"على العضم": السكن في شقق غير مكسوة في جرمانا

تضافرت عوامل الاستقرار والأمان النسبيان في جرمانا مع ازدياد الطلب على السكن فيها وسهولة دفع الرشى لموظفي البلدية، لتدفع جميعها باتجاه فورة عمرانية اتسمت بنسبة كبيرة منها بزيادة البناء غير المنظم أو غير المرخّص في المدينة.

"لم يمضِ وقتٌ طويل منذ أن تركنا الخيام وأقمنا في المنازل حيث تحمينا الجدران، وها نحن اليوم نعود إلى ما يشبه الخيام. هذه الشقة أقرب بكثير إلى الخيمة، بنوافذها وأبوابها المغلقة بالشوادر التي وزعتها الأمم المتحدة". هكذا تصف أم ربيع (اسم مستعار، 62 عامًا) الشقة التي تقيم فيها في مدينة جرمانا بريف دمشق الجنوبي، بعدما نزحت من ريف دير الزور الغربي مع ابنتيها وابنها وزوجته عام 2014.

منذ بدايات الأزمة السورية والتصاعد المطرد للعمليات العسكرية في السنوات التالية، لجأت عائلات نازحة من مختلف المناطق في سوريا إلى جرمانا، حيث اضطرت في كثير من الأحيان إلى استئجار شقق غير مجهزة للسكن وغير مكسوة (أو "غير مكسية" كما يصطلح على تسميتها). جرمانا واحدة من مدن ريف دمشق الرئيسة والأقرب إلى العاصمة، وتُلاصقُ أطرافَها الجنوبية الشرقية. منذ ما قبل عام 2011، شكّلت جرمانا أحد مقاصد السكن المفضلة للموظفين والطلاب بحكم قربها من دمشق والمتحلق الجنوبي وطريق مطار دمشق الدولي، بالإضافة إلى توسّع الخدمات الحكومية فيها وزيادة نشاطها الاقتصادي. سببت تلك العوامل مجتمعة زيادة الكثافة السكانية في جرمانا من جهة، ومن جهة أخرى، كان لتلك العوامل، بالإضافة إلى محافظة جرمانا على هدوء وأمان نسبي في خضم المعارك المشتعلة حولها، دور في تحولها إلى وجهة للنازحين الهاربين من الحرب والدمار.

 

تنوعت "خيارات" النازحين إلى جرمانا بدءًا من الشقق جيّدة التجهيز وصولًا إلى الشقق غير المكسوة التي تفتقر إلى الخدمات الأساسية من أبواب وشبابيك، وحتى تجهيزات الحمامات ودورات المياه. وفي بعض الحالات، افتقدت الشقق المعروضة للإيجار إلى أنظمة الصرف الصحي وتمديدات المياه والكهرباء. أما مبلغ الإيجار فقد كان هو الفيصل الوحيد بين ما يحتاجه المستأجرون من مسكن وما يمكنهم الحصول عليه.

يبين سالم (اسم مستعار، 38 عامًا)، الذي نزح من مدينة إدلب وهو يقطن اليوم في شقة غير مكسوة في جرمانا، أنه اضطر للجوء لهذا الخيار توفيرًا للمصاريف اللازمة لدارسة ولديه، فيما اعتمد على إدخال تحسينات تدريجية على مدار سبعة أعوام في الشقة حتى تتلاءم قليلًا مع السكن. يتذكر سالم كيف افتقدت الشقة في بداية إقامة العائلة لجميع الخدمات الأساسية، فلم تكن المياه تصل إليها، ولم تتوفر فيها أي تمديدات صحية أو حمامات، و"لكن مع الأيام استطعنا تغيير العديد من هذه الأوضاع؛ أوصلنا المياه، من ثم الصرف الصحي، فالكهرباء وهكذا حتّى استقرينا بالشقة بظروف أفضل".

بعد عام 2017، وإثر انحسار رقعة المعارك وسيطرة القوات الحكومية على محيط دمشق ومدن ريف دمشق وبلداتها، تراجعت حركة النزوح بعض الشيء وقلّ الطلب على الشقق غير المكسوة بحسب فهد (اسم مستعار، 56 عامًا)، وهو وسيط عقاري في جرمانا. إلا أن الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تلت، إضافة للإجراءات الحكومية الاحترازية في مواجهة جائحة "كوفيد 19" من حظر جزئي للتجوال وإغلاق للفعاليات الاقتصادية، فاقمت جميعها من ظاهرة استئجار الشقق غير المكسوة وغير المجهزة كما لاحظ فهد من خلال عمله.

تقول أم ربيع إن جميع أفراد عائلتها خسروا ما كانوا يمارسونه من أعمال في تنظيف المنازل أو تناول البضائع فيما استمرّ الإيجار الشهري للشقة التي سكنوا فيها بالارتفاع. ومع تراكم الديون وارتفاع النفقات، اضطرت العائلة للانتقال والسكن في شقة غير مكسوة بناءً على اقتراح من دلال عقاري. تدفع أم ربيع 120 ألف ليرة سورية إيجار هذه الشقة (ما يعادل حوالي 20 دولارًا وفق سعر الصرف الرائج في كانون الثاني/يناير 2023)، ولكن هذا البدل مرشّح للزيادة بدوره في الأيام القادمة حيث "سيعمد صاحب المنزل حتمًا إلى رفع قيمة الإيجار، وليس باليد حيلة غير القبول".

تضافرت عوامل الاستقرار والأمان النسبيان في جرمانا مع ازدياد الطلب على السكن فيها وسهولة دفع الرشى لموظفي البلدية لتدفع جميعها باتجاه فورة عمرانية اتسمت بنسبة كبيرة منها بزيادة البناء غير المنظم أو غير المرخّص في المدينة. أقدم العديد من أصحاب الأبنية خلال السنوات الأخيرة على إضافة طوابق جديدة مخالفة لمواصفات المبنى ومن دون الحصول على رخصة بناء، فشهدت الأحياء الطرفية من المدينة كالحمصي والمزارع ودف الصخر والتربة وكرم صمادي والبعث توسعًا عمرانيًا كبيرًا. ولكن لم تتوسع الخدمات التي تقدمها البلدية بالتوازي مع التوسع العمراني، فبقيت هذه المناطق تعاني من شح في تمديد المياه والكهرباء والصرف الصحي والطرق المعبدة.

بات أصحاب العقارات يتجنبون وضع عقود رسمية وتسجيلها في البلدية تهربًا من الضرائب

برغم هذه العقبات، يستمر الإقبال على المدينة إما رغبةً بالاستثمار العقاري بها وتحقيق أرباح من الإيجارات المرتفعة والبيوع، أو للحصول على مسكنٍ قريب من مراكز العمل في دمشق ومحيطها. وبينما يتراوح متوسط الإيجارات بين 250 ألف و500 ألف ليرة سورية (أي بين حوالي 38 و77 دولار أميركي) للشقق المكسوة والمجهزة، يتراوح إيجار الشقة غير المكسوة بين 80 ألف و150 ألف ليرة سورية (أي بين حوالي 12 و23 دولار أميركي). وتتحكم العديد من المعايير ببدلات الإيجار بالطبع، ومنها موقع البناء ومساحة الشقة وتوفر المياه والكهرباء في البناء أو الشقة ذاتها. ولا يكون هذا البدل ثابتًا، حيث يفرض صاحب الشقة زيادة دورية غير محددة النسبة على الإيجار بسبب تراجع قيمة الليرة السورية أمام الدولار.

يرى سالم أن أصحاب المنازل يستفيدون من ميل المستأجرين للبقاء والاستقرار في الشقة ذاتها، لتجنب مصاريف النقل وعمولات الدلالين العقاريين ومبالغ التأمين الأولي التي يطلبها أصحاب الشقق. يدفعهم هذا الوضع لفرض زيادة دورية للإيجار الشهري، والضغط بالتالي على المستأجرين لقبول البدلات الجديدة.

وعلى وقع شكوى المستأجرين إثر كل زيادة في بدل الإيجار، يشكو أصحاب الشقق المؤجرة بدورهم الحالة الاقتصادية الصعبة وارتفاع الأسعار مذكرين المستأجرين أن لديهم عائلات كذلك الأمر وأن عليهم تأمين احتياجاتهم. يرى جابر (اسم مستعار، 36 عامًا)، وهو صاحب شقة مؤجرة، أنه " ليس من المنطقي أن يكون إيجار المنزل رقمًا ثابتًا لا يتغير برغم أن جميع الأسعار تتغير على مدار الساعة في البلاد".

اشترى جابر شقته "على العضم"، كما تُعرف الشقق غير المكسوة وغير المجهزة في سوريا، عام 2018 وخطط أن يهيئها للسكن بالتدريج. ولكن ومع ثقل الغلاء وتراجع دخله، قبل عرضًا قدمه له صاحب مكتب عقاري كي يؤجر الشقة لعائلة ويستفيد من بدل الإيجار بدلًا من ترك الشقة فارغة ومغلقة.

لا يرى المستأجرون أن أصحاب الشقق يواجهون ظروفهم ذاتها، بل يعتبرون أن رفع بدلات الإيجار ما هي سوى استغلال لعجز المستأجرين عن إيجاد بديل. تشتدّ صعوبة الانتقال إلى مسكن آخر نتيجة إلزام المستأجرين الجدد بدفع مبلغٍ يعادل ثلاثة أضعاف البدل الشهري. ينقسم هذا المبلغ إلى بدل الإيجار للشهر الأول وبدل شهر آخر كتأمين عن الأضرار التي قد تحدث في المنزل نتيجة استخدامه، وما يعادل بدل شهر كأتعاب للمكتب العقاري الذي قدم خدمة الدلالة. وفي بعض الحالات، قد يطالب صاحب الشقة المستأجر بتسديد بدل الإيجار عن عامٍ كامل أو عن بضعة أشهر، بالإضافة إلى ما سيدفعه المستأجر أيضًا للمحامي الذي سينظم عقد الإيجار.

بحسب فهد، الوسيط العقاري، بات أصحاب العقارات يتهربون من وضع عقود رسمية وتسجيلها في البلدية منذ بدء احتساب ضريبة الإيجار بالاستناد إلى القيمة الرائجة للعقار، المقدرة وفق لجان رسمية. لهذا، يكتفي هؤلاء بكتابة عقود إيجار شكلية عند أصحاب المكاتب العقارية أو المحامين، أو تأمين الموافقة الأمنية اللازمة لعملية التأجير، تجنبًا للضرائب التي تفرضها البلديات على عقود الإيجار والتي لا يرون أنها تتناسب مع إيجار الشقة المنخفض كما يقول فهد.

ينظم القانون رقم 20 للعام 2015 عقود الإيجار الجديدة في سوريا، فيما بقيت الإيجارات القديمة خاضعة للقانون الصادر عام 1952 أو عام 2001. تفرض جميع هذه القوانين تثبيت العقود في المجالس البلدية المسؤولة عن المنطقة، وبحسب المحامي جهاد (اسم مستعار)، يعتبر غياب العقد الرسمي إخلالًا بقدرة المستأجر على البقاء في المنزل أو المحافظة على بدل الإيجار الشهري المتفق عليه من دون رفع دوري.

إلى جانب غياب العقود الرسمية، تبرز مشكلة الموافقات الأمنية المطلوبة على جميع المعاملات العقارية كعائق آخر أمام السوريين الراغبين بالحصول على مسكن. "الموافقة الأمنية" هي طلبٌ يتقدم به صاحب العقار للجهة الأمنية المسؤولة عن المنطقة مصرحًا فيه عن اسمه واسم المستأجر، أو الشاري لو كان بائعًا، ليتم إجراء "دراسة أمنية" عليهما، والتأكد من خلو سجلهما من أي مذكرات قبض أو ملاحقة أو مراقبة وما شابه.

وبرغم إلغاء هذه الجزئية في عقود الاستئجار التي تُبرم في محافظة دمشق، إلا أنها بقيت مطلوبة في محافظة ريف دمشق. ويجري التفتيش على هذه الموافقات، والتأكد من وجودها، في العادة إما عبر حملات مباشرة تستهدف المنازل لتبيان ساكنيها، أو عبر المطالبة بعرضها على الحواجز العسكرية والأمنية ونقاط التفتيش المتنقلة.

تراجعت في الواقع وتيرة التفتيش على الموفقات الأمنية في العامين الأخيرين تأثرًا بنهاية العمليات العسكرية في محيط العاصمة، لكنها لا تزال من ضمن الأوراق المطلوبة لإتمام عملية البيع أو الاستئجار، برغم عدم قانونيتها. يوضح المحامي جهاد أنه لا وجود لنصوص قانونية تؤطر طلب الموافقات الأمنية أو تنص عليها، وهي ممارسة بحكم سلطة الأمر الواقع لا غير، وأن مختلف الأجهزة الأمنية في سوريا لجأت إلى هذا الإجراء منذ مطلع الأزمة السورية لتسهيل إحصاء ومراقبة حركة السكان وتوزعهم، واعتقال المطلوبين لها منهم، وتضييق المساحة عليهم. ولهذا، يضيف جهاد، إن كان غياب العقد الرسمي سيعني حرمان الأسرة من حماية القانون الذي يحدد مدة البقاء في المنزل وقيمة بدل الإيجار، فإن غياب الموافقة الأمنية قد يعرضهم لمضايقات أمنية واستغلال من عناصر هذه الأجهزة أحيانًا بهدف تحصيل الرشى، بحسب ما يدعي سالم حصوله معه مرات عدة خلال الأعوام الماضية.

وكأن الهموم الأمنية والاقتصادية لا تكفي وحدها لترهق الأسر النازحة والفقيرة، فيأتي المجتمع ليذكرهم على الدوام بما هم فيه من حاجة. "يعتبر الجيران أن كلّ من يسكن في شقة غير مكسوة، إنسان غير متحضر، وفي بعض الأحيان مجرم، كأن الشخص يختار هذه الإقامة بمحض إرادته"، يقول ربيع (اسم مستعار، 34 عامًا)، العامل المياوم الذي يستأجر أحد هذه الشقق. يضيف ربيع شارحًا أنه كلما كُسر مصباح كهربائي في البناء، أو تجمعت القمامة، حُمّل ساكنو الشقق غير المكسية المسؤولية من قبل سائر سكان البناء الذين يملكون شققًا مجهزة أو يستأجرونها. يختم ربيع حديثه قائلًا: "هكذا، يغدو الفقر وسوء الحال تهمة بحد ذاتها".

 

* أُنجزت هذه المادة في إطار برنامج تدريب يضم صحافيات وصحافيين من سوريا من تنظيم “أوان” وبدعم من منظمة "دعم الإعلام الدولي International Media Support".

‎سوريا وإشكاليات التصنيف

باتت توصيفات مثل "مؤيّد"، و"معارض"، و"رماديّ"، لا تُفارق حديث السوريين. غير أنَّ حملَك واحدة من هذه الصفا...

عسّاف منصور

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة