رهاناتٌ خاسرة.. ماذا يحدث في بلد الجنرال؟ (2)

لن يسدد الخليج الفاتورة التي فتحها السيسي وتحالفه، بل يشترط تخلي الجيش عن إمبراطوريته الاقتصادية التي أسّسها بفضل نفوذه السياسي بعد 2013. هذه هي المعادلة التي علينا أن نفهمها اليوم.

على مدار 70 عامًا والقوات المسلحة المصرية هي الضامن الرئيسي لشرعية النظام، وعلى مدار عقدين ماضيين كانت النابض الأخير للسياسة في مصر. بعد "ثورة يوليو" 1952، اعتمد جمال عبد الناصر على الضباط لإحكام السيطرة على المؤسسات المدنية الاقتصادية والإدراية، خوفًا من الارتباطات السياسية القديمة للمدنيين ذوي النزوع "الوفدي" أو "الإخواني" أو "الشيوعي". لكن بمجرد ما استقرت السلطة الناصرية واستوت على عودها، تخلى ناصر عن ذلك المسعى وأعاد العسكريين إلى ثكناتهم.

كذلك فعل أنور السادات الذي عوّض غياب العسكريين عن الإدارة والحكم بالسيطرة على الأرض، وبالسماح بخلق جيب اقتصادي، قيل في الرواية الرسمية إنه يحمي الجيش من اللجوء إلى الورازات المختلفة لتموينه وقت الحرب، كما حدث خلال سنوات الصراع الحربي مع إسرائيل. لكن، في الواقع، كان ذلك تعويضًا عن المشاركة في السلطة. لذلك، فإن الحديث عن حكم العسكر منذ 52 مجرّد أسطورة ليبرالية.

وقد نما هذا الجيب جزئيًا في التسعينيات الهادرة بفعل مناخ الخصخصة الذي أتاح لرجال الأعمال والبيروقراطية المدنية العليا السطو على شركات الدولة الإنتاجية، وهو ما أثار غيرة الجيش، فعوّضه مبارك بتوظيف المتقاعدين العسكريين في قطاعات الدولة المهمة بالإضافة إلى الرقابة الإدراية والمحليات، بهدف ضمان الولاء والاغتناء الفردي، ومنحه بعض مشروعات البنية التحتية (يمكن الاستزادة من دراسة يزيد صائغ المهمة "أولياء الجمهورية").

لقمة لـ"الكاكي" بدلًا من القطاع الخاص

في تلك الأزمنة، كانت المؤسسة العسكرية المصرية معزولة عن تقلبات الرأي العام. وكانت جهةً مقدسةً بالمعنى الحَرفي للكلمة في عيون المصريين بحكم ابتعادها عن دوامة الصراعات اليومية على الاقتصاد والحكم، فتحوّلت إلى شريك صامت، وقاعدة لـ "الائتلاف الحاكم" المكوّن من: الرئاسة، أمن الدولة، المخابرات العامة، الشرطة، البيروقراطية المدنية، وأخيرًا الجيش، وهو ما حوّلها إلى محرّك أخير للسياسة.

بعد 2013، ومع توسع الاقتصاد العسكري بشكل أخطبوطي ليشمل القطاعات المدنية كافة، وبشكل افتراسي للقطاع العام والخاص، لم تكن الهيئات ولا الشركات العسكرية مؤهلة لإحداث نقلة في الاقتصاد الوطني. فعلى مدار العقود الفائتة، كان أداء الشركات والهيئات العسكرية مثلها مثل شركات القطاع العام تُحمّل خسائرها للميزانية العامة المموّلة من جيوب المواطنين، وتحوّل أرباحها إلى جيوب القادة، مع امتياز الاحتفاظ بالعملات الصعبة أو فتح حسابات دولارية في بنوك أجنبية في الداخل أو الخارج، ومع استغلال امتيازات الإعفاءات الجمركية في التوريد لصالح القطاعين العام والخاص.

لذا، فبعد أن جاءتهم الفرصة التاريخية بوصول السيسي إلى السلطة، انحبس العسكريون في دور المقاول الوسيط، والمُورّد الوسيط، وظل الاقتصاد العسكري غير مؤهل لإنتاج أيّ قيمة مضافة عالية في الاقتصاد، فاعتمد التوسع في مشروعات البنية التحتية الريعية، والمنافسة في القطاعات مضمونة الربح، ووصل الأمر إلى المنافسة في الأغذية المدرسية. وكل مساهمة وتوسّع من الاقتصاد العسكري كانت على حساب القطاع الخاص، وبالتالي، لم يضف أي شيء للاقتصاد، بل ساهمت التدخلات العسكرية في تشويهه بحكم الامتيازات العسكرية المتعلقة بالإعفاءات الضريبية والجمركية والعمالة المجانية من المجندين، وهو ما أدّى إلى انتفاء المنافسة.

دفع مبارك ثمن سياسة الافتراس، والآن دفعت هذه السياسة البلد إلى أزمة اقتصادية  قد تطيح بالنظام إذا لم يمدّ الخليج يد العون

قد يبدو الكلام عن المنافسة رأسماليًا، لكننا مجبرون على مسايرة خطاب الدولة في تأسيس رأسمالية خاصة، إذ إن معضلة الاقتصاد المصري تتمثل في أن الدولة تخلت عن دورها التنموي "شبه الاشتراكي"، وإسهامها في تراكم رأس المال الموجّه للتصنيع بحجة تأسيس اقتصاد سوق. لكنها فشلت في المهمة التي حددتها لنفسها كليًا. فهذا ليس اقتصاد سوق، بل "اقتصادًا أسيرًا" للنفوذ السياسي للعائلات الحاكمة المتعاقبة والدوائر المحيطة بهم، والشبكات القاعدية للعسكريين.

كل هذا أسفر عن عقد ضائع من تاريخ البلد، أبسط نظرة عليه توضح أن تدخلات المؤسسة العسكرية وتوابعها في الاقتصاد سحق قدرة الدولة على صياغة سياسة اقتصادية تتسم بالاتساق والتجانس والاستقلالية، بعد أن غدت أجهزة الدولة كافة خاضعة كليًا أمام النفوذ السياسي للعسكريين. وهو ما فتح باب الفساد على مصراعيه، في ظل تهميش النظام للجهاز المركزي للمحاسبات وتغليب الرقابة الإدارية عليه، وهي إقطاعية عسكرية بالمعنى الحرفي، كما بيّن يزيد صائغ في ورقته "جنرالات فوق الدولة".

وقد أنتج ذلك ما أسماه الباحث الاقتصادي عمرو عدلي في كتابه "الأصول السياسية للتنمية" بـ"الدولة المفترسة"، وهي الدولة التي لا تخدم سوى المصالح الخاصة للمجموعات المُهيمن عليها من الحُكام أو المقربين منهم، ولا ترمي إلى تحقيق أي تصوّر للصالح العام.

سياسات الافتراس هذه لا تمر عبثًا أبدًا في بلد مثل مصر، فقد دفع مبارك ونظامه والمقربين منه ثمنها، والآن دفعت هذه السياسة البلد إلى أزمة اقتصادية خانقة، قد تطيح بالنظام إذا لم يمدّ الخليج يد العون.

حتى نفهم المعادلة الجديدة

الخليج لن يسدد الفاتورة التي فتحها السيسي وتحالفه، بل يشترط تخلي الجيش عن إمبراطوريته الاقتصادية التي أسّسها بفضل نفوذه السياسي بعد 2013، كأداة حاسمة للرئيس السيسي، ودولته البديلة، على حساب مؤسسات الدولة الأخرى. فأنْ تأتيك الفرصة والموارد لتحديث قاعدتك الصناعية والإنتاجية وتضيّعها على مشروعات عقيمة لا تصلح لشيء إلا للتصوير والتباهي، هو أمر يوازي أن تضع رقبتك تحت رحمة كل منافسيك الإقليميين، ولن تجد نصيرًا من شعبٍ اتخذ قررًا جماعيًا بالاكتفاء بالفرجة على ما يفعله النظام بإنجازاته الوهمية وكوراثه الثقيلة.

فمعادلة من هذا النوع "رئيس + تحالف أمني"، كبديل لـ"نظام + تحالف اجتماعي"، معادلة جديدة كليًا على المصريين. والمجتمع عجز في البدء في استيعابها، ولا يزال في حالة من الصدمة من تداعياتها. إذ إن هامش القمع منذ تأسيس الجمهوية المصرية ارتبط بشراء رضاء قاعدة اجتماعية واسعة عبر التوظيف في الدولة وتوفير الدعم، أي خلق معارضة سلبية. وهي معادلة واضحة عنوانها "الخبز مقابل الحرية". لكن الوضع الحالي يقوم على سلب الاثنين معًا، وهو ما يتطلب بالضرورة حكمًا بالإرهاب.

لذا، فإن أي حديث عن انفراجة سياسية وحوار وطني وصفحة جديدة هو من قبيل الأماني، ويتناقض مع ميل النظام الطبيعي للإفراط في القمع. إذ حين أفرج النظام خلال اليومين الماضيين عن أحمد دومة و29 آخرين من المعتقلين السياسيين، اعتقل في الوقت نفسه 22 ناشطًا غير مشهورين، من دون ضجيج كالذي أثاره خروج دومة. هذا نظام أداته السجن، وقاعدته الخوف، وأكسجينه المِنح والقروض.

توريط البلد في أطنان من القروض الخارجية لم تكن نزوة شخصية للرئيس، بل ضرورة موضوعية لطبيعة نظامه الحاكم

لكن، قبل أن نُشغل أنفسنا بوسائل النظام في الحفاظ على استقراره؛ هل كان الرئيس والتحالف الأمني غافلين عن احتياجات الاقتصاد المصري وضرورات تطويره لصالح الغالبية؟

الإجابة هي نعم، ولا. نعم لأن الرئيس لا يزال يفتقر إلى نظرة شمولية للاقتصاد كبنية، ويرى فيه تجميعًا من المشروعات المنفصلة، كوبري هنا ومدينة جديدة هناك، وهي رؤية تشاركه فيها المؤسسة العسكرية التي تنفذ مشروعًا غذائيًا وتدير مشروعًا للنقل بغض النظر عن التكامل الاقتصادي.

كما أن الطرفين كانا يريان في المشروعات العقيمة الكبرى دافعًا للنمو الاقتصادي "الاسمي"، ووسيلة لتوفير فرص عمل لصغار شركات المقاولات ومئات الآلاف من العمال، وفق المنطق الكينزي البسيط "احفر حفرة واردمها"، فيتنشط الاقتصاد. وهذه حيلة محدودة الأجل. إذ، لاحقًا، لا بد أن يتأثر الاقتصاد بتكلفة الفرصة البديلة، أو غياب المشروعات الإنتاجية التي تَجنَّب النظام الشروع فيها لمصلحة مشروعات تنفيع المقاولين العسكريين وتوابعهم من المدنيين.

والإجابة هي أيضًا لا. فالنخبة الأمنية الحاكمة تدرك عبر توارث الحِكَم والمعارف الدولتية، أو ميراث وخلاصة القمع الطويل، أن بناء اقتصاد إنتاجي يتطلب إصلاحًا مؤسسيًا مرهقًا، وسن قوانين وبناء قواعد صارمة حاكمة للاقتصاد والمعاملات التجارية والمالية والأشغال العامة. وهذا الأمر يحرم المؤسسة العسكرية وتوابعها من حماية مصالحهم الخاصة، ويسلب الضباط المتقاعدين فرصتهم التاريخية في الإثراء على حساب المصالح العامة.

والأخطر أن الإصلاح المؤسسي وتحديث الصناعة يسفران دائمًا عن خلق منافسين سياسيين (لناحية تجميع المصالح الخاصة وتنظيمها واستقلالها عن الدولة، فضلًا عن وجود طبقة عاملة منظّمة بالتبعية)، وهؤلاء يشكلون خطرًا أكيدًا على نظام أمني يفتقر بالمطلق إلى الكفاءة السياسية والإدارية بل حتى الفنية.

باختصار، لم يكن هناك أي حافز سياسي لخلق اقتصاد إنتاجي، سواء في مجال التجارة أو التصنيع أو التصدير. ولم تضطر السلطة لفرض ضرائب حقيقية إلا بعد أن جفّ ضرع القروض، وكانت في مجملها ضرائب غير مباشرة تصيب القطاعات الواسعة من المواطنين. بينما لا تزال يد الدولة مشلولة عن الضرائب المباشرة على الدخل والثروة والممتلكات العقارية. فعلى حدّ تعبير العالم السياسي الراحل سامر سليمان: "الدولة الريعية تتحول بالتدريج وبثبات إلى دولة الجباية" (أي أن توريط البلد في تلك الأطنان من القروض الخارجية لم تكن نزوة شخصية للرئيس، بل ضرورة موضوعية لطبيعة نظامه الحاكم).

وقد ساهم الريع السياسي أيضًا في تغييب حافز الإصلاح المؤسسي. لذا، فإن جفاف الريع السياسي المتمثل في الدعم الخليجي المالي ليس نقمة، بل فرصة لتقويم المسار السياسي للبلاد. إذ إنّ الاعتماد الطويل على الريع الخارجي فصل إيرادات الدولة عن الأداء الاقتصادي الكلي. لكنها فرصة مؤجلة على أيّ حال، حتى يتبين خيط السيسي من خيط الجيش في الانتخابات القادمة.

كذلك أراح التحالفُ الأمنيُ النظامَ من توفير موارد للدولة تتطلب إصلاحًا مؤسسيًا بغرض التوسّع في الإنتاج والتصدير، وكسب التأييد الشعبي وضمان تماسك النظام. فلماذا ندفع في رضا الناس ونحن قادرون على إسكاتهم بالسجون والمعتقلات والمنافي؟

المهم أن بيع الجهاز الإنتاجي المحدود للدولة، بالإضافة إلى الأصول العقارية، خَلَقَ جديدًا في المعادلة المصرية، إذ أسفر عن تعزيز الدور الخليجي في الاقتصاد المصري. فقد حصلت السعودية والإمارات على 40 صفقة شرائية في عام 2022 فقط، بالإضافة إلى صفقات أقل أهمية لقطر. وهناك 32 شركة معروضة للبيع هذا العام ضمن قطاعات الخدمات المصرفية والمالية والصناعة والطاقة والاتصالات (والشركات المباعة والمطروحة للبيع من أكثر المؤسسات أهمية وربحية في البورصة المصرية).

الدور الخليجي المتنامي في الاقتصاد المصري سيترجم سياسيًا، على الأرجح، عبر شبكة المصالح التي تتكون حاليًا. فإذا كانت موجة خصخصة التسعينيات وبداية الألفية الثالثة أسفرت عن نخبة منظمة من رجال الأعمال شكلت حكومة أحمد نظيف في 2004، وإذ كان التوسع المثابر للجيب الاقتصادي العسكري أسفر عن سيطرة النخبة العسكرية على البلاد الآن، فإن النفوذ المتنامي للسعودية والإمارات يضيف عنصرًا جديدًا على المعادلة السياسية في البلد.

إذ لم تعد الدولتان تلاعبان مصر بورقة العمالة والودائع، بل أصبحتا تتحكمان في توقيت شراء الطروحات (أي تحسين المؤشرات المالية والتجارية)، أو العزوف عن الشراء (أي ترك السوق تعاني من شح الدولار). وفي الحالتين، يدفعُ هذا النظامَ إلى تبني سياسة اقتصادية بعينها، ويطبق كماشة على قدرته على المناورة.

في المحصلة، كان ينبغي أن تنتهي السلطوية العقيمة في مصر عام 2011، لولا حرص حكام معظم دول الخليج على إعادة بنائها، وهو أمر اتضح أنه لم يخدم أحدًا سوى مكونات هذه السلطوية.

لقد راهنت غالبية دول الخليج على الورقة الخاسرة في البلاد، وهي الآن تغسل أيديها من هذه الورقة بحياد تام، ورشاقة، مع رغبة أكيدة في التدخل بعد انهيار كل شيء، واستخدام الأدوات التي تستثمر فيها راهنًا.

(يمكن قراءة الجزء الأول من المقالة عبر الضغط هنا)

رهاناتٌ خاسرة.. ماذا يحدث في بلد الجنرال؟ (1)

من أجل كسب النخبة العسكرية إلى صف الرئيس السيسي، وبحكم افتقاره إلى الشرعية، كان لا بد له أن يفتح خزائن..

مهدي حسين

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة