الإمبراطور المؤدلج.. رأسه أو الحرب

على الأغلب أن الأميركيين هم خلف حملة تحريض النخبة الصينية وبث الخوف لدى الرئيس الصيني "شي"، ليتجه نحو الانغلاق داخل "غرفة الصدى"، بحيث لا يعود يسمع إلا صوته فينعزل عن الواقع إلى أن يرتكب خطأ قاتلًا.

انتهى المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني في 22 تشرين الأول/أكتوبر الحالي بتجديد حكم رئيسه شي جينبينغ لولاية ثالثة تمتد حتى العام 2027. وأشار الخبراء المتابعون للحزب أن المؤتمر أفضى إلى سيطرة واسعة لـ"شي" على المفاصل الأساسية في الهيئات القيادية (تحديدًا المكتب السياسي واللجنة الدائمة)، ما يعني أن الاتجاه الايديولوجي المصمم على "النهوض العظيم" للصين واستعادة تايوان، بمعزل عن رد فعل الغرب، سيسعى بكل زخم لتجيير منجزات السنوات العشر السابقة للحفاظ على الاندفاعة التاريخية الصينية (ارتفع الدخل القومي خلالها من 54 تريليون يوان إلى 144 تريليون يوان وخرج 100 مليون صيني من الفقر). يدرك هؤلاء أن السنوات المقبلة ستكون مختلفة تمامًا عما سبق، فالولايات المتحدة صنعت إجماعًا داخليًا على الانتقال نحو المواجهة والمنافسة العدائية مع الصين.

التأطير الأميركي للأزمة

في 26 أيار/مايو 2022، ألقى وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن خطابًا في جامعة جورج واشنطن تحت عنوان "مقاربة الإدارة الأميركية تجاه جمهورية الصين الشعبية". يُعتبر هذا الخطاب أشمل تصريح عن استراتيجية بايدن غير المعلنة تجاه الصين والتي جرت صياغتها في خريف 2021 وتأجّل إعلانها بسبب الوباء ثم الحرب الروسية في أوكرانيا، وربما أيضًا لعدم اكتمال الإجماع حولها داخل الإدارة. أكدت واشنطن في هذه الاستراتيجية كما في استراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن (الصادرة في تشرين الأول/أكتوبر الحالي) أنها أمام لحظة انعطافة دولية بسبب عودة صراع القوى الكبرى بالتحديد مع الصين كونها المنافس الجيوسياسي الوحيد القادر على إعادة تشكيل النظام الدولي. وأكدت الوثيقتان أن أميركا أمامها "عقد حاسم" سيتقرر فيه الشكل الجديد للعالم بعد نهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة، وأن نافذة الوقت تضيق أمام الأميركيين لاستعادة المبادرة بوجه الصعود الصيني. وبناء عليه تتشكّل كل السياسة الأميركية، الداخلية والخارجية، وفق منظار الصراع مع الصين ولسنوات مقبلة.

حددت الاستراتيجية الأميركية ثلاثة أسس لمواجهة الصين: بناء عناصر القوة الوطنية، وبناء التحالفات، ثم المنافسة مع الصين لكن مع تجنب الوصول إلى الحرب. و يشتمل مسار المنافسة مع الصين، كما دأب العقل الأميركي في مواجهة الخصوم والمنافسين، على تقويض عوامل القوة الداخلية الصينية واستغلال مواضع الضعف والهشاشة وتحفيزها. وعلى هذا الأساس يركز الأميركيون على تعميق الشقوق داخل صفوف النخبة الحاكمة في الجهات المستهدَفة من خلال إثارة المخاوف البينية والتحريض والتلاعب، وهكذا يطمح المهاجم إلى تحقيق إما صراع داخل النخبة الحاكمة يؤدي لإزاحة متخذ القرار المستهدَف، وإما إلى أن يذهب الأخير إلى تضييق حلقة صناعة القرار بما يجعله معزولًا وأقرب إلى ارتكاب الأخطاء القاتلة.

يصوّب الخطاب الغربي المعادي للصين في السنوات الأخيرة على سردية رئيسية مفادها أن مشكلة الغرب، الديمقراطي الليبرالي، مع الصين هي محصورة مع الحزب الشيوعي الصيني وتحديداً مع الرئيس الحالي "شي". فالغرب، وفق هذه السردية، هو في موقع دفاعي عن النظام الدولي القائم على القواعد الذي استفادت منه الصين في صعودها وهو نظام يقوم على الحرية والانفتاح والازدهار وحقوق الانسان. في المقابل، فإن النظام الصيني، بتحفيز من "شي" شخصيًا، يميل بشدة نحو الاستبداد في الداخل ونحو التوسع العدائي في الخارج. تعزز هذه السردية  من تأطير المواجهة مع الصين على أنها جزء من صراع أكبر بين الديمقراطية والاستبداد، ولو أن مشكلة أميركا واقعًا مع "شي" هي موقفه من النظام الدولي المستند برأيه إلى القواعد الأميركية بدل القانون الدولي. ففي استراتيجية الأمن القومي، أعربت إدارة بايدن صراحة أنها لا تمانع التعاون مع أنظمة غير ديمقراطية وأنها لا ترى فيها تهديدًا ما دامت تنضوي تحت مظلة النظام الدولي القائم، وهو منطق أقرب إلى قاعدة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" التي يسخر منها حلفاء أميركا الليبراليون في العالم العربي.

يكشف تتبع الخطاب الغربي، السياسي والأكاديمي والاعلامي، عن وجود حملة معلومات مكثفة لوضع "شي" في قلب المشكلة

 وبناء عليه، تتركز السردية الغربية أمام خلاصة تلقائية بأن التصعيد بوجه الصين ليس خيارًا بل أمر لا مفر منه ويمكن للشعب الصيني أو الحزب الشيوعي الصيني إيقاف هذا التصعيد، الذي سيقوّض الاقتصاد والأمن الصيني، من خلال إزاحة "شي" وتبني مسار بديل يخضع لقواعد اللعبة الأميركية ولا يتحدى الهيمنة الغربية الممتدة منذ أكثر من مئتي عام.

أميركا تُحب الشعب الصيني

تضمنت استراتيجية مواجهة الصين تمييزًا بين الحزب الشيوعي الصيني والشعب الصيني، فالخلافات العميقة هي مع الحزب الشيوعي والحكومية الصينية وليست مع الشعب الصيني الذي تقدّره أميركا، بحسب بلينكن. ويكرّر الخطاب التأكيد على إظهار الاحترام للشعب الصيني وحضارته. ولذا يقول بلينكن "يكنّ الشعب الأميركي احترامًا كبيرًا للشعب الصيني. نحن نحترم إنجازاتهم وتاريخهم وثقافتهم، ونقدّر كثيرًا روابط الأسرة والصداقة التي تربطنا". وفي مقطع آخر، يعزو النهضة الصينية إلى "مواهب الشعب الصيني وبراعته وعمله الجادّ". ويكرّر الخطاب التأكيد للشعب الصيني على عدم وجود نوايا عدائية، وأنه يجب ألا يحصل صراع بل "إننا سننافس بثقة وسنتعاون حيثما نستطيع وسنتنافس حيث يجب".

يسعى الأميركيون من خلال هذا الاستهداف الموّجه لتقويض الخطابات التعبوية للحزب الشيوعي حول العدوانية الأميركية، والأهمّ اجتذاب النخبة الصينية المعجبة بالتجربة الأميركية والتي تميل لمقاربة تصالحية مع واشنطن أي الضرب في الفوالق الاجتماعية الصينية وتوسعتها. فقد أوصت دراسة صادرة عن المركز الصيني للقرن 21 في جامعة كاليفورنيا بأن على أي نهج للتأثير على النظام الصيني أن يأخذ بالاعتبار أنه ليس نظامًا أحاديًا، بل هناك الكثير من الفئات الاجتماعية ذات المصالح المتنوّعة والآراء السياسية المتباينة، وإن كان صوت شي جين هو المهيمن لكنه ليس الوحيد.

كذلك أكّدت الاستراتيجية على دور الجالية الصينية في الولايات المتحدة والاعتراف بدورها لغرض توظيف هذه الجالية كرافعة ضغط نخبوية على صانعي القرار والنخبة داخل الصين، وكذلك لجذب نُخب من الجالية الصينية ودمجها في البرامج الأميركية المخصصة لمواجهة الصين. وقد أوصت دراسة لمؤسسة "راند" (2021) أنه يجب أن تكون المجتمعات المحلّية الصينية في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم محور تركيز في العلاقات معهم. ولذلك وجدت أنه من المفيد تأمين المزيد من التوعية والدعم والشمول لتمكين المغتربين الصينيين من مقاومة إسكات الحزب الشيوعي الصيني لهم ومراقبتهم وممارسة الإكراه ضدهم.

"شي" الإيديولوجي المثالي

يكشف تتبع الخطاب الغربي، السياسي والأكاديمي والاعلامي، عن وجود حملة معلومات مكثفة لوضع "شي" في قلب المشكلة. يتم تقديم "شي" على أنه إيديولوجي يعتقد أنه مكرّس لمهمة تاريخية هي إعادة الصين إلى مجدها الامبراطوري، وهو من هذه الناحية مثالي لكنه في سياساته براغماتي يتقن المساومة عند اللزوم. وفي محاولة لفهم مصادر هذه الخصائص الشخصية تظهر أمور عدة، أبرزها تجربة والده الذي كانت له مكانة مرموقة في الحزب الشيوعي قبل أن يتعرّض للعقاب في حقبة ماو، وتجربته الشخصية في التنشئة الحزبية حيث أمضى وقتًا في الريف الصيني الفقير مختبرًا حياة قاسية لكنه أنجزها بنجاح، وكذلك إعجابه بالتجربة السوفياتية وتعمقه في دراسة التراث الماركسي، وأخيرًا مسؤولياته الحزبية في مناطق صينية شهدت ازدهارًا كبيرًا. والخلاصة أن "شي"، في الخطاب الغربي، هو مستبد لم يسبق له مثيل في تاريخ الحزب الشيوعي الصيني ولديه طموحات عدائية، فهو يرى أن قوى التاريخ تسير باتجاه حتمي لتقويض هيمنة الغرب وأن عودة المجد الأمبراطوري الصيني أمر بات ممكنًا وأنه هو من سيقود هذه العودة.

احتواء الصين هو العمل الجاري حاليًا لتقويض إرادة الحزب الشيوعي وتشجيع التيار التصالحي/الواقعي بوجه "شي"

يجادل إيفان ميديريوس، الذي عمل في الملف الآسيوي داخل مجلس الأمن القومي في عهد أوباما كما أنه باحث في الدراسات الأميركية – الصينية في جامعة جورج تاون، أن التحوّل العدائي في حقبة "شي" له جذوره في حقبة سلفه هو جينغ تاو، لكن "شي" شخص يميل للمخاطرة ويريد حسم المنافسة مع أميركا بسرعة، فهو ليس تجسيدًا للنظام بل هو شخص فريد ومختلف وحين اختاره النظام لم يكن يعلم ما الذي ينتظره من "شي".

بدوره يقدّم كيفين روود، رئيس وزراء أستراليا الأسبق وخبير في الشؤون الصينية، رأيًا شبيهًا بالقول إن "شي" هو أكثر رئيس مؤدلج للحزب الشيوعي الصيني منذ ماو ولديه كتابات عديدة حول انهيار الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي الذي ربطه بالتخفّف الإيديولوجي، ولذلك يصل إلى نتيجة مفادها أنه يجب القيام بإعادة بناء إيديولوجي في الحزب الشيوعي الصيني. ويرى روود أن "شي" نجح في تحقيق ما يسمّيه قدرة "السحب بالجاذبية" للاقتصاد الصيني ما جعل الاقتصادات العالمية أكثر ارتباطًا وتبعية له، ويستخدم "شي" ذلك لإرغام تلك الدول على الامتثال للسياسة الخارجية الصينية. وهذا النجاح السريع، بزعم روود، أدّى إلى إثارة انتقادات من داخل النظام الصيني لـ شي كونه ذهب بعيدًا جدًا وسريعًا جدًا ومبكرًا جدًا وبقسوة جدًا (دبلوماسية حربية واستراتيجية اقتصادية إكراهية) بدل أن ينتظر أن تنمو الصين بشكل طبيعي وهادئ وغير استفزازي.

خاتمة

إذًا، بحسب التأطير الغربي لـ "شي"، يمثل الأخير شكلًا من أشكال التمرد داخل النظام الصيني الذي لطالما تبنى مفهوم الصعود السلمي الهادىء لاستغلال "الفرصة الاستراتيجية" الناتجة من تحولات وأزمات النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ستكون هناك جهود غربية هائلة لتحريض النخبة الصينية ضد "شي" ومحاولة إخافة الأخير وتشجيع خصومه في آن معًا، وهي جهود ستصبح خطيرة بحال بدأت مبادرات "شي" وسياساته تعاني من الفشل. في شهر أيلول/سبتمبر الماضي، انطلقت حملة واسعة عبر منصة "تويتر"، شاركت فيها آلاف الحسابات، تزعم وقوع انقلاب عسكري في الصين وأن "شي" تم وضعه قيد الإقامة الجبرية. على الأغلب أن الأميركيين هم خلف تلك الحملة ضمن سياق تحريض النخبة الصينية وبث الخوف لدى "شي" ليتجه نحو الانغلاق داخل "غرفة الصدى"، بحيث لا يعود يسمع إلا صوته فينعزل عن الواقع إلى أن يرتكب خطأ قاتلًا.

سيتكرّس الجهد الأميركي في السنوات المقبلة لإثبات فشل استراتيجية "شي" عبر رفع أثمانها على الشعب الصيني بما يُهدد وجود النظام بهدف تشجيع النخبة الحاكمة على التمرد. بدوره، يبدو أن "ِشي" يدرك كل ذلك، ولا يظهر أنه سيتراجع، ولذا سيحرص على صلابة الحزب ونواته الحاكمة وتمتينه إيديولوجيًا، وضمان حفظ التقدم الاقتصادي لبلاده، وتسريع خطط تحديث الجيش الصيني، ومحاولة إنهاء مسألة تايوان خلال ولايته الحالية باستخدام الحد الأدنى من الوسائل العسكرية. وقد أكدت وثيقة الحزب الشيوعي في مؤتمره الحالي على كون الحزب هو القوة الأعلى للقيادة السياسية وأن قيادة مركزية موحّدة للجنة المركزية للحزب هي المبدأ السياسي الأعلى.

إن احتواء الصين تكنولوجيًا واقتصاديًا هو العمل الجاري حاليًا لتقويض إرادة الحزب الشيوعي وتشجيع التيار التصالحي/الواقعي بوجه "شي". ولذلك من الأسئلة الكبيرة أمام "شي" في السنوات الخمس المقبلة هي كيف سيلاقي الجهود الأميركية لبناء شبكات من التحالفات لعزل الصين عن سلاسل توريد التكنولوجيا المتقدمة، وكذلك كيف سيوازن السياسات الأميركية لتقييد المصالح الصينية في الدول الواقعة على خط مبادرة الحزام والطريق وهي المبادرة التي ترتبط بشكل وثيق برمزية "شي" وسمعته ومشروعه. خيارات "شي" تجاه هذين السؤالين، تحديدًا، سيكون لها تداعيات كبيرة على أحوال بلادنا في السنوات القليلة المقبلة.

فاتورة مجهولة

يبدو الساسة اللبنانيون عمومًا معزولين شعوريًا عن المجتمع وعاجزين عن تفهّمه. وكيف لا يكون ذلك وهم مطمئنون..

حسام مطر
انتفاضة القرن اللبنانية

ما يجري الآن يدور حول شكل الصيغة الجديدة، ومن أسئلتها: ماذا عن الريوع، والطائفية، والتوازنات داخل..

حسام مطر
فيلتمان ومشنقة "الدعم الخارجي" للبنان

بالمقارنة مع شهادته أمام الكونغرس في 19 تشرين الثاني 2019 للتعليق على الاحتجاجات اللبنانية حينها، تتغير..

حسام مطر

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة