تان تان في عصر الغافام

ماذا لو ظهر تان تان، الشخصية التي تُعد من أبرز وجوه القرن العشرين الخيالية، في عصر البيانات الضخمة، والتحكم في الخوارزميات التي تُفرز المعلومات، والتأثير على الرأي العام عبر منصات التواصل الاجتماعي؟

"تان تان"، الشخصية التي ابتدعها الرسام والكاتب البلجيكي جورج ريمي المشتهر باسمه الفني إيرجي، هو إلى حد كبير واحد من أبرز وجوه القرن العشرين الخيالية. 

لم تكن "مغامرات تان تان" منزهة عن جملة تصورات اثنو ــــ مركزية وأغراض أيديولوجية ودعائية.  

قوتها كمنت في تلبيسها الأيديولوجيا لباس البراءة، والفكاهة، والبداهة، بالاعتماد على الرسوم النقية التي تخفي التوترات الرمزية.

هكذا استطاعت تمرير المركزية الأوروبية وتسويغ الحقبة الاستتعمارية، بسلاسة، من دون تصادمية. بما أن المغامرات كانت موجهة نظريًا للأطفال، فقد دمجت ذلك في قالب يقضي بالتعامل مع "الآخر"؛ السكان الأصليين، أهل الكونغو، الآسيويين، اللاتينيين، كأطفال أبدًا.

الآخر غير الأوروبي في "مغامرات تان تان" كان إلى حد كبير إما ضحية تحتاج لمن ينقذها أو مجرم مخادع.

مع أنّ نظرة الكاتب ــــ الرسام إيرجي تطورت مع الوقت، ومالت للتفلت من القالب التمجيدي للسردية الاستعمارية "التحضيرية" و"الترشيدية" لأبناء المستعمرات التي طبعت البدايات، ما جعل بطله "تان تان" يغادر، إلى حدا ما، دور "المبشّر الأبيض"، ويحاول الاستماع بجدية أكثر لأبناء الشعوب التي يصادفها في مغامراته عبر العالم. 

أما الرأسمالية، فيبدو أن إيرجيه أكثر ما كان يستثيره نموذج الرأسمالي "العابر للبلدان" من الرأسماليين، كرستابوبولوس الثري الخبيث، المتورط في تجارة البشر وتهريب الممنوعات. يظهر في البداية، كمنتج أفلام، وسرعان ما يُماط اللثام عن وجهه الحقيقي، كزعيم لمافيا إجرامية دولية. 

ما كان تان تان معنيًا بمقاومة الرأسمالية، وإنما بمواجهة ما يمكن تسميته "رأسمالية الجريمة"، وتعقب أشرار منخرطين في شبكات عابرة للقارات. وثمة نقد كثير وجه لإيرجيه في هذا المجال، يرتبط بإيحاء الانتماء اليهودي للشخصيات الشريرة التي تناولها في أولى أعماله، وقد عمل لاحقًا على تشذيبها وحذف كل ما يوحي بهذه الإحالة. 

كان "تان تان" في المقابل أكثر حماسة ضد الشيوعية في أول قصصه، "تان تان في بلاد السوفيات"، التي صدرت أول مرة عام 1929، للتشهير بشكل ساخر بالبلشفية على أنها نظام قمعي، دموي، مبني على الأكاذيب والإجرام لا شيء غير. قصة مكتوبة بروحية الحرب الباردة قبل الحرب الباردة، ومليئة بالمطاردات والخدع الهروبية، من دون جهد حقيقي لرسم أبعاد الشخصيات. استند إيرجي وقتها الى كتيب دعائي تحت عنوان "بلاد السوفييت كما هي" لكاهن يميني متطرف. المفارقة في المقابل أنه، في زمن الحرب الباردة نفسها، لن نجد في مغامرات تان تان مثل هذا. 

لم يعد اللاوعي يرتكز بشكل أساسي على الكبت وتداعياته، بل على الإفراط في التعبير

سيجري انتقاد النظم الشمالية، إنما بابتداع دول خيالية، كسيلدافيا، التي تحاكي النموذج المعمول به في بلدان أوروبا الشرقية آنذاك، وبوردوريا، كنموذج لنظام ملكي سلطويّ أوروبي. لكن تان تان لم يتخل عن خلفيته المحافظة. نجده مثلًا في "رحلة الى سيدني" 1968 و"البيكاروس" 1976 يسخر من الأنظمة الثورية، كما من الإنقلابات العسكرية.

ما صنع أسطورة تان تان هو ما تتضمنته هذه السلسلة من علاقة مغامرة مع العالم، لكن أيضًا ربطه الصحافة بحس المغامرة. ارتبط هذا الحس في هذه السلسلة بالعمل الدؤوب لكشف المؤامرات، والبحث عن الحقيقة. المفارقة أن تان تان نادرًا ما يظهر وهو يكتب مقالات وتقارير، بل إن دوره أقرب ما يكون إلى الاستقصائي، بل المحقق، والبطل الأخلاقي الهادئ والحازم، يصاحبه كلبه الأبيض، ميلو، وتتوازن شخصيًا تان تان كع شخصية صديقه الكابيتان هادوك، القبطان السريع الغضب والأرعن في أحيان كثيرة.

لا ينتمي تان تان إلى زماننا هذا. في عصر تان تان كان العالم ما يزال يُكتشف، تُرسم خرائطه، تُعاد تسميته. الحدود السياسية غير مستقرة، المستعمرات في حالة غليان، والصحفي المغامر هو من يغامر بجسده ليكشف الحقيقة وسط الغموض والاضطراب. هل انتهى اليوم زمن المغامرة؟ أم أنها لم تعد تجوب البحار والصحاري وتتوغل في الغابات بل بت تجدها في الخوارزميات والسرفيرات والميتاداتا؟ السفر عبر العالم صار أقل خطورة من عصر تان تان، لكن في عصر "الغافام"، السفر رقميًا يكون أو لا يكون، حتى عندما يصاحبه انتقال في المكان، فإنّ ما يميزه السفر في الزمن الرقمي. الشركات الضخمة تسيطر على البنية التحتية الرقمية العالمية، وأكثر فأكثر على شتى جوانب المعاش عبر العالم. تتوارى فكرة "الخصوصية" لصالح "الشفافية المفروضة". نقراتك وتفاصيل حياتك تُخزن، رغباتك تُستثمر، سلوكياتك تُبرمج، الأخبار حيثما كان تُفلتر، وتُوجّه بحسب ما تقرره الخوارزميات. أما الصحافي فتحت تأثير الـ"ترند"، يقيس وقع عباراته عبر عدد الإعجابات. في عصر تان تان (1929–1970):

كانت الرأسمالية لا تزال تركّز ـــ إلى جانب استثمار العمل ـــ على خامات طبيعية: الذهب (Le Trésor de Rackham le Rouge)؛ اليورانيوم (Objectif Lune)؛ النفط (Tintin au pays de l’or noir)؛ المعادن النادرة، التحف، الكنوز. في عصرنا، لم تعد الأرض هي المنجم الوحيد، بل صار الإنسان منجمًا، وهذا ما سُمي "رأسمالية المراقبة"، النموذج القائم على استخراج البيانات الشخصية لسلوك الأفراد، وتحليلها وتوقّعها، ثم توجيهها واستثمارها من أجل الربح، دون موافقة صريحة من الأفراد. الخامات لم تعد محسوسة، بل لامادية: البيانات (Data): السلوك، الرغبة، الوقت، المشاعر؛ والانتباه (Attention): ما تنظر إليه، ما تقرأه، ما تتجاهله.

 لم يعد اللاوعي حاضرًا فقط بمدلوله الفرويدي، كمخزن للرغبات المكبوتة، أو ذاك الذي يتكلم فينا من دون أن نعرف كونه يتشكل كلغة، كما عند لاكان، بل أمسى اللاوعي نفسه رقميًا، وبامتياز. لم يعد اللاوعي هو ما تكبته، أو ما يتمرد عليك من رغبة وخطاب. لم يعد ما تخفيه، بل ما تفعله دون أن تعتبره مهمًا، فيُسجل على الشبكة. لم يعد اللاوعي شيئًا يعتمل في خوالجك، بل ما يشبك بينك وبين شبكة خارجية عملاقة. هذا اللاوعي لم يعد يرتكز بشكل أساسي على الكبت وتداعياته، بل على الإفراط في التعبير. 

 كان تان تان ابن العصر الصناعي. في قصّتيه، "هدفنا القمر" و"خطونا على سطح القمر" الصادرتين مطلع الخمسينيات، يظهر تصوره للتكنولوجيا ومآلاتها.

فالحاسوب الالكتروني المستخدم لحساب مسار الرحلة الخيالية إلى القمر، والتي سبقت الصعود بالفعل إلى سطحه بسنوات، هو سلف واضح للكومبيوترات الحديثة، كما أن نظام التحكم الآلي بالصاروخ في القصة فيه استشراف للذكاء الاصطناعي المدمج. أما "قضية البروفسور تورنسول" الصادرة أول مرة عام 1956 والتي تدور حول الأسلحة الصوتية فائقة التردد وعالم التجسس التكنولوجي فتستشرف ما يمكن تسميته بـ"تسليح الموجات".

 تسليح الموجات يشير إلى استغلال الموجات الكهرومغناطيسية، أو أي شكل من أشكال الموجات (راديو، ليزر، صوتية، أو حتى موجات بيانات)، كأدوات أو أسلحة في النزاعات أو الحروب. بعد سبعين عامًا على هذه القصة، يمكننا التأمل والقول إن تسليح الموجات باتت تفتح له آفاقًا خطيرة بمعية تقنيات الذكاء الاصطناعي، مثل اختراق الأجهزة عن بعد عبر بث إشارات مشوشة أو موجهة، واستخدام موجات راديوية ذكية لتشويش شبكات الاتصالات العسكرية والمدنية. كما أن الحاجة للذكاء الاصطناعي باتت أساسية لأجل تحليل بيانات الموجات بشكل فوري لاكتشاف التهديدات وتعقيد الهجمات المضادة. قطعًا، لم يكن بمقدور مغامرات تان تان أن تتناول الذكاء الاصطناعي، الا أنّ بعض الخيال العلمي المنساب الى هذه المغامرات لامس عتباته.

لا يمكن نعت عصرنا بغياب الخيال، ولا بالشح في الخيال، إنما العلاقة بالخيال هي التي تبدّلت

 لكن ماذا لو عاد إيرجيه اليوم ليتابع مغامرات الصحافي البلجيكي المتخيل الذي لم يكبر في السن منذ عشرينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي؟ الأرجح أن قصص تان تان ستُعنى حينها لا بالمطاردات التقليدية، وإنما بالصراع على حرية المعرفة، والخصوصية الرقمية، ومواجهة أحابيل "ما بعد الحقيقة"، وأن تان تان سيلعب دور المحقق ضد التلاعب الرقمي والتعتيم المعلوماتي. والأشرار الذين سيواجههم سيكونون مدراء تنفيذيين في شركات تكنولوجيا ضخمة، وقراصنة سيبرانين، وانقلابيين يحاولون توظيف قاعدة البيانات الضخمة لمآربهم، أو خلق حملات تضليل هائلة!

فماذا لو عاد تان تان في عصر البيانات الضخمة، والتحكم في الخوارزميات التي تفرز المعلومات، والتأثير على الرأي العام عبر منصات التواصل؟

سيجد نفسه إلى الى حد كبير وسط ثنائية مرهقة: التعتيم المعلوماتي من جهة (Information Blackout)، بما يعنيه من حجب المعلومات الحساسة، إما عبر الرقابة المباشرة أو خوارزميات المنصات؛ والإغراق المعلوماتي من جهة ثانية (Information Overload)، بما يعنيه من فيض فوضوي من المعطيات والأخبار والضجيج التحليلي المفرط، الذي يشيع مناخًا من العشوائية، والنسبوية، وإمكانية تصديق وتكذيب أي شيء. الإغراق لا يحجب الحقيقة بإخفائها، إنما بتبديدها. 

ماذا لو عاد البروفسور تورنسول أيضًا ـــ العالِم الغريب الأطوار في مغامرات تان تان، والتجسيد الرمزي الكاريكاتوري لنموذج "العالِم الشامل" (savant universel)، المتجاوز للحدود التخصصية، لكن بصيغة: إنه عالِم معزول عن العالم، منطوٍ على نفسه وأبحاثه، لكنه يفسّر العالم ويتحكّم فيه؟

يظهر البروفيسور تورنيسول كعبقري ومشعوذ في آن، يصنع الغواصات والموجات الصوتية والصواريخ. عالِم يفصله مختبره عن العالَم، ويتعرف إلى هذا العالم من خلال هذا المختبر. يجمع بين الفيزياء والكيمياء والهندسة. يتنقل بين التجريب والتأمل. قد يبدو تورنسول من منظور علم النفس المعصر، شخصًا على طيف توحد، لا يتفاعل بسهولة مع محيطه. وهو أساسًا نموذج المنعزل الكوني، يسمع بطريقة انتقائية، يرد على غير ما يوجه إليه من سؤال، لا يفهم السخرية حين توجه له، ولا الدعابة، يتكلم مع النبات كما مع الانسان على حد سواء. يمتاز تورنستول بالشغف، فحين ينكب على موضوع معين تجده لا يدري بالزمن ولا بالظروف المحيطة به، حتى يصل إلى تحصيل المعرفة حول هذا الموضوع وابتكار التقانة اللازمة. في الوقت نفسه، جسدت شخصية تورنسول علاقة تناقضية بين التكنولوجيا وآثارها. فاختراعاته قد تكون خطيرة؛ صواريخ، أسلحة صوتية، غواصات تجسس. لكنه يمضي اليه، هو المسن، بشغف طفولي، بدهشة متجددة. هل من مكان في عصر الغافام والخوارزميات لتورنسول؟ للعالِم المسن والطفولي في آن؟ أم أن الخوارزميات هي التي تستبق الفرضيات، وتبني النماذج، وتطور نفسها بنفسها؟

يرمز كل من تان تان وتورنسول إلى بُعدين من أبعاد المغامرة. المغامرة المتصلة بصورة المراسل الصحافي الاستقصائي، الذي قلما نجده يكتب ــــ في حال تان تان ــــ والمغامرة المتصلة بنموذج العالم غريب الأطوار في حال تورنسول. الدافع للاكتشاف عند تورنسول لا يظهر كطلب تقدير أو مجد، بل كنزوة مستدامة، نهمة على الدوام لاكتشاف أو ابتكار الشيء الجديد، ومتفاعلة بسذاجة مع النتائج الكارثية للاكتشافات والابتكارات، أو بالأحرى لمحاولة الأشرار في القصة توظيفها لحسابهم. حس المغامرة هل هو الذي سيكون مفقودًا، أو أقله شاحباً، لو عاد  تان تان وتورنسول إلينا في عصر الغافام؟ ليس بالمستطاع الجزم بذلك. لكن المختلف سيكون انفكاك الصلة بين حس المغامرة وبين حس الملموسية.

نجد في المغامرات التي وضعها إيرجي هذا التقابل بين النموذجين: الصحافي المرتبط بما يمكن تسميته "الخيال الأخلاقي"، جريًا على "الخيال العلمي" الذي نجده في حال النموذج الآخر، تورنسول. المفارقة هنا أنه في وقت يتسم سلوك تان تان بالعقلانية الأخلاقية، فان ما يحرك تورنسول العالم هو مس من الجنون، الذي يجعله قادرًا على "تعليق العالم" خارج مختبره، لأجل إخضاع العالم لهذا المختبر. إنما تبقى في حالته مجموعة حدود: بينه وبين مختبره، بين مختبره وبين العالم، بين اكتشافاته ونتائجها. هذه الحدود هي التي تطايرت في عالمنا اليوم. 

أيضًا، ما يجمع تنتان وتورنسول، على اختلاف وجه الصلة بين النموذجين وبين موضوعات العلم والتكنولوجيا والخيال العلمي، هو حس الملموسية. الارتياب من الغامض، ربط الغموض بالشر في حال تان تان، وبالجهل في حال تورنسول. يمكن أن نجد في المغامرات قبسات استشرافية للزمن الروبوتوي والرقمي، لكن من دون ما هو أساسي في هذا الزمن: أولوية الافتراضي على المادي البحت، لكن أيضًا عدم إمكانية اختزال الغامض إلى جهل أو شرّ. الغامض بالأحرى هو نتيجة للطفرة، للانتفاخ بالمعلومات، الغث منها والسمين.

مع هذا، لا يمكن نعت عصرنا بغياب الخيال. ولا بالشح في الخيال. إنما العلاقة بالخيال هي التي تبدّلت. لم يعد بيننا وبين الخيال حاجب. أضحينا داخله. أضحينا على الشبكة الواسعة والمطلقة، التي يتداخل فيها حجب المعلومات مع إغراق الدنيا كيفما كان بها. 

ورقة قُدّمت في مؤتمر من تنظيم "أوان" بعنوان
"الذكاء الاصطناعي والوصول إلى المعلومات"
AI and Access to Information

مسلسل "الحشاشين" (1): دراما سرد الأحداث بالمقلوب!

سبق أن استُخدمت "الشدّة المستنصرية" مادة للفانتازيا في مسلسل رمضانيّ سابق عُرض قبل عامين: "بيت الشدّة"، ل...

وسام سعادة
مسلسل "الحشاشين" (2): دراما سرد الأحداث بالمقلوب!

المسلسل خرافيّ من حيث الرقم القياسي للمغالطات التاريخية فيه. أما الكم الهائل من الخفة في البناء على كرونو...

وسام سعادة
مسلسل "الحشاشين" (3): المصادر التراثيّة لدراما الكراهية

إنّ اعتبار عدم الاكتراث بتسلسل الأحداث من الناحية التاريخية، وعلى طول الخط، ضربًا من ضروب الإبداع في مسلس...

وسام سعادة

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة