لسنا بخير يا صديقي

تعود الحرب إلى غزة مرة أخرى. هكذا يقولون في نشرات الأخبار، كأنها لم تغادر أصلًا. تعود بخطواتٍ تعرف طريقها إلى خيامنا أكثر مما نعرفها نحن.

إنها الثانية فجرًا. تصرخ ابنتي أيلول جراء صاروخٍ أخطأنا هذه المرة، لكنه أصاب جيراننا في الخيمة. عادت الحرب، وعاد الموت، وعُدنا نلملم الأشلاء ونرثي قلوبنا. وأنا أُسعف جيراننا، حملت طفلًا نصف رأسه مهشّم، نصف ابتسامةٍ، نصف نظرةٍ، ونصف طفولةٍ أزهقتها طائرة غادرة. وبعد أن انتهينا، صرخ أحدهم من بعيد: لقد وجد النصف الآخر ملتصقًا بخيمته. 

صمتٌ مطبق، لا أحد يجيب. قلوبنا لم تعد تتسع لكل هذا يا الله. تشقّقت من الداخل، وضاقت بنا الأرض حتى صرنا نتنفس بالكاد. امتلأت أرواحنا بما يفوق البكاء، واستنزفنا أشكال الحزن الممكنة كافة، حتى ابتكرنا وجعًا جديدًا لا اسم له. 

كنتُ قد كتبت نصًا قبل أيام عن وقف الحرب لم يُتح نشره. من كان ليظنّ أن الفارق الزمني بين إعلان وقف إطلاق النار واستئنافه سيكون بهذا الضيق! كتبتُ وقتذاك أن صديقي من الخارج وجّه لي سؤالًا بسيطًا، لكنه أعقد من أن يُجاب عليه بجملة: "كيف هو الحال الآن بعد انتهاء الحرب؟". أجبتُه أول مرة بأن الموت قد توقّف، وأننا بخير. لكنّي كنتُ أكذب. ثمّ عاد ليسألني، بنبرةٍ تشبه الرجاء أكثر مما تشبه الفضول: "صدقًا يا صديقي، كيف هو الحال الآن بعد انتهاء الحرب؟".

كان يعرف أنّي لست كثير الشكوى، ويعرف أنّي أحبّ الإجابات المختصرة، ويعرف أيضًا أنّي أكذب حين أقول: "كل شيء بخير." فبماذا أجيبه؟ انتهت حربٌ واحدة، وبدأت حروب لا تُرى؟ الموت لم يتوقّف، بل غيّر وجهه، اختبأ تحت الغبار، وسكن رئاتنا، وتمشّى بين الخيام على مهل. لم يكن يُعرض على شاشات الأخبار، لكنه يمرّ من بيننا كلّ صباح، يصافحنا بصمته، ويترك فينا أثره.

كلّ يومٍ يرتقي العشرات، وننتشل ضعفهم من تحت الركام بأيدينا العارية، ويموت آخرون على أسرّتهم المتداعية، متأثرين بجراحٍ لم يُسمح لهم بالسفر لعلاجها. لكن هناك موتًا آخر، أكثر خبثًا، لا يُخرج الروح من الجسد، بل يُبقيها فيه حبيسةً، تتنفّس الرماد: انتظار طويل، وبرد لا يُحتمل، وغياب ينهش القلب. لا شيء تغيّر تقريبًا، سوى أننا بتنا أكثر صمتًا، أكثر هشاشةً، أكثر خوفًا من الأمل. الوحيد الذي تغيّر هو الجسد. بعد عامين من الموت والإرهاق والجوع والسهر، انهارت الأجساد أخيرًا كجدارٍ تعب من الوقوف. 

اليوم، تعود الحرب مرة أخرى. هكذا يقولون في نشرات الأخبار، كأنها لم تغادر أصلًا. 

تعود بخطواتٍ تعرف طريقها إلى خيامنا أكثر مما نعرفها نحن. تزيح الغبار عن مقابرنا القديمة، وتُعيد ترتيب القبور لتُنظّم ذاكرة الفقد. في يدها مفاتيح الجحيم. تطرق الأبواب وتنادي بأسماء الذين نجوا بالصدفة، كأنها تقول: "الدور عليكم هلقيت." أُطفئ عقلي وأشغّل المذياع: "يبدو أن هذه الاستهدافات مجرد قرصة أذن لغزة"، يقول محلّلٌ سياسيّ لا أعرف اسمه. 

الهواء مكسور في غزة، والسماء مثقوبة، والأمهات يلدن صمتًا لا أول له ولا آخر

كيف يُقتل مئة إنسان ويقولون "قرصة أذن"؟ تعلمنا أن قرصة الأذن عقابٌ خفيف، حتى لا نهرب من المدرسة. كيف صار موت مئة إنسان "عقابًا خفيفًا"؟ أي عبث هذا؟ أي عالمٍ وقحٍ هذا؟

تعود الحرب لتسألنا: كم من الحب تبقّى في هذه المدينة؟ كم من ضحكةٍ لم تنطفئ بعد؟ كم من قلبٍ لا يزال يقاوم؟ كل انتصارٍ صغير، كل لحظة نجاة، كل ضحكة طفل، ليست إلا استعدادًا للموت القادم. 

يا الله، أي أرضٍ هذه التي تُثمر موتًا كل صباح؟ وأي سماءٍ هذه التي لا تُمطر إلا نارًا؟ حتى الدعاء صار يتعثّر في الحناجر قبل أن يصل إليك، كأن الهواء نفسه فقد إيمانه بالنجاة. 

كل شيء في غزة مصلوب على حافة الفقد: الهواء مكسور، والسماء مثقوبة، والأمهات يلدن صمتًا لا أول له ولا آخر. لا شيء هنا يولد سليمًا، حتى الحكايات تخرج مبتورة. والضحك حين يحدث يبدو غريبًا، كأنه يحاول الهروب من الجنون ويفشل في كل مرة. بقايا البيوت تتحدث عن نفسها، تسرد قصص الموت والنجاة، تهمس بما لم يُسمع، وما لن يُسمع أبدًا. 

كل نافذة تحت الركام تحفظ صورة انفجار، وكل زاوية تتذكر من رحل ولم يعد. الطيور صامتة، كما لو أن السماء نفسها خافت أن تخبرنا بما سيأتي. نخاف الضوء كما نخاف العتمة. نخاف أن نغفو فيُنسف الحلم، ونخاف أن نستيقظ فنجد قلوبنا قد غيّرت عنوانها. الليل طويل، والأمل قصير، والنجاة مؤجلة إلى إشعارٍ آخر. المدارس فارغة من الأطفال، لكن صدى أصواتهم يتردّد في الحارات المهدّمة. 

غزة مدينة كلما دفنت أبناءها أنجبت صبرًا جديدًا. تُجرّب الموت للمرة الألف ولا تموت. تنهض كأنها تعيد تعريف المعجزة كل يوم. تُعلّمنا أن البقاء ليس حياة، بل مقاومة مستمرة لليأس. المدينة نفسها تصرخ بصوتٍ لا يُسمع، تسمع صداه فيك. 

لم تهطل الأمطار بعد، لكن كل قطرة دم تروي الأرض أكثر من أي شتاء. يبدو أننا لن نتلقى الورد إلا على قبورنا، فالورد هنا لا يعيش طويلًا إلا إن سُقي بالدم، ولا يزهر إلا على حافة القيامة. 

ومع ذلك، هناك شيء لا تمسّه الحروب، شيء لا يعرف الموت، يتسلل بين الركام ويصنع من الصمت صرخة، ومن الدمع وردًا يزهر فوق الخراب. شيء يعيد النبض لقلوبنا، يجعل المدينة جسدًا حيًا يأبى الانكسار. يعلّمنا أن الصمود ليس خيارًا، بل حقيقة أعمق من الدم. أعمق من السماء الممزقة. وحتى حين يبدو كل شيء ميتًا، تظل الحياة تنتفض بغزة، كمن يقول لنا: "لا تقلقوا، لن أموت، سأعيش حتى أروي للناجين صدفة نجاتهم."

لا سقف لي إلا السماء‎

يبدو أنّي سأبقى غريبًا في وطني إلى الأبد؛ غريبًا لا لأنّي فقدت البيت، بل لأن البيت نفسه فقدني. 

مالك الشنباري
غزة بين بثَّين: كعكة العالم وركام المدينة

اليوم، في غزة، شعرت أن ميتةً واحدة سريعة قد تكون أرحم من تقطيع أوصالنا البطيء، من هذا التعذيب الذي يباركه...

مالك الشنباري
حين "لم نعد نحتمل"

كيف نصمد في غزة ولا شيء فينا قادر على المقاومة؟ كيف نثبت ونحن نواجه الإبادة؟ كيف نبقى وقد تُركنا وحدنا؟

مالك الشنباري

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة