“كوكتيل شقف بلا معنى”: عندما يكون الحبّ ثورة‎

خلطت جنى بو مطر أوراق الحاضر، وبينما كانت تكتب عن الألم والعنف، طرحت مفهومًا ثوريًا في بيروت 2022، وهو الحبّ.

“كلّ الذين وقعوا في الحب، كانوا يبحثون عن الأجزاء الناقصة من أنفسهم. لذلك، كلّ من يحب يصبح حزينًا عندما يفكّر في محبوبه. الأمر يشبه العودة بعد زمن طويل إلى غرفة تحمل كلّ ذكرياتك.”

هاروكي موراكامي

لا يمكننا الوصول إلى مسرح زقاق في منطقة الكرنتينا-بيروت، حيث تُقدّم جنى بو مطر مسرحيتها الأولى “كوكتيل شقف بلا معنى”، من دون أن نشعر بالخوف الذي يخيّم على كلّ شيء في المدينة، ومن دون أن نمرّر أعيننا على عنف هائل وعشوائي يقطر من بين حجارتها الباردة.

دعتنا جنى إلى احتفال وحداد، لتخلق مع أصدقائها حكايات من الحياة عن الحب والعنف معًا، داخل قاعة زقاق التي احتفظت لنفسها بندبات انفجار بيروت وجراحه.

عاندت بو مطر لحظة (الآن/هنا)، شرط المسرح اللازم وشرطية الحياة القاسية، وكتبت بأسلوبها الخاص مشاهد جميلة فوق قبح الواقع المعاش. تحدّثت من خلال هذه المشاهد عن السياسة وعنفها، وعن الحرب الوجودية والأزمة الاقتصادية، وعن هاجس الهجرة الذي يقود الشباب إلى ممرات النجاة الضيقة، حيث تجرّدهم البيروقراطيات المعاصرة من هويّتهم الحقيقية وتلبسهم زيّ الضحية المثالية. هذه الضحية التي تزيدُ احتماليةُ نجاتها فقط إن عانت بشكل أكبر وأوضح، وعبّرت عن التخلي وآثاره، والوحشة وآلامها. لقد خلطت بو مطر أوراق الحاضر، وبينما كانت تكتب عن الألم والعنف، طرحت مفهومًا ثوريًا في بيروت 2022، وهو الحبّ.

لكن قبل البدء بربط أجزاء المسرحيّة ببعضها واستخلاص معنىً ما منها، لا بدّ أن نتطلع إلى المكان الذي بدأ فيه العرض، وهو عالم أزرق خلقته بو مطر في عمق المسرح، يظهر لنا اسمه معلقًا بوضوح ليفيد بأنه “بلا معنى”، كما لو كان يحوي تحذيرًا مرحًا، ودعوةً للاستسلام إلى الخيال والانغماس فيه تمامًا. وهذا بدوره… تحذيرٌ مرحٌ آخر!

تواطؤ للبوح بقصيدة

خلقت بو مطر عالمًا حسيًا بالكامل يستوعب الاختلاف، سواء كان سياسيًا، أم اجتماعيًا، أم دينيًا، أم جندريًا. لكنّه يطرح تعقيدات من نوع آخر، أشبه بجرح على وجنة طفل صغير. تعقيدات بسيطة، لكن وحشيّة.

وشكّلت الصور المتتالية على خشبة المسرح، بدلالاتها الكثيفة، ومضات في مسار البحث عن معنى. بدت المشاهدُ المكثّفة عرضًا لذرواتٍ شعورية، كما لو كانت تهدف لقيادتنا إلى نهاية ما:

قصة حبّ يمزّقها الفراق، حبّ غير مكتمل، إنسان يرغب بالهروب من واقعه لدرجة أنه نسي أن يعيشه، ألمٌ يرافق الأمل، وخوفٌ يظهر كإصرار على النجاة.

ثمّ حبيبة تهذي بأن الفراق سيقتلها، شوق وخوف يقودانها من الهجر إلى الألم أيضًا، وذكريات تتشكّل فيها الكثير من القسوة.

وأخيرًا، شخصية ثالثة ربما ترمز لأم ذُبح ابناؤها وظلّت تنظر شاردةً إلى صورهم، أو لعاشق يئس من انتظار الحبيب، أو ببساطة… لواحدة من مُدننا.

 

تَتَتابع القصص، كما لو كانت شهقات أخيرة تعيشها شخصيات صيغت برقة، لدرجة أنها تكاد تختفي لولا مشاهدتنا لها، اعترافًا منّا بوجودها.

كان العرض المسرحي عن عالم لا حبّ فيه. ولأن النهايات هي الأكثر إيلامًا، تدخّل الموسيقيّ علي صباح في المشاهد نفسها، فخرج مرات عدّة من دوره كمراقب هادئ، ليُعيد الشخصيات والقصة إلى لحظة البداية، إلى بداية الحبّ وضباب الصباح والندى، هربًا من شمس الظهيرة الحارقة.

أضفت الموسيقى التي أدّاها الصباح متعة على القسوة أمامنا. كانت أشبه بنصّ ثان جعل أداء الممثلين (فرح كردي، جو رميا، انطونيلا رزق) للمشاهد وانتقالهم في ما بينها سلسًا كرقصة. ورافقت إضاءة أحمد حافظ هذا اللحن، فأخذتنا إلى عوالم الحب المؤلم.

لكنّ الصور المتتالية ولّدت شعورًا بالغرابة لدينا: لماذا نرتاح لمشهد قتال، بينما نحزن عند رؤيتنا قبلة أو عناقًا، كما لو كان الواحد منهما يجرحُنا؟ سنفهم هذا الإرباك بشكل أفضل عندما تعلن المخرجة تأثّرها الصريح بالسوريالي رينيه ماغريت، الذي قدّم جدليّة العنف والحبّ في الكثير من أعماله.

 

 

هذه المشاهد سبّبت إرباكًا لنا، تمامًا كما سبّبت إرباكًا للممثلين الذين فتحوا معنا، نحن الجمهور، حوارًا في نقطة محايدة ولو ظاهريًا. لقد أراد الممثلون التواجد في العرض، حيث يشعرون بوجودهم، لكنّهم لم يوافقوا على قصّة تتوالى على هذا النحو. بينما أردنا نحن التواجدَ في المسرح، من دون أن نوافق بالضرورة على ما نراه. هكذا، سيرفض الممثلون أن يكونوا تحت ضغط ما تفرضه عليهم القصّة، وسنختار نحن الأمل على حساب الألم.

المشهد الأخير من العرض: الوداع

في المشهد الأخير من العرض، يعود الممثلون إلى نقطة البداية، إلى العالم الأزرق الموجود في عمق المسرح. هناك يصِفون خروجنا نحن: سيجارة ولقاءات حارّة، تعليقات على العرض، أحاديث عن العودة إلى انشغالاتنا اليومية، وفنجان قهوة في اليوم التالي. يحاول الممثلون، بأمانة، إعادتنا إلى طمأنينتنا، وتأمين خروجنا من المسرح سالمين.

لكن ربّما النهاية لم تكن كذلك تمامًا. ربما لن نستخلص معنى محددًا للعرض “استجابة لتحذير فريق العمل”. لكنّ الأكيد أننا خرجنا ونحن نفكر بالحبّ، وبقصصه التي تخلق فجأة وتنتهي ببطء، ولعلّ معظمنا عاد إلى المنزل بينما تبحث عيناه عن دفء ما، في هذه المدينة الباردة.

من قصص النسيان السوريّة

في حصارنا الآن لم نفقد حريتنا فقط، بل فقدنا كل شيء تدريجيًا، خصوصيتنا وفرديتنا، أشخاصًا نعرفهم، أملاكنا..

سلوى أرسلان

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة