تحوّلات الدراما التلفزيونية السورية

على الأغلب أن يتأثر مسار الدراما السورية بتغيّر الأجواء الثقافية والعوامل التكنولوجية والتمويلية، من دون حيازة قدرة جدية على المنافسة، أو على الوقوف ككتلة متمايزة عن سائر أنماط الإنتاج في العالم العربي.

أفقدت الأزمة السورية قدرة وسائل الإنتاج على العطاء المنتظم، المُتسق مع سمعتها ومع متطلبات السوق. وأثّر ذلك على  "صناعة" الدراما التلفزيونية، وطَرح أسئلة حول قدرتها على الاستمرار تبعاً للحاجات الثقافية المتحوّلة وحاجات محطات البث في العالم العربي. ويُطرح في هذا السياق سؤالٌ حول قدرة الدراما على الاستمرار خلال الأزمة وبعدها، كمُنتج ثقافي قابل للتجديد ربطًا بالخبرات والمهارات التي تمت مراكمتها على مدى الأعوام العشرين المنصرمة. للإجابة على هذا السؤال، لا بد من النظر إلى واقع المُنتج الدرامي قبل نشوب الحرب، إذ إن لحالِه آنذاك مفاعيلَ يمكن تلمّسها اليوم.

طغيان المسلسلات التراثويّة

اختبرت الدراما السورية ولادتها الثانية على يد المحترف هيثم حقي، وأقصد بـ"الثانية" هنا دخول القطاع الخاص إلى معترك الإنتاج، بغضّ النظر عمن يقف وراءه. إذ عوّضت الأموال التي ضُخت في الورشات التصنيعية للمسلسلات والأعمال الدرامية عن شحّ الموارد الفنية للممولين. ومع تحقيق الدراما نجاحات مُلفتة مطلع تسعينيات القرن الماضي، انفتحت عليها سوق الفضائيات، وصار المتوفّر من الإنتاج لا يكفي لسد حاجة هذه السوق، فاشتهرت مسلسلات، وبرز نجوم، وسيطر منتجون ومخرجون ومسوّقون وممولون على الدراما السورية.

وبرغم مطالبة كُثر احترام أصول العملية الإبداعية للحفاظ على استمرارها، إلا أن أصوات المنتجين والمسوّقين كانت أعلى بكثير، حيث القيمة السوقية للمُنتج هي ما يحدّد نجاحه وفقهم، بمعزل عن جودة المحتوى. وقبل أن نتناول مآل المسلسلات السورية بعد عشر سنوات من الحرب، تُفيد الإضاءة على اثنتين من العقبات الكثيرة التي واجهت نموّ هذه الصناعة وهددتها بالموات بسبب تغلغلها في بنيتها.

العقبة الأولى تتعلق بالمحتوى، الذي اتجه في بداية الأمر صوب الحداثة وانحاز إلى القيم المعاصرة. وتظهر أعمال مثل "خان الحرير"، و"الدوغري"، و"حمام القيشاني" كأمثلة على مشروع "التنوير" ذاك، وهو ما صنع سمعة قوية لهذه الدراما، حتى صارت محط طلب الأسواق. لكن الأمر لم يستمر طويلاً، إذ تحوّلت - بتأثير من السوق نفسه - إلى اعتماد التراثوية كمحتوى، حيث جنّدت السوق ثلاثة أنواع من الرقابة؛ الرقابة الرسمية، ورقابة الجمهور، ورقابة رأس المال، كضوابط تمنع "شرود" هذه المنتجات الإعلامية نحو الحداثة. وبهذا تمّ الفصل بين تكنولوجيات التلفزة المعاصرة وبين استخداماتها في الفن، وبدا المحتوى متزمّتاً، ومزاوداً على التراث نفسه.

راحت الأعمال تستنسخ بعضها البعض، وأُعيد سرد حكايات متشابهة، إنما بأشكال مختلفة فحسب

وقد سيطر المحتوى التراثوي على المنتجات، بغض النظر عن نوعية المسلسل، سواء كان تاريخياً أم اجتماعياً معاصراً أم كوميدياً أم فانتازيا. ولعل مثال مسلسل "أسعد الوراق" في إنتاجه الأوّل عام 1975 وإعادة إنتاجه 2010، المأخوذين عن قصة صدقي اسماعيل "الله والفقر"، يعطيان فكرة واضحة عن المحتوى المختلف بينهما، برغم الفارق الزمني الطويل بين الإنتاجين. والفارق هنا هو في معالجة القصة درامياً، الأولى بنظرة حداثية، والثانية بنظرة تراثوية. هذه التراثوية الطاغية على معظم مسلسلات الطفرة الإنتاجية تلك، جعلت من المحتوى "كليشيه" يتمّ تكراره من دون أي جديد يُذكر، علماً بأن الجديد هو ترياق الفن ومغامرته واستمراره.

ونتيجة طغيان المحتوى التراثي، راحت الأعمال تستنسخ بعضها البعض، وأُعيد سرد حكايات متشابهة، إنما بأشكال مختلفة فحسب. فما إن ينجح الفانتازي حتى تتبعه سلسلة من المسلسلات الفانتازية. والأمر نفسه ينطبق على مسلسلات البيئة الشامية ودراما العشوائيات. ومن شأن هذا الاستنساخ، من حيث المبدأ، أن يصنع طبقتين من الأعمال. إذ من الطبيعي ألا يحوز التقليد على أهمية النسخة الأولى نفسها. غير أن المحتوى التراثي الذي يرضي الرقابات الثلاث الآنف ذكرها، جعلها كافة بالمستوى نفسه.

احتراف أم مجرد ممارسة؟

العقبة الثانية التي حالت دون نمو الدراما التلفزيونية السورية تتصل بالبيئة التي تسمح بصناعة المنتجات الثقافية هذه، من تمويل، ونصوص، وإنتاج، وإخراج، وتصوير، ومونتاج، وتمثيل، وديكور، وملابس، ومكياج. تؤسس هذه العناصر بعلاقاتها المتشابكة بنية الإنتاج وطبيعته. وهنا لا بد لنا من التوقف ومعاينة الحالة الاحترافية لهذه الاختصاصات، وللتفريق بين حالتي الاحتراف والامتهان. وقد جمعت الدراما السورية هاتين الحالتين، وهو ما حبس هذه الدراما في المستوى المتوسط وما دونه، وربط العاملين فيها بورشات مؤقتة، يتم جمعهم وتفريقهم وفق مصالح القائمين بها.

والمقصود بالاحتراف هنا هو الاستعداد المعرفي لممارسة الاختصاص بمعناه الإبداعي المتجدد، بحيث يبدو العلم قاعدة انطلاق تغتني بالتجربة والاستزادة من المعارف، وهذا يختلف عن التطبيق الميكانيكي الذي يتيحه الاطّلاع، أو ما يُسمى "تعلّم المهنة بالممارسة". ويمكن للمتابع أن يلحظ، في هذا السياق، وجود حالات لافتة من الأميّة المعرفية في مجال الإنتاج وملحقاته، وهو ما حوّل الاختصاص إلى "مسخرة" على الصعيدين التمويلي والتنفيذي في الكثير من الأحيان، وهو أمر ينسحب على الترقّي بين المناصب التنفيذية خلال الورشات، كأن يتحول عامل الكاميرا إلى مخرج دكتاتور، شبيه بمعلّمه المُنتج مثلًا، وقِس على ذلك.

شروط المنافسة اليوم

في سياق الحرب السورية، انحسرت الطفرة التي شهدها الإنتاج الدرامي التلفزيوني في سوريا، لا بسبب التنافس الذي لم تحسب له حساباً يوماً، بل بسبب الخلل في بنيتها، حيث لم تستطع إقناع السوق بجودتها الآفلة. أما في الخارج، فقد تحوّل الإنتاج الدرامي إلى مهارات فردية، تُباع وتُشترى في سوق "المهن" التلفزيونية، وقد صادف بعضها النجاح المهني، وفشل البعض الآخر، ورُدّ إلى مصدره إلى حين حاجة.

على الأغلب أن يتأثر مسار الدراما السورية بتغيّر الأجواء الثقافية والعوامل التكنولوجية والتمويلية، سواء على صعيد الإنتاجات المشتركة أو بدائل البث عبر الإنترنت، من دون حيازة قدرة جدية على المنافسة، أو على الوقوف ككتلة متمايزة عن سائر أنماط الإنتاج في العالم العربي. لقد ثبُت أن السوق قادرة على استخدام المهنيين كأفراد منفّذين لأهوائها، ومن ثمّ الاستغناء عنهم في أي لحظة، على اعتبار أن الشركات الحاكمة للإنتاج لا تتوقف عند الأفراد. كما ثبُتت قدرتها على الاستغناء عن التراثوية التي تدرّب عليها هؤلاء، كتطبيق ميكانيكي لما يوصف بالمسلسل "الناجح".

ربما تتيح المنصّات المستحدثة عبر الإنترنت للدراما السورية، بمعاييرها المعاصرة، ساحة للمنافسة، وبالتالي لتنقية خبراتها وغربلتها، وللإفادة منها في موجة إنتاجية جديدة. قد يكون هذا مستبعد اليوم، لكنه يظل ممكناً في حال قامت الدراما على أساس مأسسة مهنية حديثة، تمكنها من تجاوز أزمة صنعتها بنفسها.