في زمننا، لا ضوابط على إعلام الأفراد. قد تمرّ بقناة على "يوتيوب" تبثّ يوميات مراهقٍ يحبّ أن يأخذنا معه في جولة إلى المرحاض، وستُفاجأ، أو ربّما لن تفاجأ، حين تعلم أنّ هناك عشرات آلاف المشتركين الذين ينتظرون نِتاجه المُدهش.
العقدان الماضيان جعلا الكوكب أكثر اضطراباً. عصرُ السرعة حوّلنا من باحثين عن المعلومة إلى محاصرين بها. كنّا، في ما مضى، نتسمّر أمام التلفزيون، ونقلّب الفضائيات كلها بحثاً عن صورة تخصّ اجتياح العراق، أو وثائقيٍّ يحكي عن 11 سبتمبر، أو فيديو يوثّق لحظة فوز أول متسابقٍ عربي بجائزة المليون. كنّا نبحث. كنّا، نحنُ، من نقرّر متى وعن ماذا نبحث، أمّا اليوم فالموبايلات تمطرنا بالترند وتُرشّح لنا المقاطع الأكثر مشاهدةً في بيئاتنا، فنجد أنفسنا، من دون أن نشعر، نشتبكُ مع ميوعة المحتوى. البعضُ يعزو ارتفاع صبيب مشاهدة "المحتوى الخفيفِ" في العالم العربيّ، إلى سوداوية المرحلة التي جعلت الناس يميلونَ إلى ما يمكن أن ندعوه اصطلاحاً "التسلية لأجل التسلية"، حتّى وإن كان الخطابُ أجوفَ.
في زحام الفيديوهات التي لا يُدهشك فيها إلّا عدد مُشاهداتها، قليلةٌ هي الاقتراحات التي نجحت في تحقيق معادلة "محتوىً نوعيّ ورائج في الآن ذاته"، ولعلّ أبرزها ما يجعلك تبتسم كلّما قِيل لك "عزيزي المشاهد"... الدّحيح.
"الدحيح" برنامجٌ ذو طابعٍ علميّ، قدّمه الباحث و"اليوتيوبر" المصري أحمد الغندور، وأطلق أولى حلقاته، بعنوان "عشان مِسر"، بتاريخ 31 آب 2014، على منصّة "يوتيوب"، قبل أن تحصل شبكة AJ+ على حقوق العمل لتبدأ ببثّ حلقاته، وفق هوية بصرية جديدة، في 29 تموز 2017 بعنوان "نهاية الموت".
قاموسُ موضوعات الدحيح واسعٌ بما يكفي لأنْ نقول إنّ الكثيرين قد تناولوه قبلاً. وثائقيات كثيرة حكت عن تاريخ الحربين العالميتين الأولى والثانية. برامجُ كاملة فُردت للحديث عن الثقب الأسود. أفلامٌ روائية ذاتُ إنتاجٍ ضخم حكت عن صعود آدولف هتلر وزعامة الرّايخ، الأمرُ الّذي يحيل إلى سؤال حول "ما الجديد الذي جاء به الدّحيح حتّى استطاع أن يحقّق جماهيريّته هذه؟".
بدأت الكتابة عام 3500 قبل الميلاد. عبر 5520 سنة، ما عاد هناك موضوعٌ لم يُكتب أو يُحكى عنه. الجديد، دائماً، يتعلق بـ"كيف تحكي الحكاية؟".
لعلّ السؤال أعلاه يُمكن أن يدلّ على واحدٍ من مفاتيح النجاح في شغل الدحيح، فأحمد الغندور استثمر في الطرافة، وغلّف موضوعات معقّدة، مُشبعة بالأرقام والإحصائيات، بلبوسٍ كوميدي، أسّس لما يُقال عنه اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي "العلم الشعبيّ".
شابٌّ يرتدي الـ"تي شيرت" الرمادية ذاتها، بتسريحة الشعر ذاتها. ألِفه الجمهور، وألِفوا غرفته البسيطة الّتي تحاكي غرفاً مماثلةً في بيوتنا. هكذا، يبدو الدحيح وكأنّه واحدٌ منّا. لا يتعالى، ولا يُلقّن، بل يحكي متنقّلاً بين كاميرتين اثنتين، متّكئاً على تقنية “Pause – Play” في تصوير الحلقة ومونتاجها، وهو أسلوبٌ يُعلّم عقل المُشاهد أن يحفظ معلومةً وينفتح لتلقي أخرى ثمّ يحفظها ثم ينفتح على تلقّي أخرى، وهكذا.
يتوقف الغندور عن الروي، ويمنحُ عَقل مشاهديه إجازة ريثما يعود وفي يده حبّة خيار أو تفّاحة، يأكلها وهو يتابع حديثه عن "الهولوكوست" أو "خصوصية ليونيل ميسي" أو "الاحتباس الحراريّ" وكأنّه يقول لك "لا تأخذ موقفاً مُسبقاً من العناوين الكبيرة، فالموضوع بسيط، ويُمكننا أن نناقشه على كأس شاي".
لا يقدّم الدحيح معلومة واحدةً دون أن يذكر مصدرها. اعتداده بهذه الجُزئية يحضر في نهاية كلّ حلقة، إذ يُذكّرنا بضرورة أن "نبصّ على المصادر" التي تُوثّق محتواه.
في 9 حزيران، 2020، أعلنت شبكة AJ+ فضّ الشراكة مع الغندور، من دون ذِكر أسبابٍ واضحة للتوقف عن صناعة واحدٍ من أكثر المحتويات رواجاً في العالم العربي.
توقّف "الدحيح" صار، على مدى الأيام القليلة الماضية، حديث شريحة لا بأس بها من مُستخدمي "السوشال ميديا" في العالم العربي، الأمرُ الذي يُحيل إلى ما يمكن أن نسمّيه "جمهوراً أصيلاً" بناه الغندور خلال السنوات الستّ الماضية.
في صورة تذكارية مع فريق العمل، يظهر الغندور محاطاً بما يزيد عن عشرين شخصاً. الأمرُ الذي يُفسّر غزارة الإنتاج التي جعلت البرنامج يُبثّ بمعدّل حلقتين أسبوعياً، ويشرحُ الأهمية التي اكتسبتها الميديا البديلة والتي أدّت إلى خلقِ منصّات تُعنى بهذا النوع من الإعلام فقط.
شبابٌ كثر، في منطقتنا، باتوا يعتبرون الغندور نموذجاً يحتذى به، فالشاب المصري، من مواليد 1994، استطاع أن يصبح واحداً من المشاهير العرب، وأن يقدّم مثالاً عن إمكانية المزاوجة بين طرحٍ قيّمٍ وأسلوبٍ عصري يحقّق رواجاً بين المشاهدين، لكنّ ذلك لم يمنع متابعي الدحيح من التساؤل عن السبب الذي عطّل الشراكة بينه وبين المنصة القطرية، خصوصاً أنّ البرنامج كان يؤمّن عائدات كبيرة بالقياس إلى عدد مشاهداته.
الأكيد أنّ تجربة الدحيح لن تتوقف هنا، وأنّ الاستثمارَ في جماهيرية مقدّمه لن ينتهي في غرفة الدحيح، والأكيد أيضاً أنّ هناك ملاحظات على البرنامج، لكنّ الاحتفاءَ بالمحتوى يظلّ واجباً، فهو، بدرجة ما، نموذجٌ أبيضُ يوشك أن يصير نادراً في عصرِ "البلوغرز" و"الإنفلوانسرز" و"الفاشينيستاز".