هادي العلوي... اللَّقاحي لِكلِّ العُصور

كانت أفكار هادي العلوي تجد تطبيقها أوّل ما تجد، في منزله، وعلى نفسه. يمكن وصفه بأنه آخر الزهاد، وأشدّهم رفضًا وأكثرهم ثباتًا. كان نباتيًا، لا يأكل اللحوم ولا يقرب ما تنتجه الحيوانات، مكتفيًا بالقليل من المال والطعام والملبس، وكان يكره المُلْك...

لا يمكن فصل المفكر العراقي هادي العلوي عن الأدب، ولا يمكن فصله عن التاريخ، كما لا يمكن فصل أفكاره عن الحاضر. وجميع هذه المفاصل كانت ملعبًا أساسيًا لفكر هادي العلوي، ومقدمة لإعادة قراءته اليوم.

شكّل الأدب، بشكل خاص، الكثير من أفكار العلوي وساعده في تفسير أو فهم أفكار أو أطروحات أخرى، وذهب العلوي في الاستزادة من الشعر والآداب والتراث، حتى هوّن فهم الكثير من مغلقات الأدب، وفكّك الكثير من الملتبسات على القراء في كتب التراث.

أما التاريخ، فقد كان لهادي العلوي العنصر الذي يحتوي ذرات عدّة، ليتمكن المرء من خلالها من تشكيل رواية التاريخ الأيديولوجية، وإعادة سردها كقصّة يومية. يصبح التاريخ حكاية مصوّرة، تبدأ تسلسلها من معرفتنا بتاريخ ما قبل الإسلام، وصولًا إلى الحاضر الذي شكّل قلقًا للعلوي.

كان حاضر هادي العلوي يجعله قلقًا، بلا استكانة، بحسب ما يروي الشاعر العراقي مظفّر النواب، عندما يصفه.

في هذه المقالة، أحاول تحليل العناصر التي اعتمدها هادي العلوي لبناء أفكاره وطروحاته التي شكّلت تحوّلًا في إعادة قراءة التاريخ، والاستشهاد والإفادة من أدبه وأحداثه؛ وذلك بالنظر إلى زوايا جديدة لم تحظَ بالدرس والانتباه الكافيين.

المحل من الإعراب

ولد هادي العلوي عام 1932 في قرية العباسية ببغداد، التي تعرف اليوم باسم كرادة مريم، وسط مجتمع ريفي تسير حياته ببطء، ولا تثير أهتمامه الأفكار الدينية والسياسية، بحسب شقيقه حسن العلوي.

في الثامنة من عمره، بدأ العلوي التعلّق بالشِّعر، وأخذ يحفظ قصائد محمد مهدي الجواهري الثورية، آنذاك. وفي الرابعة عشرة، عثر العلوي على مكتبة جده، التي أهملها والده وأعمامه الأميون، بحسب وصفه. وعندها حنق على جدّه السيد خلف، الفقيه العالم، الذي لم يعلم أبناءه القراءة والكتابة، ولم يفكر حتّى بتوريثهم التفقه الذي فتن الحفيد هادي، وأشعل الغضب في نفسه.

كان حاضر هادي العلوي يجعله قلقًا، بلا استكانة، بحسب ما يروي الشاعر مظفّر النواب

تحوّلت كتب الجدّ إلى شيخٍ يُعلَّم الحفيد أصول الدين والفقه والتراث والأدب، وكان هذا الجزء الأوّل من تشكّل هادي العلوي الفكري، والذي سيغنيه، بعد ذلك، كثيرًا.

قرأ هادي العلوي الكتب الدينية والتراثية من وجهة نظر متديّن في البداية، وكان ينحو منحى التطرّف أحيانًا، إذ منع شقيقه حسن من سماع أغاني أم كلثوم، لأسباب فقهية.

وكان آنذاك قارئًا نهمًا. وعندما أخذ منحى الإلحاد، والاتجاه للفكر الماركسي، شكّل التراث الذي قرأه معينًا أساسيًا لديه لفهم الحاضر من خلال التاريخ، وبالاعتماد بشكل أساس على النظرية المادية الماركسية، وهكذا أخضع الطبقات الاقتصادية للتحليل بطريقة فريدة.

*   *   *   *

الصلاة اليومية إلى روح الكون

سلامٌ عليكِ أيّتُها الرّوحُ الساريةُ في وجودي،

أيّتُها النارُ الأبديةُ التي تتوقّدُ في صدري؛ فتحميه من برد النّسيان،

سلامٌ عليكِ أيّتُها الحروفُ العاليات..

ها أنا ذا أبدأُ يومًا جديدًا من صراعي ضدّ الأغيار الأربعة؛

مُستعيذًا بك من الخساساتِ الثلاثة، ومُستمدّا منك القُدرةَ على الاقتحام،

يا مُعيني على البلوى.. أعنّي على التّأويب في ديار الهمّ والغُربة.

الختام بركعة كونفوشية.

* ترتيلة هادي العلوي اليومية

*   *   *   *

العلوي بين طبقات الفكر

نشأت علاقة النخبة العربية مع التراث ومع الغرب من زاوية الفكر على ثلاثة خطوط، ينتمي العلوي إلى ثالث الثلاثة.

في الخطّ الأول، كانت العلاقة مع الغرب مرفوضة، فهي محكومة بمواجهة؛ لذلك حلّت سلفية كلاسيكية بديلًا عن الغرب الساقط من طرف المعادلة. والرفض يأتي بضغط دعوة أيديولوجية مُنكفئة إلى الأصول الأولى في صيغتها النصية، والوثوقية.

أما الخطّ الثاني، فقد كانت فيه العلاقة مع الغرب محجوجة، مبنية على تأثر وتبادل حَذِرَيْن، لكن ما تطوّر هو تقدم نموذج سلفية وسطية تتمسك بالتراث عُروةً وثقى من ناحية، وتتجرأ على خطابات التجديد، والانفتاح من ناحية أخرى، كسلفية الأفغاني وعبده.

كان الحب شاغلًا لهادي العلوي أيضًا

ينتمي العلوي، والحال هذه، إلى الخطّ الثالث، إذ العلاقة مع الغرب هي ثمرة مزاج علمي تبلورَ في الفكر الأوروبي الحديث؛ حيث باتت عملية استعارة المناهج لا تحمل معنى قدْحياً، وإنما هي استثمار للفكرِ بوصفهِ معطىً إنسانيًا عامًا.

"إن الاطلاع على مناهج المؤرخين الغربيين"، يقول العلوي، "فتح لنا كوة أتاحت لمؤرخينا المُعاصرين إنشاء نظرات جديدة أعادتهم إلى ابن خلدون".

ويرى هادي العلوي في كتابه "فصول من تاريخ الإسلام السياسي"، أن الانفتاح على الغرب يعود إلى بداية القرن التاسع عشر، ثم نضج مع القرن العشرين، وكان رائده الأكبر طه حسين.

تشكُّل هادي العلوي

برغم ذلك، فإن العلوي نتاج بيئتين وخلفيتيّن، الأولى محليّة تختصّ بالمحيط والأُسرة وتاريخها، والثانية تدخل في المعيش والاطلاع والتشكّل القرائي للتراث.

يتموضع العلوي، عراقيًا، في الحد الفاصل بين مزاجَيْنِ هُما حاصلُ طرح غمام التحوّلات التي شطرت الفضاء العام ونقلته من سَمْتِ الدولة الاجتماعية، إلى ضغط الدولة السياسية.

وعلى هذا الاعتبار، فإن العلوي قد ضَرّسَته التجارب الثقافية وعَرَكَتْهُ الشدائد الاجتماعية، في مُصادفاتها، ومُصادماتها، ومُكابداتها، وألقتْهُ وسط الطريق كائنًا سجاليًا، وقلمًا جامحًا يتأثر بمعطيات ومكونات الفكر النقدي المستجيبة لحزمة مسارات أهمها سيادة النقد اللغوي، وغلبة الطابع السجالي، والنزوع إلى الاحتفاء بالاتجاهات الاجتماعية الصاعدة برافعةِ ثقافةٍ مُشبعةٍ بالثورية، يُمكن تلمس ملامحها في عقدي الأربعينيات والخمسينيات.

