هل تنتقل الأزمة في مصر من الاقتصاد إلى السياسة؟

يبدو أن الأزمة الاقتصادية كفيلة بمحو الهالة التي لطالما أحاطت بالعسكريين. إذ اتضح للجميع أنهم لا يملكون مشروعًا سياسيًا ولا برنامجًا، وأنّ القدرة على إنجاز المشروعات العقارية لا تعني القدرة على قيادة الدولة المصرية.

تعيش مصر أزمة اقتصادية يدرك الجميع أنها في طريقها إلى التفاقم. هذا الإدراك مَردّه وجودُ علامات ملموسة للأزمة: زيادةٌ في التضخّم، انخفاضٌ في قيمة الجنيه مع مؤشرات تشي بانخفاض إضافي قادم، اتجاهٌ نحو مزيد من الاستدانة، وتباطؤٌ في النشاط الاقتصادي. 

برغم ذلك، فإنّ أحدًا لا يقدر على الجزم بما ستسفر عنه هذه الأزمة. إذ يسود شعورٌ (وليس إدراك) بأن لهذا التدهور المعيشي الطاحن أثرًا سياسيًا ما، لكن ليس هناك من يقدر على الإمساك بمضمون هذا الشعور، ولا على معرفة كيف سيتجسّد هذا الأثر الذي يخبّئه المستقبل.

السياسة سلعة نادرة

السلطة في مصر ليست أقوى من المعارضة فحسب، بل أذكى منها تكتيكيًا أيضًا. ويمكن التأكيد على ذلك بالاستناد إلى ما حدث حين دعا "الإخوان" وحلفاؤهم في الخارج لـ"الثورة" في 11/11 الماضي، وهي دعوة روتينية يطلقونها كلّ عام على أمل أن تلتقطها فئات شعبيّة ناقمة فينقلب الوضع في البلاد.

لكنّ إعلاميي النظام تلقّفوها (بالسلب طبعًا) ونفخوا فيها حتّى تصوّر كثير من الناس أنّ الثورة على الناصية. وحين جاء الموعد المذكور للحدث الذي لا أساس له، ولم يخرج فرد واحد من الملايين  الـ104 في مصر، احتفل النظام بالنصر، وقَطَع بذلك الطريق على أيّ خروج عفوي إلى الشارع. وحتى كتابة هذه السطور، لم تتبيّن المعارضة الخديعة التي حِيكت.

لا أحد يعرف مصادر قوّة هذا النظام ولا مدى سيطرته على المجتمع خارج المجال الأمني، ولا قدرته على التخطيط. فالجميع في موقف المتفرّج السلبي. ولا أحد يعرف فعليًا نطاق الاستياء، وما إذا كان الشعب سلبي سياسيًا أم متحفز للقيام بشيء ما.

ويمكن أن نضيف إلى تعقُّد المشهد السياسي محورًا آخر يتعلق بكون السياسة في مصر منذ عقد ونصف ذات طبيعة "شبحية" (والتعبير للباحث السياسي عمرو عبد الرحمن)، أي مرتبطة بطيف واسع من النشطاء الإلكترونيين الذين ينشطون أحيانًا ويختفون أحيانًا، أو ينصرفون إلى شؤونهم الخاصة ويتركون السياسة لأعوام ثمّ يعودون إليها ربطًا بأوقات فراغهم أو قدراتهم الشرائية أو وضعهم الوظيفي أو إخفاقهم في الحب. بهذا المعنى، ليس هناك التزام طويل الأمد، وكلّ الأحوال تكاد تشبه بعضها بعضًا.

حين يفقد النظام الإجماع السياسي والأساس الإيديولوجي، لا يكون أمامه سوى التورط في استفزاز الغالبية الصامتة

ولأنّ ميراثَ العمل الحزبي هشٌّ وبلا قيمة، ولأنّ التثقيفَ السياسيّ في حدوده الدنيا والسيطرةَ الأمنيةَ في ذروتها، تصبح المساحة الوحيدة للانشغال بالهمّ العام هي وسائل التواصل الاجتماعي. وهي مجال يختلف كليًا عن العمل التنظيمي الضروري والحاسم للفعل السياسي طويل المدى. وبحكم طبيعتها، فإنها تُحوّل السياسة من ممارسة مدعومة بتصور نظري وخطة لإدراة الوضع، إلى "تريند" يتجدّد باستمرار وفق تصريحات المسؤولين المثيرة للفكاهة دائمًا. فالمسؤولون أيضًا لم يمرّوا بأيّ حزب سياسي. وإذا كانت المعارضة ذات طابع شبحي، فالحكم ذو طابع أمني منزوعُ السياسة كذلك.

نحن لدينا رئيس لم يدخل حزبًا ولو ساعة واحدة. والحزب ليس مجرد وسيلة للوصول إلى السلطة، بل المدرسة الوحيدة للتكوين السياسي (مدرسة لحياة الدولة، ولتنظيم العلاقة بين القادة والمقودين، كما كان غرامشي يقول). ولدينا رئيس وزراء لم يمارس السياسة أبدًا.

لدينا طاقم كامل من المسؤولين لم يتورطوا يومًا في الفعل السياسي، وكانوا بالجملة خارج الجدل والعصف الحاصل على مدار سنوات الشد والجذب من العام 2005 حتى الآن. لذا، ونحن في أشدّ لحظات التدهور الاقتصادي والتأزّم الاجتماعي، لا نجد مسؤولًا واحدًا قادرًا على الخروج إلى الشعب وإلقاء خطاب، برغم أن البعض مفيد في إلقاء تصريحات تجلب الابتسامة على وجوه الساخطين. 

على جانب آخر، يمثّل وجود الأصوات المعارضة كلّها على "السوشال ميديا" وضعًا خادعًا للناشط الإلكتروني الذي يشعر بأنّه ليس وحيدًا، وبأنه "آمنٌ وسط الزحام" (وفق المبدأ المصري القائل إن "الموت في الكَتْرة سُتْرة"). لكنّ الوضع هذا مُحبِط في الوقت نفسه، إذ يرى الناشط أقرانه من المستائين "الفيسبوكيين" في كلّ مكان، ولا يرى لذلك تأثيرًا على الواقع التدهور باستمرار. 

وبالنسبة للسلطة نفسها، يُعدّ هذا الوضع مُحيّرًا أيضًا وملتبسًا. إذ إنّ وجود تلك الأعداد الكثيفة التي تُعلّق مستاءة على سياساتها، بل على وجودها نفسه، أمرٌ مقلق لأيّ سلطة في العالم. لكنّ اقتصار هذا التعبير على النطاق الإلكتروني ودوامَهُ لسبع سنوات دون التحوّل إلى فعل في الواقع، أمر مطمئن لها، بحكم الاعتياد، وبحكم أن هذا يجعلها تعتقد أن الأمر "تحت السيطرة".

هذا الالتباس يدفع السلطة إلى ممارسة نوع من الاستهداف الانتقائي للنشطاء بهدف إرباك المحيطين بهم، ودفعهم إلى ممارسة رقابة ذاتية وإلى الاختفاء قليلًا، مع تعمّد مصادرة العمل الإعلامي كليًا وعدم السماح بأي صوت مخالف.

لقد تعلمت السلطة الحالية من درس يناير أن القمع إما أن يكون شاملًا، أو لا نفع منه. فالقمع الجزئي يثير شهيّة الثورة، وهامش الحرية يُغري دائمًا بتوسعته. لذلك يحرص قادة البلاد حاليًا على إغلاق المنافذ كافة ومصادرة الهوامش كلّها.

الكُتل المتضرّرة من السياسات الحاليّة أكثر اتساعًا وأهميّة من الروابط والمصالح التي بنتها البيروقراطيّة العسكريّة

نحن أمام سلطة تعرف جيدًا الباب الذي يُدْخِلُ الريح إليها. في المقابل، لا يعي خصوم تلك السلطة موقعهم من العالم، وليس لديهم أيّ تصور سياسي خارج نطاق الشكوى والمشاعر. يؤدي ذلك إلى جعل الحركة الدائرية على الفضاء الإلكتروني بمثابة مصب أخير لرد الفعل على الانهيار الزاحف على الجميع.

لكن يجبُ ألا يخدعنا الوضعُ نفسُه. فهناك طبقة وسطى كبيرة - برغم أنها متشظية وعاجزة سياسيًا - بدأت تشعر بأن الوضع الحالي يعمل ضد مصالحها ويهدّد مستقبلها.

ودرس يناير ذو أوجه كثيرة. وفي حالتنا، حين يفقد النظام الإجماع السياسي والأساس الإيديولوجي (الحرب على الإرهاب في حالة النظام القائم)، لا يكون أمامه سوى التورط في استفزاز الغالبية الصامتة، وجلب فئات غير مسيسة إلى الساحة السياسية. عندئذ، تكرّ بَكِرةُ الأزمة.

أيّ سيطرة؟

لديّ اعتقاد، وسأورد مبرّراته، بأنّ للأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد جانبًا مشرقًا. وللدلالة على ذلك، ومن أجل إنعاش الذاكرة، سأعود إلى أول طرح سياسي في الفضاء العام شهده عصر مبارك، وهو الخطاب السياسي لحركة "كفاية". ما الذي كانت تطمح إليه النخبة السياسية المعارضة لمبارك، والتي شكّلت معظم عناصر الوعي السياسي للجيل الحالي؟

كان تصوّر هذه النخبة وخطابها يدوران حول نقطتين:

أولّهما عزل رأس النظام شعبيًا وتشويهه، بهدف تسهيل تجميع أكبر قدر من المعارضين باختلاف توجهاتهم وتياراتهم ضدّه، ضمن استراتيجية الجبهات الوطنية (وهي استراتيجية موروثة عن السبعينيات، ويعود الفضل في إعادتها إلى الحياة إلى جيل السبعينيات نفسه، كما لاحظ أحمد التهامي عبد الحي في كتابة "الأجيال في السياسة المصريّة").

ثانيهما التحالفُ مع أحد أجنحة السلطة الحاكمة، بصفته الأبعد عن ممارسات الفساد والقهر بالمعنى المباشر، وهو الجيش، بحكم قدراته التنظيمية وإمكانياته السياسية. ولا يظنّنّ أحد أن احتفال القوى الثائرة في مصر بيوم 11 فبراير/شباط 2011 باعتباره يوم نجاح للثورة (في ظلّ تولي الجيش سلطة البلاد) كان حدثًا عفويًا.

فقد كان الطموح الأكبر لـ"جيل الجبهات"، وقد أورثوه لما يسمى بـ"التيار المدني" (وعصبُه الحيُ هم النشطاء الفيسبوكيّون الشبحيّون)، هو أن يصبح الجيش ضابطًا للإيقاع السياسي في البلد، ووصيًا على ديمقراطية إجرائيّة حتى لا تسقط ثمرة الحرية في حِجْر الإسلام السياسي. وكانت التجربة التركية في تحجيم الإسلاميين خير مُلهم.

ولم يؤدّ طول فترة صراع القوى المدنيّة مع الجيش في سنتي حكم المجلس العسكري إلى محو النزعة الدولتية غير المُدركة هذه. إذ كانت تخترق القوى الليبرالية واليسارية والناصرية حتى النخاع، وقد كشفت اللحظةُ الحاسمةُ في 3 يوليو 2013 عنها بوضوح: عبادةُ الدولة أبعد مما يَظهرُ على السطح.

لذا، فاللعبة السياسية في مصر كانت بحاجة إلى تجربتين: الأولى تتمثل بوصول الإسلام السياسي (أكبر قوّة سياسية في البلاد) إلى السلطة. فقد تسبّب ذلك بانكشافهم التاريخي، وحطّم أساطيرهم وبدّد جاذبيتهم. 

والثانية تتمثّل بالأزمة الاقتصادية التي يبدو أنها كفيلة بمحو الهالة التي لطالما أحاطت بالعسكريين. إذ اتضح للجميع (باستثناء الدوائر المؤيّدة للرئيس)، وبالملموس، أنهم أيضًا لا يملكون مشروعًا سياسيًا ولا برنامجًا، وأنّ القدرة على إنجاز المشروعات العقارية لا تعني القدرة على قيادة البلاد، خصوصًا بعد غرق مصر في دوامة مُهلكة من الديون، وما تلا ذلك من تجريدها من الأصول. هذا هو الجانب المشرق الذي أتحدّث عنه.

مؤكدٌ أن البيروقراطية العسكرية (الجناح القائد للطبقة الحاكمة) لا تعيش معزولة عن جسد المجتمع، وأنّها نسجت لنفسها شبكة من العلاقات واستقطبت إلى جانبها أفرادًا من الطبقات كافّة، وخلقَت روابط لا يمكنُ فكُّ عراها بسهولة. لكنّ المؤكّد أيضًا أنّ الكُتل المتضرّرة من السياسات الحالية أكثر اتساعًا وأهميّة من الروابط والمصالح التي ترتكز في معظمها في القطاع العقاري، والكفّة لا تميل في مصر أبدًا إلى خاسر.

أما الجانب الأكثر إشراقًا، فهو أن القوات المسلحة على وشك أن تكتشف أنّها ليست أكثر كفاءة من السّاسة المدنيين. وهذه هي الأسطورة الأهمّ في ما يخصّ المؤسسة المنقطعة عن تقلّبات الرأي العام ونيرانه التي تحرق الأوراق سريعًا. أما باقي الأساطير، فسيأتي لاحقًا أوانُها.