مَن أقدَمَ من الباحثين المهتمين بالشؤون الإفريقية على زيارة الشقة الصغيرة القابعة أمام معهد الرمد في الجيزة، والتي تحمل لافتة "مركز البحوث والدراسات العربيّة والإفريقيّة"، لم يعُد من زيارته خاليَ الوفاض حتمًا. فإن لم يخرج بالعديد من الأوراق البحثية وإصدارات المركز المجانية، فازَ بنصيحةٍ في مجال تخصّصه، أو باستشارةٍ قد تغيّر مجرى حياته.
هذا المركز كان ثمرة جهود عدد من المفكّرين، أهمهم حلمي شعرواي الذي رحل بالأمس عن 88 عامًا، والذي كان له تاريخ طويل من المساهمة في الكتابة والتحليل في الشؤون الافريقية التي عايش محطاتٍ مفصليّة منها عن قرب.
شكّل المركز معلمًا في رحلة طويلة عاشها حامل الهمّ الافريقي الملقب بـ"معلمو" أو المعلم. وقد كُنتُ ممن حالفهم حظّ التعامل معه، وان على فترات متقطّعة.
كان الراحل يفرح فرحَ الأطفال بهداياهم كلّما اكتشف باحثًا مهتمًا بالشؤون الإفريقية؛ كان يسأله/ا عن موضوع البحث والمنهج المستخدم، ويستمع له/ا بشغف، ثم ينهالُ عليه/ا بأسئلة تفتح أفاقًا جديدة ما كانت لتخطر على باله/ا. وكان اهتمام شعراوي يتزايد حين يتناول البحث منطقة أو مجالًا بحثيًا جديدًا، بل وصل الأمر حدّ تخصيص مركز البحوث الذي يرأسه جائزةً سنويةً لأفضل بحث، دعمًا منه للدراسات الإفريقية وإيمانًا منه بأهميّتها، وكذلك بأهمّية الانفتاح على القارة السمراء التي نتشارك في مصر وإياها الحاضر والمستقبل.
لم يكن اهتمام شعراوي بالقضايا الإفريقية اهتمامًا سطحيًا أو مرحليًا. بل أخذ يتطوّر منذ بدايات عمله في نظام جمال عبد الناصر خلال خمسينيات القرن الماضي وستينياته، إثر انضمام عبد الناصر إلى دائرة الشؤون الإفريقية عام 1959، وإيكاله ملف دول شرق إفريقيا، وهو ما رشّحه ليكون عضوًا في الوفود المصريّة التي حضرت الاحتفالات باستقلال العديد من الدول الإفريقية. كما أوكل إليه تنفيذ جانب من سياسات الرئاسة المصرية إثر تولّيه التنسيق بين القاهرة ومكاتب حركات التحرّر الإفريقية في العاصمة المصريّة، والتي كانت قد مُنحت مقرًا في الرابطة الإفريقية الكائنة في حي الزمالك بالقاهرة. وقد ساهم ذلك في ذياع صيته في الربوع الإفريقية، ما منحه لقب "موعلمو" Mwalimu، وهي كلمة تعني "المرشد" أو "المعلم" باللغة السواحيلي، وذلك تقديرًا لجهوده في تقديم الثقافات الإفريقية بشكل منصف، بعيدًا عن الصور النمطية المقدّمة في الكثير من دوائر الغرب وقتذاك.
كان للسودان اهتمام خاص في إنتاج شعراوي، ويمكن القول إن إنتاجه لا غنى عنه لكلّ المهتمين بالشأن السوداني
ساعد اهتمامَ شعراوي بالثقافات الإفريقية حبُّه لعلم الأنثروبولوجيا بسبب دراسته في كلية الآداب، تحديدًا في قسم الاجتماع من جامعة القاهرة التي تخرّج منها عام 1958. ثم نما حبُ الثقافات الإفريقية لديه في معهد الفنون الشعبية الذي عُين فيه قبل الانضمام لمكتب الرئاسة. وبسبب ذلك، قام شعراوي بترجمة كتاب "روح الشعب الأسود" مع المترجم أسعد حليم، من تأليف الكاتب وليم إدوارد بروجهارت، والذي تناول فيه العنصرية اللونيّة والوعي المزدوج للأميركيين من أصول إفريقية.
في مذكرات حلمي شعراوي التي حملت عنوان "حلمي شعرواي... سيرة مصرية إفريقية"، وصدرت عام 2019، حكى لنا ذكرياته خلال محطات سفره وتعامله عن قرب من المجتمعات الإفريقية. من بين ذلك، على سبيل المثال، حفلات الاستقلال في كل من زنجبار عام 1961، وتنجانيقا عام 1963، وأنجولا وموزمبيق عام 1975. كما تحدث عن أثر اللغة العربية على اللغات والثقافات الإفريقية، وعلى رأسها اللغة السواحيلي التي تجمع في طياتها آلاف الكلمات العربية وتتشابه قواعدُ النحو فيها مع القواعد العربية. وقدّم تحليلات مُقارنة بين عهود الرؤساء المصريين جمال عبد ناصر وأنور السادات وحسني مبارك، من حيث التوسّع والانكماش وأسباب هذا وذاك.
تصدّى شعراوي أيضًا لقضايا تتصل بالعلاقات العربية - الإفريقية وصورة العرب في عيون الأفارقة، حيث تناولها في كتب مثل "صورة الآخر.. العربي ناظرًا ومنظورًا إليه"، و"عن الشأن العربي والإفريقي في حياتنا المعاصرة"، و"الثورات العربية وإفريقيا". كذلك تناول قضايا الفلكلور، حيث ترجم بمساعدة عبد الحميد حواس كتاب يوري سوكولوف "الفلكلور... قضاياه وتاريخه"، وصدرت الطبعة الأولى منه عام 1971. ونشر كتاب "الثقافة والمثقفون في إفريقيا"، وهو عبارة عن رحلة في أفكار المثقفين الأفارقة الذين التقى بهم شعراوي من كيب تاون جنوبًا وصولًا إلى القاهرة شمالًا، ومن إريتريا شرقًا حتى ساوتومي وبرنسيب غربًا. كما عرض التفاعل بين الثقافات الإفريقية والتراث الإفريقي، وتناول أثر الإسلام في هذه الثقافات.
وكان للسودان اهتمام خاص في إنتاج شعراوي، حيث نظم العديد من الندوات والفعاليات فيه، واستضاف الكثير من المفكرين السودانيين في "مركز البحوث العربية والإفريقية". كما درّس في جامعة جوبا قبل انفصال جنوب السودان عن شماله، وألّف كتاب "السودان في مفترق الطرق"، الصادر عام 2011، الذي عرض فيه تجربته مع الشأن السوداني على مدى أربعة عقود. ويمكن القول إن الكتاب الأخير لا غنى عنه لكلّ المهتمين بالشأن السوداني من باحثين وصنّاع قرار. إذ يفنّد أسباب المشكلات الاجتماعية والسياسية بين أقاليم السودان، من زاوية أنثروبولوجية، ويوضح ما فعلته الكولونيالية في النسيج السوداني لجهة ضرب فكرة المواطنة، ولناحية تثبيت التنمية غير المتوازنة بين الأقاليم السودانية.
خلاصة القول إن حلمي شعراوي آمن بإفريقيا وبحق الشعوب الإفريقية في الاستقلال والحياة. وكان إيمانه حقيقيًا لم تَشبهُ رغبة بالظهور الإعلامي، أو الحصول على مناصب، أو التقرب من صنّاع القرار ما لم يتوافق ذلك مع قناعاته. كانت إفريقيا، بالنسبة لشعراوي، قضية وهبها عمره حتى آخر نفس، فوهبته القضية الخلود في سجل المؤثرين مصريًا وإفريقيًا، المؤمنين بقضاياهم، والمخلصين لأنفسهم ولقناعاتهم.
رحم الله المعلم. ووهبنا صبره وجلده.