حيدر حيدر: رحيل النورس المهاجر

بغياب حيدر حيدر، ينطفئ سراج آخر في الثقافة السورية، بعدما أرّخ لخسارات متتالية، وهو يرى أحوال التدهور والتدجين وحطام المدن، والخيانات.

انطفأ سراج آخر في الثقافة السورية، غاب حيدر حيدر(1936- 2023)، أحد علامات السرد السوري المضاد. فصاحب "الوعول" لطالما حرث نصوصه في الأرض الملغومة، مازجًا الوقائع بدفق شعري آسر، كدمغة خاصة به. فهو، منذ "حكايا النورس المهاجر" (1968)، اختط أسلوبًا متفردًا في بناء عمارته التخيّلية المحمولة على رافعة المنفى. كأن رحلته هي تدوين لذلك الاغتراب الوجودي الذي رافق حياته في مختلف مراحلها، من الجزائر مسهمًا بحملة التعريب، مرورًا ببيروت الحرب الأهلية والحصار الإسرائيلي، لينتهي في قبرص مع فلول المقاومة الفلسطينية. ومثل دون كيخوت خاسر، عاد في سنواته الأخيرة إلى مسقط رأسه في "حصين البحر"، على مقربة من شواطئ طرطوس في الساحل السوري.

كان حيدر حيدر مأسورًا لتجاربه الشخصية وتدوينها في سياق بلاغي، بلغة متوترة، إلى أن صفعته ريح التكفير إثر طبع روايته "وليمة لأعشاب البحر" بنسخة مصرية، لتُحاكم أزهريًا وتُمنع من التداول في معظم العواصم العربية. هذا الجدل كان حصيلة تجربة سردية مثيرة، تتقاطع مع سيرته الذاتية، وانخراطه بأسلوبية تيار الوعي الذي أسس له فوكنر على نحو خاص، في "الصخب والعنف".

أنجز صاحب "مرايا النار" مدوّنة سردية متفردة، لكن النقد أهملها طويلًا، سواء لجهة التمرّد على الأعراف الأدبية، أو لجهة تمرّده الشخصي على أحوال الاستبداد السلطوي. في كتابه "يوميات الضوء والمنفى" الذي صدر أخيرًا، يؤرخ حيدر لخسارات متتالية، وهو يرى أحوال التدهور والتدجين وحطام المدن، والخيانات. يوميات مضادة تنطوي على سخط عمومي مما آلت إليه أحلام جيله، حاملًا على ظهره سنامًا من الهزائم والاندحارات والخديعة، إذ تهتز صورة المثقف الثوري أمام أهوال ما حدث ويحدث في خرائط سريالية، يعالجها ببسالة الاعترافات، وبهتك ما هو مستور، بأقصى حالات الغضب، وقد وجد نفسه محاصرًا مثل "حيوان في قفص".

هنا مقطع من اليوميات يضيء مرحلة من حياة الروائي الراحل:

أيار 1976

وأنا أغادر بيروت للمرة الأخيرة شعرت كأنني أخونها. أتركها وحيدة تحت الحريق والأنقاض والتهديد بالطاعون.

بيروت تحت القتل وأنا بعيد عنها.

وبيروت المدينة التي كانت مزدهرة بالفرح واللون هي ذي الآن تتلون بالدم والدخان والجثث، وأنا أتركها. وأنا عايشتها في أزمنة القصف والموت والظلام والرعب. كنت مع بيروت الفقراء. جسَسْتُ نبضها وآخيته في الشيَّاح ومخيم صبرا وساحة الشهداء والشوف والمتين وعاليه و قرنايل. عشت مع الثوار. سمعت أصوات بنادقهم وجاورتني قنابل اليمين الفاشي. أكلت من طعام المقاتلين ونمت معهم في الجبال. وفي الليالي المعتمة كان صوت الرصاص والقنابل موسيقانا.

لم يكن ذلك بطولة. كان مشاركة.

لم يكن ذلك استعراضًا. كان اختبارًا.

ولم يكن ذلك امتيازًا. كان انتماء للثورة التي تجري في مجرى الدم. انتماء لها أينما انفجرت في وطني وفي العالم.

الثورة بأي شكل ظهرت هي ممارسة وفعل قبل أن تكون نظرية في أدمغة المثقفين. هذه واحدة من الحقائق التي اكتشفتها إبان الحرب الأهلية في لبنان.

حقيقة أخرى تعلمتها: الثورة، وهي تعاش وتمارس فعلًا، تغيّر الإنسان. تنقله من طور إلى طور آخر. تكسر جدار الخوف والأنا الذاتية. تعلمه كيف يتصلّب ويمتد نحو الآخر.

كيف ينصهر مع الجماعة ليشيدوا معًا من الألم والموت مدينة الفرح والحياة الجديدة.

آه. لو تنتقل عدوى هذه الحرب الأهلية إلى كل عواصم العرب لتنهض جمهورية الفقراء من خلال نيران الصراع الطبقي فوق أنقاض مدائن العرب الغاصّة بالقتلة واللصوص من كلاب البورجوازية.

أيار 1976

مرة أخرى أعتذر يا بيروت. أعتذر لرفاق المقاومة والحركة الوطنية البواسل الذين يفتحون قبراً للإمبريالية وعملائها في لبنان، هذه الحلقة الأضعف في السلسلة العربية.

أعتذر لأنني أغادر لبنان إلى سوريا.

الثورة لا تتجزأ والنضال والمعركة يخاضان على أرض واحدة.

أنا الآن ما زلت في قلب النار، ينبغي خوض النضال الثوري بأقل ما يمكن من الضجيج، وبأكبر ما يمكن من الحذر لنعمل بصمت تحت ظلام الإرهاب.

أنا وحبيبتي بعيدان. هي في مغارب الأرض وأنا في مشارقها. وكلانا يتألم ويتحدى. نتألم لأننا بلا وطن ولا بيت ولسنا معًا نلتحم بدفء البشر وفرح المخلوقات الأرضية، ومع ذلك نتحدى توقًا للحرية.

منذ خمس سنوات ونحن نناضل ضد العالم القديم من أجل حريتنا. لقد ذقنا شقاء شارف ألوان الموت.

معًا شهدنا شهورًا من الحرب الأهلية في لبنان. ومعًا تعرضنا لليالي القصف والرصاص ولم نتخاذل.

كل منا كان يستمد من الآخر قوة في مواجهة الموت كما تستمد أشجار الغابة قوتها من تلاحمها وتراصّها وهي تتحدى العاصفة.

حبنا الشقيّ المشرّد في أقطار الأرض يصنع بيتًا مهجورًا متنقلًا. أنا وحبيبتي ننسج في ليالي الحزن والفراق والألم وطنًا، كما تصنع الطيور الدؤوبة أعشاشها رغم الريح والأمطار وتهديد الصقور الجارحة.

في هذه السنوات الضروس المسنونة نشيّد تاريخًا لحكاياتنا القادمة.

كم سنكون سعداء وممتلئين عبر السنوات التي سنعيشها معًا. لن تكون أيامنا فارغة ومجوّفة ومملة. سنعيشها فوّاحة بزهور ذكريات الألم والصمود. وحين سنكون معًا في فراش واحد أو على الشواطئ وفوق الأعشاب أو في القطارات تحت ضوء القمر، ونحن نفرح بالمطر كالأطفال، سنروي حكايات عن أزمنة اليباب والتوق والرغائب التي كانت محرمة علينا.

الوصفة الأبديّة لصناعة البهجة

قضى خالد خليفة سنواته الأخيرة بين دمشق واللاذقية بما يشبه ترحال الغجري الجوّال، إذ أغرته مناخات المدينة..

خليل صويلح
سوريون يستعيدون خريطة الغناء المغيّبة

تراكمت فاتورة الخسائر الباهظة في تحطيم السلّم الموسيقي في سوريا، واقتحم مغنو الأعراس الشاشات، وباتت..

خليل صويلح
كُلّ هذا الهراء!

في تعريف التفاهة لغويًا "نقص في الأصالة أو الإبداع أو القيمة". وإذا بالمعادلة تذهب إلى عكسها اليوم: إذا..

خليل صويلح

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة