شمعة لأجل عفرين

ما بين الجولة الثامنة من اجتماعات "مسار آستانا" ومؤتمر الحوار السوري-السوري في سوتشي، تقرّر مصير عفرين، وشنت تركيا حملتها العسكرية عليها التي انتهت باحتلالها وتمزيق سلامها الأهلي. ولفهم مركزية عفرين، لا بد من تسليط الضوء عل طبيعتها الإثنية والثقافية والجغرافية.

كثُر الحديث عن منطقة عفرين كنقطة مفصلية في الأزمة السورية خلال مطلع الحرب التي شنّتها عليها تركيا بمساعدة فصائل المعارضة، والتي أدت في النهاية إلى احتلالها في 18 آذار/مارس 2018. لكن قلّما يتطرق أحد إلى مرحلة ما قبل الاجتياح التركي، وإلى ماهية المنطقة وما تمثله، وهو ما قد يساعد على تفسير واقعها الكارثي اليوم. في 23 كانون الثاني/يناير 2017، توجّهت أنظار السوريين إلى العاصمة الكازاخستانية أستانا لمعرفة ما سيتمخض عنه اجتماع جديد حول الأزمة السورية، أتى بصيغة مختصرة ومكثّفة بإشراف روسي وتركي وإيراني، وحضور سوري ممثلًا بوفد الحكومة السورية ووفد "الائتلاف السوري" المعارض. أفضى هذا المسار، على امتداد جولاته التفاوضيّة، إلى شرعنة صفقات تبادل مناطق السيطرة تحت عناوين مثل "تثبيت وقف إطلاق النار" و"مناطق خفض التصعيد". وشكّل احتلال تركيا منطقة عفرين أحد نتائجه، تحديدًا في جولته الثامنة التي انعقدت في 21 كانون الأول/ديسمبر 2017، أي قبل شهر تقريبًا من بدء الحرب التي شنها الجيش التركي بمساعدة عدد من فصائل المعارضة على عفرين في 20 كانون الثاني/يناير 2018، في ما عُرف بعملية "غصن الزيتون". وبعد مرور عشرة أيام على بدء العملية العسكرية، عُقد مؤتمر الحوار السوري-السوري في منتجع سوتشي الروسي في 30 كانون الثاني/يناير 2018، ليبدو وكأن عفرين قُدمت قربانًا لعقد ذلك المؤتمر المنبثق عن مسار أستانا. ولفهم مركزية عفرين ضمن هذه السلسة الشائنة من المناورات السياسية، لا بد من تسليط الضوء على طبيعتها الإثنية والثقافية والجغرافية. تقع منطقة عفرين على الحدود السورية التركية في ريف حلب الشمالي الغربي، وتنقسم إلى مدينة عفرين التي تبعد حوالي 65 كلم عن حلب، وريفها الذي يضم نواحي جنديرس، ومعبطلي، وشيخ الحديد، وراجو، وشران، وبلبل ويحوي ما يقارب 360 قرية. تُعد عفرين، بالإضافة إلى القامشلي وريفها وعين العرب/كوباني، المناطق الثلاثة الأبرز التي يقطنها الكرد في الشمال السوري. ما يميّز عفرين أنها منطقة جبلية، وهي بهذا تعدّ صورة عن المقولة الشائعة "ليس للكرد أصدقاء إلا الجبال". كما أن جلّ سكانها (الذين بلغ عددهم نحو نصف مليون مطلع الأزمة السورية) هم من الكرد، إذ حتى عندما وُزّعت بعض أراضيها على عائلات عربية مطلع ستينيات القرن الماضي استنادًا إلى قانون الإصلاح الزراعي، ظلّ الكرد يشكّلون المكوّن السكاني الغالب فيها، ولم تعرف المنطقة أي نزاعات عرقية بين الكرد والعرب. وقد تجلّت الثقافة الكردية فيها من خلال العادات والتقاليد الاجتماعية وطغيان الزي الفلكلوري الكردي وخلاف ذلك. وتشهد عفرين أيضًا تنوعًا طائفيًا وثقافيًا. إذ نجد في المنطقة مثلًا كردًا مسلمين على المذهب السُّني، وكردًا علويين، وكردًا إيزيديين، وكردًا مسيحيين. أما ثقافة "العفرينيين"، فقد تأثرت بمحيطهم على نحو ملموس. فعلى سبيل المثال، نجد أن القرى الجنوبية منها تأثرت بحلب المدينة وقرى ريف حلب الشمالي القريبة منها، أما قرى نواحي شيخ الحديد ومعبطلي فتأثرت بلواء اسكندرون، ولولا احتلال تركيا للّواء لكانت تلك القرى تتبع له إداريًا كونه أقرب إليها من حلب. تتميز عفرين أيضًا بارتفاع عدد المتعلمين وحملة الشهادات الجامعية فيها، وبأن الوضع الاقتصادي لغالبية سكانها كان جيدًا قياسًا على بقية المناطق. وقد أدى نشاط الحزب الشيوعي فيها، متمثلًا بإيفاد المئات من أبنائها وبناتها إلى دول الاتحاد السوفياتي لمتابعة تحصيلهم العلمي، دورًا مهمًا في القرن الماضي. وللمفارقة، فأثناء إعدادي هذه المقالة، كان العشرات من صبايا وشباب عفرين المهجّرين يحتفلون بتخرجهم من كلية الطب في جامعة حلب، فيما كانت صفحات "السوشال ميديا" في الوقت ذاته مشغولة بالحديث عن محمد الجاسم أبو عمشة، قائد فرقة "السلطان سليمان شاه" المسيطرة على ناحية شيخ الحديد في عفرين - وهو المتهم بالعديد من قضايا السرقة والخطف والتعذيب وتجارة المخدرات وإرسال السوريين للقتال في ليبيا وناغورني قره باخ - وعن التحاقه بالدراسة في كلية الحقوق في ما يسمى "جامعة حلب الحرة".
عفرين انتُهِكَت بقوة السياسة بينما كان الجانب العسكري مجرّد تفصيل في مسار الأحداث
قبل آذار/مارس 2011، كان الكثير من أهالي عفرين يُعدّون، بشكل أو بآخر، معارضين لإجراءات السلطة المتمثلة بمنع تدريس اللغة الكردية، واعتقال كل من يثبت قيامه بتعلمها أو تعليمها، وعدم السماح بالاحتفال بعيد "النوروز"، وحظر العمل السياسي والانتساب إلى الأحزاب، والتمييز في تطبيق الإصلاح الزراعي، وإسقاط الجنسية في إحصاء العام 1962 وغيرها. لكن، برغم ذلك، لم يجذب خطاب المعارضة الكرد العفرينيين بشكل عام، خصوصًا خلال ما عُرف بمرحلة "عسكرة الثورة"، ولعل هيمنة الفصائل الإخوانية والجهادية كان واحدًا من أبرز هذه الأسباب. عام 2012، تسارعت الأحداث بشكل كبير، ومن أبرز ما أثر منها على عفرين كان التالي:
  • تمكن فصائل المعارضة من السيطرة على أحياء في مدينة حلب في تموز/يونيو 2012
  • سيطرة فصائل المعارضة على حاجز لقوى الأمن بالقرب من قرية تل سلور جنوب غرب عفرين في تموز 2012
  • سيطرة فصائل المعارضة على مقر اللواء 135 احتياط في قرية قيبار (2 كم جنوب مدينة عفرين) في كانون الأول 2012
  • حصار مطار مِنِّغ في كانون الأول 2012 من قبل فصائل جهادية على رأسها "جبهة النصرة"، ثم تنظيم "داعش"
لكن لعلّ التنوّع الطائفي في عفرين ساهم في تجنيب المنطقة الوقوع في فخاخ الطائفية أو التطرف السياسي (نتحدث هنا عن موقف المدنيين، لا عن موقف الساسة). هكذا، اختار أهل المنطقة "الحياد الإيجابي" قدر المستطاع. ولذلك رفضوا المشاركة في حصار المدنيين القاطنين في بلدتي نبّل والزهراء طيلة ثلاثة أعوام ونصف العام، برغم وسائل الترغيب والترهيب التي استخدمتها تركيا. كما تحدّت عفرين تنظيم "داعش"، ورفضت تسليم مقاتلين ومدنيين من منطقة أعزاز بعدما تمكن التنظيم من السيطرة على مقارهم في أيلول/سبتمبر 2013. وفي آب/أغسطس 2013، بينما كان أبو عمر الشيشاني يستعد لاقتحام مطار منغ إثر تمكن "داعش" من إحداث ثغرة عبر تفجير عربة مفخخة، كانت عفرين تعمل على إحداث ثغرة من الجهة الشمالية الغربية للمطار لتأمين انسحاب مئات الجنود السوريين من الحامية ونقلهم إليها. كذلك سعى أهل المنطقة إلى تقديم المساعدة المدنية والعسكرية لبلدة مارع الواقعة تحت سيطرة المعارضة، إثر حصارها ومحاولة اقتحامها من قبل "داعش" في أيار/مايو وحزيران/يونيو 2016. وعفرين التي احتضنت مئات آلاف النازحين من حلب وريفها وحمص وريفها، سهّلت إنجاز اتفاقيات لتبادل الأسرى والمختطفين، والكشف عن مصير عشرات المفقودين. قد تكون هذه الأمثلة ودلالاتها من أبرز أسباب ما يحصل في عفرين اليوم. إذ جرى تهجير غالبية الكرد منها، ومن بقي منهم فيها يتعرض للضغط لإجباره على الرحيل. لقد تحولت عفرين في مرحلة ما بعد الاحتلال التركي إلى ما يشبه مجموعة معتقلات، كل معتقل يديره فصيل من الفصائل التابعة لتركيا، وتمارس فيه انتهاكات. عفرين، أو "جنيف سوريا"، أو "مدينة الزيتون"، انتُهِكَت بقوة السياسة، فيما كان الجانب العسكري مجرّد تفصيل في مسار الأحداث، وهي تعرضت للاحتلال والتمزيق من بوابة اجتماعات آستانا (وصفقاتها) التي كان يُفترض أن تتمثل مهمتها في الدفع باتجاه حل سياسي، وإيقاف الحرب في سوريا، والحفاظ على وحدة الأراضي السورية.
الرياض - طهران - دمشق: مفصل تاريخي أم سكون بين عاصفتين؟

يذهب البعض إلى القول إنّ الأحداث التي تعيشها سوريا منذ آذار/مارس 2011 إنما هي نسخة موسّعة لأحداث..

ريزان حدو
لقاء موسكو من زاوية أخرى: طهران في صف "قسد"؟

من المرجح أن تحمل الأيام المقبلة أخبارًا عن لقاءات تركية-إيرانية. ولعل مصلحة "قسد" تكمن اليوم بالتواصل..

ريزان حدو
سوريا: عقدٌ اجتماعي بلا هوية جامعة!

بات لكثير من السوريين عقدان اجتماعيان: الأول، ظاهري يدّعي واحدهم أنه راضٍ عنه، ويتظاهر أنه ملتزمٌ به،..

ريزان حدو

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة