أدّت الأحداث المتعاقبة في العالم العربيّ، منذ أن أشعل البوعزيزي النّار في نفسه، إلى تغيّراتٍ كثيرةٍ على الأصعدة كافّة؛ السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وخلافها. وقد تجلّت هذه التّغيّرات في سوريا الّتي ما زالت الحرب مشتعلة فيها منذ ثماني سنوات بأشكال مختلفة، وصار الشّعب السّوريّ خاضعًا للتصنيف تأثرًا بهذه المتغيرات، كتابع لواحدة من فئات عدّة تتجاذبها قوى مختلفة.
هكذا، باتت توصيفات مثل "مؤيّد" و"معارض" و"رماديّ" لا تُفارق حديث السوريين، بعدما كانت أوّل الأمر حكراً على الدّراسات الأمنية الّتي تسبق التّعيينات الرّسميّة، علمًا أنَّ حملَك واحدة من هذه الصفات قد يُعرّضك لويلات شتّى، كأنْ تُكمل حياتك في زنزانة لا تصلها أشعة الشّمس، أو ينتهي بك المطاف مذبوحاً ومرميّاً في إحدى حاويات القمامة على طريقٍ مهجور.
ثمّة إشكاليّات عدة تعتري هذه التّصنيفات، أبرزها ثلاث: الأولى تكمن في افتراضٍ يضعه الواصفُ مُسْتَخْدِمُ هذه المفردات لما يتوهّم في الموصوف من صفات؛ فـ"المعارض" – على سبيل المثال - ليست صفةً تُشير إلى فئة محدّدة لها ماهيّة وخصائص مميّزة يمكن قياسها وفرز النّاس تبعاً لها. لكن مُستخدمنا يراها كذلك، خالطًا بشكلٍ أعمى بين فئات مختلفة، فتجده يساوي بين السّلفيّ المؤيد للتّيارات التكفيرية كـ"الدّولة الإسلاميّة في العراق والشّام" (داعش) و"هيئة تحرير الشّام" ("جبهة النّصرة" سابقاً)، وبين مؤيّدي تيّارات أخرى من الإسلام السّياسيّ كـ"الإخوان المسلمين"، وبين المرتهنين لقوى خارجيّة والمطالبين بالتّدخل الأجنبي، وبين ثلّة من الفاسدين الّذين سارعوا إلى تبديل مراكزهم في الحكومة ليتبوّؤا مراكز قياديّة في المعارضة، وبين قطاعات واسعة من الناس التي خرجت إلى الشارع باحثة عن عدالة اجتماعيّة ومطالبةً بحرّية تعبير.
والأمر ليس أفضلَ بالنسبة لمن يُصنّف في خانة "التأييد"، فـ"المؤيد" قد يكون مستفيدًا فعلًا من الفساد الحكومي، ولكنه قد يُخضع لهذا التصنيف بسبب انتمائه إلى أقليّات متخوفة من غلبة التّيّارات الإسلاميّة في المعارضة، أو إلى فئات انكفأت عن الاحتجاج بعدما لمست حجم الفساد في أجسام هذه المعارضة وفشلَ الكثير منها في توفير إدارة ناجحة لمناطق سيطرتها، وفي بسط الأمان فيها.
أمّا الإشكاليّة الثّانية فتتمثل في رؤية الواصِف للعالم كما لو كان خيرًا مطلقًا أو شرًّا مطلقًا، تبعاً لما تمليه الخلفيّات الاجتماعيّة والعقائدية الخاصة به وبهذا "الآخر". ويعبق التّصنيف المذكور بنزعة إلغائية، ذلك أنّ الخلافات قد تتصاعد بين المُتواصفين لتبلغ حدّ الدعوة إلى عمليّات تصفية جماعيّة لسكّان المناطق الّتي ينتشر فيها الطّرف المُغاير، أو إلى الاقتصاص من النّازحين وممّن يُشتبه بولائهم لـ"الآخرين"، أو إلى استباحة الممتلكات في المناطق "المُخالفة".
بينما تكمن الإشكاليّة الثّالثة في استخدام الواصف عيناً واحدةً لا يرى عبرها سوى الخصال الحميدة في كلّ متوافقٍ مع مصالحه، بمعناها الضيّق، والشر المطلق في كلّ من لا يتطابق أو يتقاطع معها، بينما يُغمض العين الأخرى عما يُمكن أن يشكّل مساحة للحوار متى كان وجود المساحة تلك متضاربًا مع هذه المصالح.
وكما هو معلوم، فـ"عين الرّضا عن كلَّ عيبٍ كليلة وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيَا!" إنّ توزيع السوريين على هذه الفئات وتأطيرهم على هذه الشاكلة، إنما يعزّز المساعي الدؤوبة لتبرير الوجود والأفعال عن طريق شيطنة الطرف الآخر، حتى تكون أفعال هذا الأخير حجة لتسويغ الأفعال المضادة، بمعزل عن طبيعتها وعن سلبية آثارها. ولا مناص أنّ جرائر الفئة الّتي تسيّدت المعارضة وادّعت أنّها تمثّل السّوريين ساهمت، مع أجهزة النظام، في تحقيق ذلك، حتى صارت أداةً لإجهاض كلّ أمل في التغيير المنشود؛ بدعواتها لحمل السّلاح واستخدام العنف، وجرّها البلاد إلى الحرب بغية تحقيق أهدافها وأهداف داعميها ورُعاتها، وكذلك بفصلها المسألة الدّيمقراطيّة عن القضايا الاجتماعيّة والوطنيّة. وهذا كله زاد من فاتورة الدّم المسفوك، ومن تشرذم السوريين بين نزوح داخليّ وآخر خارجيّ، وسهّل تحويلَ البلاد إلى ساحة للتّجاذبات الإقليميّة والدوليّة.