وعربيًا، تنضح مرجعيات العلوي، من بواكير قراءة التراث التي مثّلت اندراجًا في مهمة ثورية، تواصل نضالًا أيديولوجيًا شاملًا يكون سياسيًا قائمًا على مواجهة المُستعمر، واجتماعيًا منتجًا لطاقةِ ذاتٍ عربية قادرة على تنفيذ اشتباك مُتكافئ مع ما يفتحه عليها الواقع من تحديات أو جبهات، وفكريًا أن يقوم قارئ التراث بإنتاج معرفة تفسيرية من خلال إطلاق أسئلة مراجعة تتحرك في الداخل العربي؛ للوقوف على كشف حساب نقدي لعوامل الضعف، والتخلف التي أوصلت الزمن الحضاري ما قبل النهضة إلى عصر الانحطاط.

بين حُبّين

برغم أن هادي العلوي راديكالي في مواضع كثيرة، ولا سيما بما يتعلّق بالسياسة والحريّة والعدل، وعصبيًا في حركته وكلماته ونظراته، إلا أنه "حنون" كما يصفه مظفر النواب، لا يعرف التعبير عن نفسه بطريقة يوصل الحب من خلالها.

كان الحب شاغلًا لهادي العلوي أيضًا، أو الحب الشرقي لسكان آسيا، والمحب الشرقي يرى حقيقته في محبوبته، فلا تكون موضوعًا لضدية؛ بل لندية.

والشرقي، عند العلوي، ممتليء بحب المجردات، كالقيم الفاضلة، والجمال الإنسي المُروحَن بروح النضال؛ من أجل الخلق، فيجد في نفسه سعادة يحسده عليها الملوك.

يقسم العلوي الحب الشرقي إلى قسمين، الأول: الحب العربي الجاهلي، والثاني: الحب الصيني القديم.

فالحب العربي ــــ عنده ــــ حب عذري في الجملة؛ إذ عاش العربي مغموسًا في الحب، والوجدان، والبكاء، فأنتج لنا غرة من المفردات الجميلة للحب ومتعلقاته؛  ويقدّر عدد هذه المفردات بنحو خمسين مفردة، وقد زادت مع تنامي ألسنة المحبين ولا سيما المتصوفة.

******

مفردات الحب الخمسون

على ألسنة المتصوفة والمحبين

 

"الحب، القلب، الوجد، النظر، الوصل، الدنو، البعاد، الهوى، الشوق، الفراق، الغربة، العشق، الضنى، الحَزَن، اللوم،  اللقاء، الهُيام، الوله، الحيرة، السكن، اللحظ، الفؤاد، السقم، المناجاة، الدموع، الحشاء، التيه، الجفاء، الخوف، البكاء، الهجر، البوح، العذاب، الطرف، الصب، القلق، الدنف، الملل، الإقصاء، العلة، النوح، الشكوى، الفداء، الوجع، الألم، الكرى، النوى، النحول، النوال، البث ".

*   *   *   *

مقابل قاموس المفردات في العربيّة، قلّت ألفاظ الحب في اللغات الأخرى كالكردية، والفرنسية، والانكليزية، بحسب العلوي.

وينتقل هادي العلوي داخل الأدب الصوفي وأشعاره، ويحلّل تطوّر مفرداته، إذ عاشت ألفاظ "الحب، والشوق، والعشق" واشتقاقاتها مع المتصوفة بين تخوم مُتقابلة، ومحاذير؛ لأنّ جواذبَ العلاقة التي تُقرّبُ أطرافها محمولة على معانٍ ذات مديات نِدّية إنْسيّة، لم يتجرأ المتصوفة على استخدامها في مواطن الرُّؤى السماوية. ومنذ عهد رابعة العدوية أخذ لفظا: "الحب، والمحبة" يشيعانِ في الأدب الصوفي على تعاقب طبقات المتصوفة وعصورهم، بينما الزهاد والمتصوفة الذين سبقوا ظهورها "180 هـ" لم يستعملوا لفظ "الحب" صريحاً في التعبير عن صلتهم بالله، وميلهم إليه، وإقبالهم عليه.

فمالك بن دينار "131هـ" لم يكن يستعمل في أقواله لفظ: "الحب"؛ بل كان يستعمل لفظ: "الشوق". بينما كان عبد الواحد بن زيد "177هـ" يُؤثِر لفظ: "العشق"، على لفظي: الحب والمحبة.

يميل العلوي إلى أن شعر الحب الصيني كالشعر العربي العذري؛ كلاهما يمتاز باللغة الصافية، والنغمة الباكية، واللوعة الحارقة، وقوامه الإخلاص، والوفاء، والصدق مع الحبيبة، فيه العفوية والبساطة في تصوير لواعج الحب وحرقته. وقد اختلف الحب العذري العربي، عن الحب الصيني في شدة البكائية ومرارتها؛ فالبكائية في الشعر العربي أخفُّ منها في الشعر الصيني؛ ذلك أن باعث البكاء العربي – بحسب العلوي - محكوم بالتَّرحُّل فأنتج البكاء الخفيف على الأطلال.

أما الشعر الصيني فهو الأقدم، ومحكوم بالحرب؛ فأنتج البكاء المرّ على زوجةٍ تُركت لمصيرها في وضع مأساوي أو على زوج مُجنّد في جبهة نائية لايؤمل رجوعه منها؛ فالشعر الصيني على هذا المنوال أحرُّ بكاءً وأمضُّ أوجاعا.

ويذكر العلوي أن العرب لم يُنتجوا مثل الشعر الصيني، في البكائية إلا إبّان الفتوحات الإسلامية، عندما جَمّر/حبسَ الأمويون الجند الفاتحين، في الثغور، ولم يأذنوا لهم في الإقفال إلى أهاليهم، وعاقبوا من يُقفل من التجمير، أو يهرب بالقتل والتسمير.

وهكذا، ناحَ الفرزدق، هارباً من الحجاج ؛ خوفَ القتل:

هل الناس إن فارقتُ هندا، وشفّني

فراقيَ هندا، تاركيَّ لما بيا؟!

إذا جاوزتْ دربَ المُجيزينَ، ناقتي            

فكاست، أبى الحجّاجُ إلا تنائيا

أترجو بنو مروان سمْعي وطاعتي

وخلفي تميم، والفلاةُ ورائيا؟

غير أن شعر التجمير قليلٌ ونادر؛ لعدم وجود شعراء كبار حصل لهم هذا التجمير؛ ولأن الرواة الذين رافقوا الجيوش، في تلك الفتوحات كان همهم تدوين الأحداث التاريخية، لا الأدب.

ماذا أراد العلوي من الأدب؟

انتظر العلوي من الأدب أن يكون محشوًّا بنزعة نضالية وليس تنهّدًا من تنهّدات التّبرجُز؛ فهناك واجبات تفرضها الصراعات الايديولوجية وتريد من الأديب ــــ مقابلها ــــ أن لا يكون واقعًا تحت ما سمّاه جان بول سارتر بـ"أدب التَّنصُّل"؛ فالعلوي يرى أن على المعرفة أن تكون لصيقةً بالمسؤولية ومُشرَعة على ميادين الاشتباك عندما سعى لإنتاج معرفة نضالية تلتقط من الأدب تمثلاتٍ تتواءَم مع كل ما يعمق جنوح البسالة الفردية صوب تَطلُّعاتها وآفاقها الحُلمية الراغبة في تكريس قيم الفضيلة بضراوة لا هوادةَ فيها.

ولتحقيق أصرة النضال، وضخّها في الواقع، يتعيّن وجود "مثقفين كونيين" بحسب اصطلاحه، وهم المشاعيون الفعليون، الذي أفرد لهم لوحة سمّاها "مدار النون" في كتابه "مدارات صوفية".

لكن العلوي، عندما حاول فهم وتفسير السلطة على المجتمعات العربية، نحت مصطلحًا سمّاه "الأدب اللقاحي"، و"اللَّقَاح" بفتح اللام، مدلول جاهلي كانَ يتردّدُ في الشعر والكلام العادي قبل الإسلام، ويُستعمَل لوصف الناس الذين لا يخضعون لسلطة، والذين لا يخضعون للسلطة نتيجةَ قرارٍ يتفقون على الدفاع عنه ضدّ احتمال فرض السلطة عليهم من مصدر خارجي أو داخلي.

نحت العلوي، عندما حاول فهم السلطة على المجتمعات العربية وتفسيرها، مصطلحًا سمّاه "الأدب اللقاحي"

تحوّلت اللَّقاحية بُغيةً للعلوي، إذ اعتبرها من أهم مُتبنيات الشاعر الجاهلي التي تَتَهاجَسُ عنده كمناطق تفكيرٍ ووعْي، حيثُ توفر نزعتها الثورية إِمْكاناً لنفسها تجتازُ به حدودَ وتقسيماتِ العصور الأدبية المتسلسلة المعروفة؛ لتكونَ اللَّقاحية في نشأتها ومآلاتِها أدباً لكلِّ العصور تحملُ مضامينها فكرة عدم الخضوع للسلطة؛ فهي مشغولةٌ على الدّوام بالتّمرُّدِ، والرّفض، والشراسة.

وتحتَ هذا المعنى لاحق هادي العلوي مرامي وتمثلات النزعات اللقاحية، في التاريخ، والأدب.

حدثت اللقاحية في قريش، حسب العلوي، عندما عارضت وصدّت الهيمنة الخارجية.

"إِنَّ رجلا من بني أسد أبلغَ قريشًا بقرار قيصر القسطنطينية بتتويجه عليهم ملكًا، ولوحَ هذا الأسدي بقوة البيزنطيين الداعمة له، وبقي على ذلك أياما حتى ضجّت منه قُريش فاتحدوا وأعلنوا موقفهم الموحد من فوق الكعبة، حيث نادى مُناديهم في الجموع التي حضرت لتشهد الإعلان: إِنَّ قُريشا لا تَمْلكُ ولا تُمَلَّك."

طبّق العلوي اللقاحية في "موارد من الأدب اللقاحي"، وقسمّها على نوعين، الأول: ما يردُ فيه لفظ "لقاح" واشتقاقاته صريحًا بَـيّـنًا، والثاني: ما لم يرد فيه، ولكنّ شواهده محملة بالإرث المعنوي للقاحية التي هي مُراده.

أنشدَ ابن الأعرابي:

لَعَمْرُ أَبيكَ، والأنباءُ تُنمي   

لَنِعْمَ الحيُّ في الجُلّى رياحُ

أَبَوْا دِينَ المُلوكِ، فهم لَقاحٌ  

إذا هِيجوا إلى حربٍ أشاحُوا

ومما لم يرد فيه لفظ: "لقاح"؛ ولكنه واقعٌ في سِنخِه وواديه، يُنشد حسان بن ثابت:

لَعَمْرُكَ ما المُعتَرُّ يأتي بلادَنا   

لِنَمْنَعَهُ بالضَّائِعِ المُتَهضَّمِ

وما السّيدُ الجبّار حين يُريدُنا   

بكَيْدٍ على أرماحنا بمُحَرّمِ

في "الأدب اللقاحي" أو في جلّ أعماله، أخذ هادي العلوي من التراث ما يتلاءم واستجراتيجية الكشف عن نقاط التمرد السياسية، والاجتماعية، والأدبية المُذابة في جرار "الثقافة المُروحنة" من منجز الحكمة الصينية، والمفضية إلى نموذج المشاعية الشرقية.

العلوي المتماثل تمامًا

كانت أفكار هادي العلوي الحادّة والثاقبة، تجد تطبيقها أوّل ما تجد، في منزله، وعلى نفسه. يمكن وصفه بأنه آخر الزهاد، وأشدّهم رفضًا وأكثرهم ثباتًا. كان نباتيًا، لا يأكل اللحوم ولا يقرب ما تنتجه الحيوانات، مكتفيا بأقل القليل من المال والطعام والملبس، ويكره المُلْك.

ما تملكُهُ يملككَ، كان يردّد.

لاحق العلوي الحساسية المثالية المعبرة عن النقاء، والرفض، وجشوبة العيش التي التمسها إلى النهاية، في زمان قيمي هجرَهُ الجميع، ووطّن نفسه لمواصلة الصراع ضد مُربَّعِ الأغيار "الحكام، والمثقفون، والرأسمالية، والاستعمار"، وحاول، أنى استطاع، إدانة خساسات "السلطة، والمال، والجنس".

في 27 أيلول 1998، رحل هادي العلوي، ليُدفن غريبًا في مقبرة الغرباء في دمشق، بعد أن عاش حياة متقشّفة، خصّصها للتفكير والكتابة، والبحث عن عالم أخلاقي يجوب سماواته طائر الموجدة والرفض الذي التحمَ أخيرًا بالعاصفة.

تُنشر هذه المقالة بالاتفاق مع موقع "جُمّار"