يوسف عبدلكي مؤرشفًا أحوال الفزع وفجيعة الفقدان

لن نجد خطًا فاصلًا، بين سيرة يوسف عبدلكي التشكيلية وسيرته الحياتية. هناك تمازج أصيل بين السيرتين، فهو لم يحد يومًا عن قناعاته الفكرية، كما إنه لم يساوم عليها، ولم يخذله قلم الفحم في هتك طبقات الجحيم، وألوان العار، وأرشيف العسف.

هذه المرّة، يتوغل يوسف عبدلكي في منطقة  السواد أكثر. أجواء كتيمة تهيمن على أعماله الجديدة التي تستضيفها هذه الأيام "غاليري كامل" في دمشق. كأنما فسحة الأمل الضيّقة التي كان يتكئ عليها تلاشت تدريجًا، لا لطخة بياض في جدارياته، زهور ذابلة في مذبحة عبثية، هناك من بترها من أعلى المزهرية بآلةٍ حادة.

نحاول أن نستنشق بعض الهواء، نخرج إلى  شرفة الصالة قليلًا،  لنختزن طاقة إضافية، لكننا سنفشل. نتجوّل ثانيةً بين كائناته: وجوه، وأسماك، وجماجم، وعصافير. وعلى الضفة الأخرى: سكاكين وسواطير ومسامير بأحجام تتفوّق على حجمها الحقيقي بمراحل.

هناك دعوة خفيّة لاكتشاف حجم الهلاك، والانتباه  إلى إنذار لطالما كرّره عبدلكي في أعماله السابقة: احذروا المذبحة، الفرق في الحجوم الضخمة فقط، إذ لم تعد اللوحة التي بحجمٍ أقلّ تفي بالغرض. لا يكتفي هذا الغرافيكي المتفرّد بتصدير بؤس عائلات من الأرامل المحزونات، إنما يبتر يد طفل يحاول احتضان كرة، ويفقأ عين طفل آخر، وفي عملٍ جداري، تقف عائلة بأجيال متتالية أمام جدار، كما في صورة تذكارية من أرشيف الفزع.

 

ثم سنتساءل: على من يهوي هذا الساطور الضخم بحجم مترين؟ وكيف تجمدت عينا ديك مذبوح؟ وما هو مصير كل هذه الأسماك قبل أن تخترق سكين أرضية اللوحة؟ ينبغي إذًا، أن نتتبع برنامجًا بصريًا لتفكيك هذه المتتاليات، ذلك أن التقشف اللوني يوازيه نوع من السرد المضمر بقصد اختزال أحوال البلاد تحت مطحنة الحرب، فهذه الأرواح رغم التلف الذي أصابها في العمق، لن تعدم نظرة تحدٍ خاطفة، حتى وهي تحت الصلب.

 

تحتل أحد جدران الصالة لوحة ضخمة لامرأة شامخة رغم آثار ثقوب الرصاص في قدميها ويديها، كما لو أنها صورة  بعدسة مكبّرة للبلاد التي تدعى سوريا. وسط السواد، سنلحظ لطخة بياض في أعلى الصدر، لعلها الشهيق الأخير في سجلّها القلق.

ثماني عشرة لوحة أخضعها عبدلكي لمشيئة قلم الفحم وحده، في رحلة ذهاب وإياب، وبطبقات وخطوط من الأسود والرمادي، مستغنيًا عن الألوان الأخرى جريًا على عادته، إذ يعمل قلم الفحم على تشريح فجيعة الفقدان، وتأريخ المذبحة، و تاليًا  إحصاء الخسائر الروحية المحققة. هل نحتاج إلى الأحمر مثلًا؟ ولكن مهلًا،  فالألم يقتل اللون، حسبما يقول إدواردو غاليانو، ولا نظن أن هناك وليمة للألم أكثر فجائعية من هذه. على الأرجح، سنجد هذا اللون تحت سطوح الأعمال كشاهد على جريمة أو مذبحة، سننسج وقائعها وفقًا لعمل هذه المتواليات، كما سنبتكر عنوانًا لهذا المعرض وفقًا لطريقة التلقي ونوع التحديقة، ذلك أن هذا المعرض اكتفى باسم صاحبه وحسب.

يعمل قلم الفحم على تشريح فجيعة الفقدان، وتأريخ المذبحة، و تاليًا  إحصاء الخسائر الروحية المحققة

وفي المقابل لن نقع على مناخات جديدة أو انعطافة حادة في عمل عبدلكي، أقلّه لجهة المفردات والموقف حيال التراجيديا السورية، فشفرة السكين أكثر ضراوة من تفتّح الزهرة، أو تقصّف جناح طائر، فههنا أرشيف للطعنات في المقام الأول، وجرس إنذار لموتٍ وشيك. ربما كانت مصادفة أن يواكب هذا المعرض هزيمة حزيران 1967، لكننا لن نعدم أسبابًا وجيهةً  في استعادة هذه الذكرى التي تشبه جرحًا مفتوحًا في ذاكرة هذا الجيل، وتالياً لا مناص من تشريح تاريخ الهزائم، وفضح التمزقات في الخرائط والأرواح، فنحن لن نجد خطًا فاصلًا، بين سيرة يوسف عبدلكي التشكيلية وسيرته الحياتية. هناك تمازج أصيل بين السيرتين، عنوانه العناد والنبل والنزاهة، فهو لم يحد يوماً عن قناعاته الفكرية، كما إنه لم يساوم عليها، ولم يخذله قلم الفحم في هتك طبقات الجحيم، وألوان العار، وأرشيف العسف، بوصفه "شاهدًا على الآلام، وربما مبشّرًا بواقع مختلف عن طريق رصده معاناة البشر ويقين منسوب الأمل في قلوبهم" يقول.

في مكانٍ ما، سنهتدي إلى نبرة عصيان، وروح متمرّدة، وعلى ضفةٍ أخرى، سنلتفت إلى مهارة تقنية متفرّدة تتمثل بتلك الضربات الشاقولية التي تحيل الطبيعة الميتة إلى أرواح متوثّبة، بدفق شعري يتسلل بمهابة من منطقة الظل، ذلك أن رهافة قلم الفحم، لا تتوقف عند بهجة الاكتشاف والرصد والمعاينة، إنما تحلّق عاليًا في إعادة الاعتبار إلى الفراغ، والمراهنة على إضاءة الكتلة المركزية بخطوط صارمة ومتقشفة، تمنحها بريقًا إضافيًا، وتكشف عن إيقاعاتها الداخلية. هكذا يزداد أرشيف الأسى قتامة وثقلًا، عملًا وراء الآخر، في جنّاز طويل، لعالم قائم على الفزع والتدمير المنهجي للداخل، بتحويله إلى مجرد هيكل عظمي.

 

كأن الفجيعة تتناسل من العتمة، عبر ضربات نزقة، في معالجات غرافيكية صارمة تنطوي على قدرة عالية في الإتقان والكثافة البصرية المكتنزة بالإشارات، رغم التقشف الظاهري للموجودات على السطح، فوراء هذه السكينة المراوغة، والموت المجلل بالصمت والعزلة والسخط، تكمن تراجيديا الألم، ذلك أن يوسف عبدلكي لا يغادر لوحته، قبل أن يطمئن إلى مصائر كائناته في عزلتها وجحيمها وتوقها للتنفس خارج هذا العالم الكتيم، العالم الذي وصفه الشاعر الفرنسي آلان جوفروا بقوله: "كل شيء يجري، كما لو أن يوسف عبدلكي يريد إعادة ابتكار العالم وحمايته إلى الأبد من الإهانة، من اللامبالاة، من النسيان".

بعبارةٍ أخيرة وحاسمة، يلخّص عبد لكي رؤيته النقدية واشتغالاته  المضادة، بقوله "متى فقد العمل الإبداعي، أو الثقافي، على وجه العموم، علاقته مع محيطه، يفقد شرعيته وجدواه".

حيدر حيدر: رحيل النورس المهاجر

بغياب حيدر حيدر، ينطفئ سراج آخر في الثقافة السورية، بعدما أرّخ لخسارات متتالية، وهو يرى أحوال التدهور و...

خليل صويلح
عذرًا قبيلة ميلان كونديرا!

كثيرون اكتفوا بذكر أحد عناوين روايات كونديرا كنوع من الاشتباك مع منجز هذا الروائي، من دون دفع فاتورة حقيق...

خليل صويلح
كافكا، تشيخوف، هايدغر، يتسللون إلى عناوين الروايات العربية!

ليست غاية المقالة الاحتجاج على خيارات الأدباء في دَمغ عنوان كتاب أدبي باسم أعجمي، لكنها تزعم أنّ الأمر في...

خليل صويلح

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة