بعد خروج منظمات الثورة الفلسطينية من لبنان، خريف 1982، عاد إلى القاهرة مثقفون وفنانون مصريون ارتبطوا بمؤسسات "منظمة التحرير الفلسطينية" أو عملوا فيها. نُظّمت ندوة لأحدهم ليُدلي بشهادته حول فترة الاجتياح الإسرائيلي وحصار بيروت. ولأن غالبية حضور اللقاء كانوا من الأطفال، حكى يومها عن طفل فلسطيني نموذجي، أدخل رأسه الصغير في فوهة مدفع دبابة إسرائيلية كي تنفجر القذيفة به، بدلًا من انفجارها بمجموعة من الفدائيين.
كنت حاضرًا ذاك اللقاء. وكان عمري تسعة أعوام. لم أنسَ تلك القصة التي لم ألتفت حينذاك لاستحالة حدوثها، وإن كنت افترض الآن أن خيالي، الذي اعتاد على إعادة تشكيل بعض الوقائع الحقيقية وتعديلها، ربما أدخل على القصة بعض التعديلات دون المساس بجوهرها. وتمثّل ذلك، بالتأكيد، بتضحية الطفل/الفدائي الفلسطيني الصغير بنفسه من أجل قضية شعبه، في فعل بطولة مطلقة.
نكبر، وندرك أن الأساطير التي تُحكى لنا مجرد أساطير. لكنّ هذا النوع تحديدًا لم يكن عن بطل يطير محلقًا على متن سجادة سحرية صغيرة، ليجوب البلاد، فاعلًا الخير ومنقذًا الضعفاء. بل كان أسطورة مرتبطة بواقع مباشر وحقيقي. تركَت هذه القصة، من دون شك، تأثيرها عليّ وعلى الأطفال الذين استمعوا إليها.
ظل تأثيرها مخبأ في مكان غامض من وجداننا، عنوانه العريض "بطولة الفلسطينيين المطلقة". جعلَتنا نتمنى لو كنا وُلدنا فلسطينيين، كي نعيش واقعهم المتخيل، وكي نكون أبطالًا.
العدو يصنع أسطورتك
هذا اليقين الداخلي الغامض بالبطولة الرومانسية الفلسطينية، دفعني بعد عقدين من تاريخ هذه الندوة للذهاب إلى بيروت، لإنتاج فيلم يبحث عما تبقى من الأسطورة اللبنانية/الفلسطينية، لا لأبحث عن أثر هذا الطفل الذي قرر أن تنفجر فيه قذيفة الدبابة، بل عن جوانب أخرى، أكثر معقولية، من أسطورة بيروت المتعلقة بالفلسطينيين واليسار اللبناني، والثورة والثقافة والتحرر.
في سياق التحضير لهذا الفيلم، شاهدت مرات عدة سلسلة من الأفلام التسجيلية أنتجتها قناة "الجزيرة" عام 2001 بعنوان "حرب لبنان"، لأكتشف أن اختراع الأساطير لم يكن حكرًا على أنصار الثورة الفلسطينية. بل شارك في ذلك خصومهم وأعداؤهم أيضًا. في السلسلة التسجيلية مقاتلٌ "كتائبي" سابق، لا تُظهر الكاميرا وجهه، يُدلي بشهادته حول المشاركة في الحرب الأهلية اللبنانية. قال إن المقاتل الفلسطيني من نوع فريد، له قدرات خاصة، يحمل البندقية بشجاعة بالغة، ولا يهتم بإخفاء جسده وحمايته. يركض باتجاه عدوه، فيطلق العدو عليه الرصاص ويصيبه. لكن المقاتل الفلسطيني لا يسقط، بل يتابع تقدّمه أمتارًا عديدة.
هذه القصة تفتقد إلى المنطق بدورها. وكأن الإيمان بالقضية يُنتج نوعًا خاصًا من الشجاعة. وكلاهما، الإيمان والشجاعة، يدفعان الفدائي إلى الإحجام عن حماية جسده في عزّ مواجهة مسلحة. وهو ما أتصور أنه شيء طبيعي باستثناء لحظات اليأس من النجاة. كذلك فإن الشجاعة والإيمان تمنحان قوة مادية تناقض الحقائق العلمية؛ فالفدائي يُصاب في مقتل، لكنه يستمر في التقدم... لأنه مؤمن بقضيته!
في المقابل، فإن الفنان الإسرائيلي يمزج بين القصتين ليخلق صورة لعدوه الصغير. إذ في أحد مشاهد "فالس مع بشير" (2008)، لأري فولمان، يظهر طفل فلسطيني من بين الأشجار، ليواجه بمفرده كتيبة إسرائيلية، حاملًا على كتفه قاذفة "آر بي جي". صحيح أن الطفل لا يتقدم سوى لأمتار قليلة قبل أن يسقط، لكنه يطلق القذيفة، من سلاح قد يزن أكثر من وزنه، فيكون نصيبه الرصاص والموت. وفي الفيلم هذا، طفل اختار أو أُجبر ـــــ لا ندري ـــــ أن يكون بطلًا. بطلًا لنا، وعدوًا للمخرج الإسرائيلي.
متحف الموت الرومانسي
زرت عام 2008 المتحف اليهودي في برلين، المخصص أساسًا للمحرقة. في المتحف غرفة مصممة لتكون معادلًا لغرف الغاز، قائمة على أضلاع عدّة، سقفها شديد الارتفاع، وأتذكر أنها كانت رمادية تمامًا. يتم تنبيه زوار الغرفة قبل دخولها بضرورة عدم التحدث داخلها، وعدم التقاط الصور، احترامًا لمن ماتوا حرقًا في مكان مشابه.
لم تكن قد بدأت يومذاك موضة "السيلفي". بل إن غالبيتنا لم تكن تملك هواتف مجهزة بكاميرات. بعد دخول الغرفة وإغلاق الباب، يتحرك الزائر خطوات قليلة داخلها ليشعر بالضيق، وربما ببعض الاختناق الذي يصاحبه شعور بالبرد، ثمّ يخرج منها.
سمى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات شعبه "شعب الجبارين"، وهنا يندمج المتحف الأول بالثاني؛ متحف البطولة ومتحف الموت
يفرض المسؤولون عن المتحف اليهودي الرهبة على زواره برغم أنه ليس مكان المحرقة حقًا، بل بديلًا عنه، يمثلّه. هكذا نكون أمام سياحة رمزية لتاريخ الموت. وكان ذلك قبل موضة زيارة متحف الموت مباشرة. ذاك النوع الذي وصل إلى ذروته مع انفجار الغواصة "تيتان" في صيف 2023، بعدما دفع كل من ركابها الأثرياء الخمسة، 250 ألف دولار، لمجرد الاقتراب من متحف الموت التاريخي الغارق في أعماق الأطلسي؛ الباخرة تيتانيك، حيث غرقت مطلع القرن العشرين مع 1500 من ركابها.
إن كانت رحلة الغواصة تيتان، التي انتهت بموت ركابها، هي ذروة سياحة الموت، فقد سبقتها الزيارات السياحية المنظمة لمتاحف مأساوية أخرى، كزيارة موقع الكارثة النووية تشيرنوبل، حيث يطأ الزائر بيوت أشخاص ماتوا، أو رُحّلوا عن المنطقة، وتُلتقط له صور بحانب أطباق طعام لأشخاص لم يتمكنوا من إتمامها. أو معسكر "أوشفيتز"، الذي يتيح للسائح ركوب قطار كان يحمل على متنه مئات الآلاف من البشر ويوصلهم إلى حتفهم، فيلتقط السائح صور السيلفي مبتسمًا، ليريه لأصدقاء وأهله في هذا المكان "الإكزوتيك".
ومنذ أعوام قليلة نُظمت رحلات سياحية إلى الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة، تتضمن مرورًا ببعض المناطق الخطرة التي عرّج عليها المهاجرون قبل بلوغهم الحدود، حيث عصابات الجريمة المنظمة، والشرطة الفاسدة، وحرس الحدود.
ولكي يستمتع الزائر أكثر، يتعرّض لمطاردات تمثيلية، ويتم القبض عليه، ويُجبر على الركوع والاستلقاء على بطنه، وتُقيد يداه من الخلف. وهناك من يصوّرون ذلك كله في فيديوهات تذكارية، يتم تضمينها في تكلفة الرحلة، ويستمتع السياح بتجربة معاناة مزيّفة بديلة عن معاناة الملايين الحقيقية، في مغامرة موت تأتي في سياق السعي إلى عيش حياة أفضل.
نحو نصب تذكاري للفلسطينيين
سمى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات شعبه "شعب الجبارين". التسمية نفسها تنطوي على مضمون أسطوري. وهذا المضمون مضاعف حين يزيد عليه عرفات جملته الأخرى؛ "يا وحدنا". وكلا الوصفين لا ينفصلان عن هذه الصورة المُروجة للشعب الوحيد، القادر على احتمال كل شيء، والاستمرار في المقاومة والنضال. هنا يندمج المتحف الأول بالثاني؛ متحف البطولة ومتحف الموت.
لابد أن البيروتيين يعرفون جيدًا أولئك السياح الذين يقفون مذهولين أمام بيوت تحمل آثار الحرب الأهلية، أو أمام مرفأ المدينة المدمّر، أو عند خط التماس القديم الفاصل بين شطري العاصمة، وغير ذلك، ليلتقطوا الصور.
يعرفون كذلك عن زيارات العرب المتعاطفين مع القضية الفلسطينية لمخيم شاتيلا، والتقاطهم الصور هناك، بغرض القول "كنا هنا... أتينا نشهد على ما بقي بعد المذبحة... عرفنا هذه الأزقة الضيقة...". بينما المخيم نفسه، دون نفي مآسيه المتتالية، يشبه الآلاف من الأحياء الفقيرة والمهمشة في مدننا العربية كلها. وأطفاله يلعبون في الشوارع، وهم لم يحملوا "الآر بي جي" ولا يضعون رؤوسهم في فوهات المدافع.
لا أستطيع تكوين صورة متخيلة لغزة الآن، أو صورة متخيلة لمن قابلتهم، ودخلت بيوتهم، ولا أعلم إن كانوا مازالوا أحياء
وصناعة متحف الأسطورة الفلسطيني لها جانب يختلف عن متاحف البطولة والموت الأخرى. ذاك أن الزائر، المتضامن والمنحاز للحق الفلسطيني، يشعر بنوع من الراحة ولو النسبية، والاطمئنان إلى أن شعب الجبارين عصي على الهزيمة أو الفناء. ينهض بعد كل كارثة أو محرقة جديدة من بين الرماد، ويطبّب جراحه، ليستكمل مساره كـ"جبار وحيد". وهو قادر على الوصول للحرية، حتى إن لم نفعل نحن أي شيء.
زرت غزة أيامًا عدة للعمل عام 2006، تحدوني دوافع شبيهة بدوافع زيارة بيروت. تحرّكت في القطاع بين مخيماته كلها. أعرف شارع صلاح الدين، ومخيم الشاطئ، والنصيرات، وخان يونس، ورفح، وميناء غزة، وفنادق مدينة غزة التي بُنيت بعد أوسلو أمام البحر.. وغيرها. لكنّي لا أستطيع تكوين صورة متخيلة، أيًا كانت ملامحها، لغزة الآن، أو صورة متخيلة لمن قابلتهم، ودخلت بيوتهم، ولا أعلم إن كانوا مازالوا أحياء.
تحتاج سياحة الموت والبطولة للأسطورة. بُنيت هذه الأسطورة فعلًا لدى إطلاق تسمية "شعب الجبارين"، وبعدها، وصولًا إلى يومنا هذا، حيث المقاومة التي لا تُقهر. ولأن بيروت ومخيماتها عرفَت هذه السياحة بعد حصار واجتياح ومجازر 1982، يصبح من الطبيعي أن يتشكل لدي سؤال جديد: هل أذهب كي أستعيد صورة غزة الضائعة؟ ومن منا سيذهب إلى غزة مستقبلًا، إن تحولت لمتحف رمزي للبطولة وللموت؟ لا إجابة.
بعيدًا عن الفكرة الفلسفية التي تفيد بأن المتحف، أي متحف، هو إعلان ضمني لموت مقتنياته، بعزلها عن بيئتها الطبيعية والحية، وبعيدًا عن حقيقة أن متحف البطولة الفلسطينية بُني فعليًا منذ 1948، وزواره وجدانيًا كثُر، يمكن لنا افتراض أن متحف الموت الغزاوي قد ينجو من النجاح التجاري، وذلك نتيجة عامل ضعف أساسي؛ فقره، وعشوائيته، وافتقاده للأناقة، للأبهة، لـ"الغلامور".
ففي النهاية غزة ليست بيروت، بكل تاريخها وجغرافيتها المثيرة. وليست مكان غرق العبارة تيتانيك بكل فخامتها وقصص الحب والإغواء المرتبطة بها، وليست منطقة تشيرنوبل التي تحوّل انفجار مفاعلها إلى إشارة تاريخية لبداية زمن وعالم جديدين، مع انهيار العملاق السوفيتي. غزة مجرد فلسطينيين فقراء، ولاجئين، يُقتلون فقط.