السجال الطائفي حول جنوب لبنان: عودٌ على بدء

برغم التبدّل الجذري في موازين القوى الطائفية بعد الحرب وصعود نجم "حزب الله" في التركيبة اللبنانية بعد 2005، ما زال ازدراء مظالم الأطراف متجذّرًا في روحيّة الدولة اللبنانية واتجاهها العام، ولو بشكلٍ أقل فداحةً مما كان عليه في القرن الماضي.

"أتوقّف عند حياة الفقيد الفاضل عقل هاشم، لقد عرفته رجل إيمان، وأبًا عطوفًا، وإنسانًا محبًّا للجميع، لقد غسل بدمه تراب هذه المنطقة. أتقدم، باسم صاحب الغبطة الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير، بأحر التعازي من حضرة اللواء الفاضل أنطوان لحد ورفاقه الجنود."

كانت هذه كلمات ممثّل البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير عام 2000 في مناسبة تشييع عقل هاشم، مساعد قائد "جيش لبنان الجنوبي" (المعروف بـ"جيش لحد"، المتحالف مع إسرائيل)، بعد اغتياله بقنبلةٍ زُرعت في مزرعته. تمثيلٌ ورثاءٌ رسميان من رأس الكنيسة المارونيّة أثارا ردود فعلٍ وأسئلةً متجددةً عن حقيقة وجود حدٍ أدنى من التّضامن بين الجماعات الطّائفيّة المكوّنة للكيان اللّبناني.

منذ 7 أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، وبعد إعادة تفعيل الحدود الجنوبيّة للمرّة الأولى منذ 17 عامًا عبر عملياتٍ عسكريةٍ محدودةٍ بين "حزب الله" والجيش الإسرائيلي، عادت هذه النّقاشات مرّةً جديدة لتطفو على السّطح، مرفقة بتجدّدِ الخلاف حول دور "حزب الله" المسلّح جنوبًا.

ارتبط السجال الأخير بضعف المتابعة السياسية والإعلامية لما يحصل في جنوب لبنان، من غاراتٍ جوية وقصفٍ مدفعي تسبّبا بأضرار بشرية ومادية كبيرة. وترافق مع بروز مطالب بإيلاء اهتمام إعلامي ورسمي أوسع بالحرب الدائرة هناك، وانتقادٍ لمظاهر الحياة الطبيعية في سائر المناطق اللبنانية، وهو أمر دفع إلى التساؤل حول ما إذا كان الجنوب يُعامَل فعلًا كجزء من الكيان اللبناني، أم أن تنامي الانقسامات السياسية ورسوخ الوضع "الاستثنائي" عسكريًا وسياسيًا فيه تحت سيطرة "حزب الله"، دفعا فئات كبيرة من اللبنانيين إلى تبني اعتباراتٍ ومعايير مختلفة لدى تقييمهم الظروف الأمنيّة والعسكريّة هناك.

هناك من يرى أن انخفاض مستوى التّضامن والاهتمام إنما يعكس ضغينة متراكمة حيال "حزب الله"، مردّها هيمنته على مفاصل الدولة اللبنانية وقرارات الحرب والسلم فيها، فضلًا عن أدائه على الصعيدين المحلي والإقليمي، بدءًا من أحداث 7 أيار/مايو 2008، مرورًا بدخوله مستنقع الحرب السورية بعد ثلاثة أعوام مساندًا النظام السوري، وصولًا إلى دوره في حماية البنية السياسية اللبنانية بعد تشرين الأول/أكتوبر 2019، إثر الانهيار الاقتصادي والنقدي وما رافق ذلك من هبات شعبية، وحملات تخوين مقابلة قادتها بعض نخب الحزب ضدّ فئات واسعة من المجتمع، قبل أن يَظهر الانقسام بشكل أكبر إثر قيادة "حزب الله" عملية إفشال المسار القضائي المتعلّق بانفجار مرفأ بيروت، وكلها أمور رافقها خطاب عبّر بشكل أو بآخر عن فائض قوة أُسيء استعماله بشدة.

لقد زادت هذه العوامل من حجم الهوّة التي تفصلُ بين المكونات الطائفيّة للبلد، وعزّزت النزعة "الانعزالية" لدى بعض هذه المكوّنات، حتى باتت قوى وازنة فيها تطالب اليوم صراحةً ـــ أو تكرّر مطالبها ـــ بإحياء الفيدراليّة.

فهل يصحّ إدراج ما هو حاصل اليوم في خانة رد الفعل المتصل بالسياقات السياسية المذكورة؟ أم أنّ أصل هذا التّباين أكثر عمقًا وتركيبًا بالمعنيين التاريخي والاجتماعي؟

استعمال "حزب الله" سرديّة المظلوميّة التاريخيّة عند كل منعطفٍ لتبرير سلوك ما، أدّى إلى ابتذال هذه السردية، لكن لا يمكنُ اختصار المشكلة بهذا الابتذال

في مقابل إدراج الأمر في سياق ردّ الفعل، هناك وجهة نظر أكثر تاريخيّة، لا تتناول الموضوع من زاوية تناقض الجنوب/لبنان، بل من زاوية أوسع هي إشكالية المركز/الأطراف التي كثيرًا ما تم تناولها للحديث عن غياب التوازن في العلاقة بين نواة الدولة اللبنانية (أي العاصمة بيروت وجبل لبنان)، وبين الأطراف متمثلةً بالجنوب والشمال والبقاع.

يرى أصحاب هذه المحاججة أن مستوى التفاعل الإعلامي والشعبي مع ما يحصل اليوم في الجنوب، مردّه استمرار غياب التوازن ذاك، كما أنه لأسبابٍ سياسية واقتصادية معروفة، ولأسبابٍ أخرى تتعلق بموازين القوى الطائفية التي عليها تأسس الكيان اللبناني في العقود الأولى من القرن العشرين (أي هيمنة "البرجوازية المسيحية" التجاريّة/المالية على الدولة اللبنانية)، فإنّ القوى الّتي تَشَكَّلَ منها المركز كانت قادرة على تحديد أولويّات الدولة اللبنانيّة وأجهزتها، وترتيبها وفق مصالحها. أي أن الإهمال الاقتصادي والاجتماعي والإنمائي الّذي عانت منه الأطراف لعقود منذ الاستقلال وصولًا إلى الحرب الأهلية، انسحب على الجانب الأمني والعسكري فيها، وأزاح معاناة أهالي الجنوب اللبناني من العدوانية الإسرائيلية التي بدأت منذ لحظة إنشاء الكيان الاسرائيلي عن سُلّم أولويّات الحكومات اللبنانية المتعاقبة. وقد عزّز هذا الإهمال الانقسام حول القضية الفلسطينية والموقف من دولة "إسرائيل"، والخلاف حول طبيعة انتماء لبنان.

كما ينطوي هذا الرأي على محاججة مفادها أن الاعتداءات الاسرائيلية سابقة على هيمنة "حزب الله" على الجنوب، بل حتى على تأسيسه عام 1982، بدءًا من احتلال القرى السبع مرورًا بسلسلة الاعتداءات المتقطّعة على الجنوب وصولًا إلى "عمليّة الليطاني" التي احتلت إثرها إسرائيل جزءًا من جنوب لبنان عام 1978، وهي اعتداءات قوبلت بعجز الدولة اللبنانية عن الدفاع عن حدودها الجنوبية، وصل إلى حدّ اللامبالاة بل تواطؤ مكونات وازنة في الدولة اللبنانيّة مع إسرائيل في سنوات الحرب الأهلية، خصوصًا خلال اجتياح عام 1982.

ويرى أصحاب هذا الرّأي أنّه برغم التبدّل الجذري في موازين القوى الطائفية بعد الحرب و"اتفاق الطائف" وصعود نجم "حزب الله" في التركيبة اللبنانية بعد 2005، والذي أوصله إلى موقعٍ مُهمين فيها، وبرغم تبدّل التركيبة الطائفية لجزء كبير من مناطق المركز (خصوصًا العاصمة بيروت)، فإنّ هذا الازدراء لمظالم الأطراف ما زال متجذّرًا في روحيّة الدولة اللبنانية واتجاهها العام، ولو بشكلٍ أقل فداحةً مما كان عليه في القرن الماضي. إذ لطالما أخذت الدماء التي تسيل في شوارع بيروت ضجةً أكبر من تلك السائلة إثر غارةٍ اسرائيليةٍ جنوبًا، أو من غرقى عبّارة هجرة غير نظامية شمالًا.

لا شكّ أن تدهور الوضع السياسي والأمني في لبنان بعد عام 2005 ساهم في تراجع التضامن الوطني، وأن سلوك "حزب الله" وخطابه لعبا دورًا في مضاعفة الهواجس القائمة لدى "المكوّنات" الأخرى، كما أنّ استعمال الحزب سرديّة المظلوميّة التاريخيّة عند كل منعطفٍ أو فعل احتاج لتبرير سلوك ما، أدّى إلى ابتذال هذه السردية إلى درجةٍ دفعت البعض إلى إنكارِ وجودها أصلًا، أو إلى اعتبار أنّ "حزب الله" بالغ في تصوير آثارها بغرض توظيفها سياسيًا اليوم.

نعود إلى التأبين البطريركي للعميل هاشم، والذي جاء قبل أشهرٍ قليلة من تحرير جنوب لبنان عام 2000، في وقتٍ لم يمتلك فيه "حزب الله" الغلبة السياسية ولا السيطرة الأمنية التي تمتّع بها في السنوات اللاحقة، وذلك لنطرح سؤالًا مركزيًا: ما الذي يعنيه أن يتجاهل رأس جماعة طائفية رئيسيّة في البلد معاناة فئة واسعة من اللبنانيين من بطش "جيش لحد" في المعتقلات وعلى الحواجز في القرى الجنوبية؟ ألا يفيد ذلك بأن الضغائن بين "الجماعات الطائفية" اللبنانية لها سياقات تاريخية وسياسية طويلة، ويصعب حصرها في خانة ردّ الفعل، وفكّها عن الديناميّات الطائفية الحاضرة منذ عقود في العلاقات بين مناطق لبنان وطوائفه؟