّلًا معرفيًا في الكيفية نفسها التي يدار بها الردع والتصعيد.

وفق دراسة صادرة عن "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" في واشنطن، لا تزال الدول تعتمد أدوات القوة والديبلوماسية التقليديين، غير أن التحول الجيوسياسي الفعلي بات يتحدّد اليوم في أنماط الطلب الجديدة على "الذكاء"، أي في كيفية دمج الخصوم للخوارزميات، سواء على مستوى التكتيك أو الاستراتيجيا.

لقد انتقل الذكاء من كونه موردًا بشريًا محصورًا في غرف القيادة والاستخبارات إلى عنصر موزع بين البنى التكنولوجية نفسها؛ من الأقمار الصناعية، إلى أنظمة القيادة والسيطرة، إلى ميادين المعركة السيبرانية. صار الردع نفسه يُقاس بقدرة الدولة على التعلّم أسرع من عدوّها، وعلى تحليل البيانات وإعادة انتاج المعرفة الميدانية في الوقت الضروري. 

الحروب الخوارزمية تُقاس قبل أي شيء آخر بنجاعة النموذج الذي يتنبأ ويصحّح ويهاجم في الوقت نفسه أو بالتتابع. الاستقرار في العصر الخوارزمي بات مرتبطًا بتحقيق التوازن على مستوى الذكاء الاصطناعي "المُعسكر"، حيث يتواجه البشر والآلات معًا، ضمن فضاء باحث عن أنماط ردع جديدة محكومة بالشيفرات أكثر مما هي محكومة بالمعاهدات. 

بهذا المعنى أيضًا، يبدو مضمار "العلاقات الدولية" كما ولد مطلع القرن الماضي مترهّلًا، اذ باتت المبارزة التقليدية ضمن هذا المضمار بين المدرستين "الواقعية" و"المثالية – الليبرالية" عاجزة عن الإحاطة بعالم تُدار فيه القوة عبر بنى معرفية وخوارزمية، لا عبر مؤسسات الدولة وحدها. بل إن الدولة نفسها تتجه للاندماج بهذه البنى.

إن مفاهيم مثل "السيادة" و"الأمن القومي" و"المصلحة الوطنية" لم تعد تقاس فقط بحدود الجغرافيا، أو بمدى النفوذ العسكري والاقتصادي، بل بمدى امتلاك الدولة لذكاء اصطناعي سيادي، أي بقدرتها على إنتاج النماذج والتحكّم في تدفق البيانات وتفسيرها. أما الميدان الدولي الجديد فهو لا يقوم على صدام الإرادات البشرية فحسب، بل على التفاعل بين أنظمة ذكية تتفاوض وتتزاحم. 

يعني هذا أيضًا أن الحدود المرسومة سابقًا بين السياسي، والعسكري، والأمني، والعلمي، والتكنولوجي، تميل إلى التلاشي، بما يشبه انتشار الضوء في هذا السديم المنفتح على احتمالات وممكنات شتّى، يتّصل جزء منها بحركة التزاوج بين الطفرة العلمية – التكنولوجية على مستوى البيانات والذكاء الاصطناعي وبين الطفرة المحققة في ميدان البيوتكنولوجيا، أي، بمعنى ما، التزاوج بين ما للكود وبين ما للمادة الحية، في عالم تعاد صياغته في الوقت نفسه رقميًا وهندسته بيولوجيًا. القسمة بين ما هو "عضويّ" وبين ما هو "اصطناعي" تتعرّض يومًا بعد يوم لاختبارات جديدة.

مصطلحات سياسية وإدارية متغيّرة

في عالم كهذا، باتت مصطلحات سياسيّة عديدة مفرّغة من مضامينها ما لم تجر إعادة شحنها ووصلها بتحدّيات هذا العصر. يأتي في مقدّمتها مفهوم "الحوكمة".

لم تعد الحوكمة تعني مجرّد كفاءة مؤسسات الدولة ونزاهة طواقمها الإدارية. فكي يكسب المفهوم حيثية وراهنية جديدتين، لا مناص من اتصاله بعملية اندماج الإنسان بدوائر القرار والمعالجة الخوارزمية، حيث تتحوّل الحوكمة إلى شبكة تفاعلية حيّة، ينسج فيها الإنسان والآلة معًا أنماط القرار والسياسات العامة.

تغييب التفكير في كيفية الوصل بين تداعيات الذكاء الاصطناعي وبين مشكلات هذه المنطقة من العالم يُساوي تعطيل فعل التفكير

هكذا، رأينا في الآونة الأخيرة كيف ذاع خبر تعيين ألبانيا وزيرة افتراضية – أطلق عليها اسم دييللا – مولّدة بالذكاء الاصطناعي، لأجل مكافحة الفساد وإدارة المناقصات الحكومية. لم تكن مهمتها استبدال البشر، بل إعادة تشكيل دائرة اتخاذ القرار، بحيث ينسجم الفعل البشري مع قدرات التحليل والتنبؤ الخوارزمية. وفي خطابها أمام البرلمان الألبانيّ، شددت الوزيرة الإفتراضية دييلا على أنها "ليست هنا لتحلّ محلّ البشر، بل لمساعدتهم"، ودافعت عن شرعيتها بالاستناد إلى الواجبات الدستورية، لا إلى الهوية الإنسانية. 

الاستقلال الوطني بشروط الحوكمة الرقمية

تدريجيًا، تتحرّك الحكومات حول العالم لتجاوز القيود المفروضة على قدرتها على إنتاج البيانات الضخمة اللازمة لتغذية الذكاء الاصطناعي في مجال السياسات العامة، مظهرة أن استخدام هذه البيانات بمقدوره تعزيز الاستقلال الوطني على مستوى  الحوكمة الرقمية، خصوصًا حين تعجز الدول عن توليد بيانات واقعية كافية.

فمن خلال تطبيق مبدأ الخصوصية التفاضلية لحماية بيانات الأفراد عبر "الضوضاء" المضبوطة، وضمان درجة عالية من "المحاكاة" بما يجعل البيانات الاصطناعية قريبة من الحقيقة في الأنماط والخصائص الإحصائية، بات إدماج هذه البيانات في أنظمة التنبؤ بالذكاء الاصطناعي يُحدث تحولات في مختلف مجالات السياسة العامة، مع إمكانية تسخير ذلك لمعالجة التهميش الاجتماعي.

ففي أستراليا، استُخدمت سجلات اصطناعية لتقدير المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية الخاصة بالمجتمعات الأصلية، متجاوزة نقص البيانات الدقيقة الناتجة من دواعي السرّية. وفي نيوزيلندا، استُخدمت بيانات احصائية اصطناعية لتصحيح نقص التمثيل لدى قوم الماوري وغيرهم من الأقليات الأصلانية، منتجة تحليلات أكثر عدالة للسياسة المعنية بالإنصاف الاجتماعي. 

وتبرز في الآونة الأخيرة أطرٌ متطوّرة تجمع نماذج اصطناعيّة تستطيعُ التحليل والتواصل في ما بينها من خلال النماذج اللغويّة، وتُحاكي قدرة البشر على المناظرة والنقاش وتحفيز الذكاء الجماعي في سبيل اتخاذ قرارات أفضل وذات قيمة مضافة. تندرج هذه النماذج تحت عنوان الذكاء الاصطناعي "الوكيل". وفي سياق صناعة القرارات السياسيّة، تستطيع هذه النماذج أن تتمثّل أدوارًا ذهنية مختلفة ــــ كأدوار الباحثين، وصُنّاع القرار، والناشطين الاجتماعيين ــــ وأن تتبادل وجهات النظر في ما بينها، بما يفضي إلى توجيهات وتوصيات تراعي السياق، وتتحول إلى استراتيجيات قابلة للتنفيذ في إطار "الحوكمة".

خاتمة

من الخطأ الجسيم إدارة الظهر لسمات عصرنا هذا بدعوى أن مشكلاتنا تنتمي إلى عصر سابق عليه. فهذا إمعان في تعطيل شروط تجديد الحياة بالنسبة لهذه المنطقة من العالم. بالتوازي، من الخطأ استعادة النقاشات "السياسوية" نفسها مفصولة عن جانب أساسي اعتنت به الفلسفة السياسية، ويمكن التفتيش عن هذا الجانب في بعض من أفكار حنة أرندت بالتحديد، خصوصًا لأنها حين نظرت إلى أصل مسألة "الشر" وفصلها، أعادت أخطر أنواعه إلى كونه ليس ناتجًا من "تفكير شيطاني" بل من الاستقالة من فعل التفكير نفسه.

ما نقوله هنا أن تغييب التفكير في كيفية الوصل بين تداعيات الذكاء الاصطناعي وبين مشكلات هذه المنطقة من العالم، بدعوى أنها شقيّة أكثر مما ينبغي، يساوي تعطيل فعل التفكير، ويزيد من أوهام أن "التكنولوجيا تحرّر بشكل تلقائي".

سؤال المسؤولية "هل ما زلت قادرًا على التفكير وإصدار أحكام" بات يرتبط بما يمكنني تفويضه للآلات. في الوقت نفسه، طريقتنا في التفاعل مع الآلات تكشف ما نحن عليه. وكلما كانت طريقتنا للتفاعل مع الآلات سيئة، ومستقيلة من سؤال المسؤولية، وقائمة على أكثر من فصل تعسفي، سواء بين العلم والفلسفة، وبين السياسة والفلسفة السياسية، وبين السؤال المعرفي والسؤال الأخلاقي، وبين مجتمعات محصور بها سؤال السعادة ومجتمعات متروكة لمقاساة أنواع العذاب، ارتد ذلك مزيدًا من الاستعصاء. 

تان تان في عصر الغافام

ماذا لو ظهر تان تان، الشخصية التي تُعد من أبرز وجوه القرن العشرين الخيالية، في عصر البيانات الضخمة، والتح...

وسام سعادة
الكارثة الإيكولوجية الحضارية المستبدّة بسوريا والمهدّدة للبنان 

مع الحرب السورية والتدهور المريع في الفلاحة وأنظمة الري، وتسليم المدن الأساسية لمسلّحي "النصرة" والفانتاز...

وسام سعادة
"تحالف الأقليات": نظرية العرقين على الطريقة الأموية الجديدة

يُلاك مفهوم منذ مدة طويلة: "تحالف الأقليات"، وأنه يجب على الأقليات كي تكون في مأمن أن لا تسعى لأن تتوالف....

وسام سعادة

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة