
لم يكن تصريح أحمد موفق زيدان، المستشار الإعلامي لرئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، حول "التحرك بواقعية" في ملف العلاقة مع إسرائيل على قناة "الجزيرة مباشر"، حديثًا عابرًا، بل مثّل تعبيرًا صريحًا عن طبيعة الخطاب الذي باتت السلطة الانتقالية تُنتجه لتثبيت وجودها في النظام الدولي.
هذا الخطاب ينطلق من موقع هشاشة مُعلَنة، إذ يرى أن "معرفة القدرات الحقيقية لسوريا" يعكس "وعيًا سياسيًا"، بينما المسألة في جوهرها إقرارٌ بالعجز. فما يُعرض باعتباره لغة "واقعية" يمكن قراءته كخطاب هشاشة موجّه إلى الخارج. وهو يُعيد تعريف العلاقة مع العدو بوصفها "بوابة بقاء"، لا باعتبارها ملفًا سياديًا أو صراعًا وجوديًا.
الاستجداء ولغة العجز
تتّصل المسألة هنا بكيفية تظهير السلطة لذاتها عبر لغة تكشف موقعها في المشهد الراهن. فالحديث عن العودة إلى اتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974 منفصل عن سياق الأحداث، إذ لم يعد هذا الاتفاق معبّرًا عن توازناتها، بل بات يُستعمل كنوع من ذاكرة مفاوِضَة لإنتاج وهم الاستمرارية. فالسلطة الانتقالية لا تعود إلى الاتفاق لضرورته العملية، بل لكونه يشكل غطاءً رمزيًا يتيح لها إخفاء هشاشتها عبر الاستناد إلى لحظة تفاوضية قديمة. وبذلك يُستثمر الماضي كأداة لتبرير الضعف وتغليفه بشرعية زائفة.
الركيزة المفهومية في خطاب السلطة الانتقالية هي "الواقعية"، غير أن هذه الواقعية لا تحمل دلالاتها المألوفة في حقل العلاقات الدولية – حيث تعني موازنة المصالح وتقدير موازين القوى – بل تتحول هنا إلى استجداء. إذ إن "معرفة القدرات الحقيقية لسوريا"، كما ترد في هذا الخطاب، تمثل إقرارًا معلنًا بالضعف، وهي محاولة لتغليف الخطاب بلغة سياسية تبدو مقبولة للخارج. هذه اللغة تعمل كآلية لإنتاج شرعية بديلة عن الشرعية الوطنية، بحيث تسعى السلطة الانتقالية إلى إظهار نفسها للقوى الدولية بمظهر السلطة العقلانية، حتى لو جاء ذلك على حساب سيادتها.
هنا يتضح أن العلاقة الموصوفة بالواقعية تنزلق إلى ما يمكن تسميته بمبدأ "الشراكة الضمنية" بين السلطة الانتقالية والاحتلال الإسرائيلي. فالسلطة لا تواجه العدو من موقع خصومة، بل تستنجد به وتُخاطبه كطرف قادر على تأمين بقائها، أي أن إسرائيل تُعاد صياغتها في الخطاب كشريك محتمل في تثبيت النظام الانتقالي.
إذا أعملنا تعريف كارل شميت للسياسة باعتبارها تمييزًا بين الصديق والعدو، فإن الخطاب الانتقالي السوري يبدو متناقضًا مع هذا التصوّر
إن تحويل العدو إلى "شريك اعتراف" ليس مجرد تنازل ظرفي، بل هو انتقال عميق من منطق السيادة إلى منطق الوظيفة. وفي هذا الإطار، لا تعود السياسة تُدار لمصلحة الداخل أو لحماية المجال الوطني، بل تصبح أداة لتلبية شروط الخارج وضمان القبول الدولي.
من خصم محتل إلى شريك بقاء
التحوّل الجوهري الذي يكشفه خطاب السلطة الانتقالية يتمثل في تحويل العلاقة مع العدو إلى آلية دائمة لإعادة إنتاج الشرعية. فمجرد الإقرار بـ"المفاوضات المستمرة" يعني أن السلطة باتت تؤسّس مشروع بقائها على قاعدة قبول الآخر بوصفه ضامنًا، وليس خصمًا. هذه النقلة تُرسّخ منطق الاعتماد على العدو كشرط بنيوي يرسم حدود الحركة السياسية للسلطة ويضبط إيقاعها.
ويمكن قراءة هذا الخطاب في إطار ما يسميه جورجيو أغامبن "السياسة الاستثنائية"، أي النمط الذي تقوم فيه السلطة على إدامة حالة الطوارئ بوصفها شرط وجودها. وفي الحالة السورية، لا يعود وجود السلطة مستندًا إلى عقد اجتماعي أو قاعدة شرعية داخلية، بل إلى تحويل الاحتلال إلى حالة استثناء دائمة تُقدَّم كضرورة واقعية. هكذا تُفرَّغ السياسة من معناها الأصلي، وتتحوّل إلى تواطؤ لغوي ـــ سياسي يجعل الاحتلال شريكًا ضمنيًا في إنتاج شرعية شكلية.
إن أدوات تحليل الخطاب تكشف أن هذا النمط من اللغة ليس محايدًا. فالمفردات التي يكررها هذا الخطاب – "الواقعية"، "القدرات الحقيقية"، "العودة إلى الاتفاق" – تعمل كآليات لإنتاج معرفة تخدم بقاء السلطة. وهنا يمكن استدعاء ميشيل فوكو حول ثنائية السلطة والمعرفة. فالمعرفة لا تُعطى باعتبارها توصيفًا محايدًا للواقع، بل تُصاغ كمنتَج سلطوي يُعيد تعريف هذا الواقع بما يخدم استمرارية الحكم. بهذا المعنى، فإن السلطة الانتقالية تصوغ خطابًا يحوّل الاستسلام إلى "واقعية"، والاستجداء إلى "شراكة"، فيعيد إنتاج قصورها الذاتي بِلغة تُخفيها وتشرعنها.
في المحصلة، لا يمكن قراءة خطاب السلطة الانتقالية في سوريا إلا بوصفه تعبيرًا مكثفًا عن هشاشتها البنيوية. فهو لا يُنتج سياسة ولا يطرح مشروعًا، بل يكشف أن البقاء ذاته صار مشروعها الوحيد. هذا البقاء تُعاد صياغته عبر أربعة مستويات مترابطة: أولًا، من خلال الاستجداء التي تحوّل الاعتراف بالضعف إلى لغة عقلانية زائفة؛ ثانيًا، عبر إعادة تعريف العدو بصورة شريك ضمني يساهم في تثبيت السلطة؛ ثالثًا، عبر إنتاج معرفة رمزية تُخفي العجز وتحوّله إلى سردية سياسية؛ ورابعًا، من خلال جعل الاعتراف الخارجي أهم من أي قاعدة وطنية أو شرعية داخلية.