هجرة الفلسطينيات من غزة: فرق بين "الحياة" و"العيش"

ثمة ما يؤشر إلى أن أن زيادة المستوى الثقافي والمعرفي للإناث في قطاع غزة هو من العوامل التي أسهمت في زيادة أعداد اللواتي يهاجرن أو يسافرن إلى الخارج بحثًا عن العمل أو التعليم.

لم تكن الهجرة من قطاع غزة بالنسبة للصحافية الفلسطينية بيسان شحادة محض قرارٍ اتُّخذ في "جلسة صفا". بل بدت قرارًا محتومًا عندما ضاق الخناق على الكلمة التي تكتبها في حسابها الشخصي على "فيسبوك"، من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية المحسوبة على حركة "حماس".

وبرغم عملها المستقر في إحدى المؤسسات، وحصولها على تصاريح تنقّل عبر حاجز بيت حانون "إيرز"، بين القطاع، والأراضي المحتلة عام 1948، والضفة الغربية، وإمكانية سفرها عبر الحدود مع مصر، إلا أنها كانت تفاجأ بـ"مُضايقات" تطالها تحديدًا  "على يد عناصر الأمن الداخلي" وفق قولها، أثناء مرورها لزيارة أشقائها في الولايات المتحدة.

تتحدث بيسان عن تحقيقٍ خضعت له، تضمّنَ أسئلةً شخصية وُجّهت إليها من قبل العناصر الأمنية، منها "أسباب عدم ارتدائها الحجاب، والراتب الذي تتقاضاه من عملها، والجهات التي تتواصل معها". تقول: "فوجئتُ آخر مرة بالمنع الأمني بسبب منشور، فلجأتُ إلى بعض الوساطات، وسُمح لي بالسفر بعدما وُضِع اسمي على قائمة المطلوبين للتحقيق فور عودتي من جديد إلى غزة".

هنا تحتّم اتخاذُ قرارٍ سريع؛ لن تعود بيسان إلى غزة من جديد: "ما تعرضتُ له عزز قناعتي بأن غزة تختنق! أنت كمواطنٍ هناك بحاجة لأن تخوض صراعًا عظيمًا من أجل محاولة العيش بأقل المتوفر، بينما الحرية الحقيقية التي يستحقها الإنسان هناك أعظم من أن تُوصف"، تقول. والأمر لا يتعلق -تتابع بيسان- بالواقع الأمني الداخلي بغزة، "فلا يجب أن نغفل التهديد الإسرائيلي الدائم، والشعور بعدم الأمان نتيجة العدوانات الإسرائيلية، وجولات التصعيد المتكررة التي تضرب رأس القطاع منذ عام 2006 أرواح سكانه، وأحلامهم، وحتى تفاؤلهم بمستقبلٍ قادم".

وأظهرت إحصائية سابقة، صدرَت عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عام 2017، أن نسبة الشباب الذين يرغبون في الهجرة من قطاع غزة وصلت إلى 37%، مقابل 15% في الضفة الغربية، لافتةً إلى أن الشباب الذكور أكثر ميلًا للتفكير في الهجرة مقارنةً بالإناث، بنسبة 29%، مقابل 18% لدى الإناث.

أما الشابة الفلسطينية إيمان، التي تحفّظت على ذكر هويتها كاملة لأسبابٍ اجتماعية، فاختارت قبل سنوات مغادرة القطاع بعدما فقدت الأمل في الحصول على وظيفةٍ بأجرٍ يناسب إمكانياتها ومؤهلاتها العلمية، نظرًا لارتفاع معدلات البطالة وتداعيات الحصار الإسرائيلي.

تقول: "قرار الهجرة جاء بعد فترة طويلةٍ من التفكير، وفرص العمل المؤقتة سواءً في القطاع الحكومي أو الخاص، بأجرٍ بسيط. انتقلتُ إلى تركيا، وحصلتُ على فرصةٍ بعد فترةٍ وجيزة. تزوّجتُ هناك، واستقرت حياتي الأسرية والاجتماعية، لكن باتت عودتي لقطاع غزة صعبة للغاية، بسبب صعوبة الأوضاع المعيشية والاقتصادية  المتردية هناك".

وتشير بيانات جهاز الإحصاء المركزي إلى أن معدل البطالة في غزة بلغ 46.9%، بواقع 41.9% بين الذكور مقابل 65.0% بين الإناث، كما وصل أعلى معدل بطالة بين الشباب للفئة العمرية (15-24) سنة لكلا الجنسين، حيث بلغت (68.9%)، بواقع (65.0%) بين الذكور، مقابل 86.8% بين الإناث من نفس الفئة العمرية.

وفي حالةٍ أخرى، فضَّلَت إحدى السيدات التي طلبت عدم الإشارة لهويتها البقاء خارج قطاع غزة برفقة طفلَيها المُصابَين بالتوحد، بعدما واجهت لسنوات معاناةً كبيرة نتيجة الظروف المعيشية والاجتماعية التي عصفت بها هناك.

تقول السيدة: "وافقتُ على احتضان إحدى المؤسسات الألمانية لهما، بشرط السفر خارج البلاد. لم أفكر بالأمر مطلقًا، فهذه الفرصة فقط هي التي ستوفر لهما حياةً تلائم واقعهما الصحي والنفسي".

الحياة الصعبة التي واجهتها في غزة، وتعنيف زوجها المستمر لها، ورفضه للأولاد نتيجة حالتهم الصحية الصعبة، والإشكاليات المتفاقمة مع عائلتها أيضًا بسبب حياتها الاجتماعية المعقدة، كل ذلك دفعها أكثر نحو قبول فكرة الهجرة، "بدت الفكرة كطوق نجاة. ولهذا لم أتردد لحظة".

في السياق، تشير النسوية والمديرة العامة لمؤسسة "فلسطينيات" وفاء عبد الرحمن إلى أن الشابات كما الشباب، لديهن كافة الأسباب للتفكير بالهجرة والبحث عن المستقبل، في ظل غيابه في قطاع غزة نتيجة الحصار، واعتداءات الاحتلال المتكررة".

وتقول: "الانقسام الفلسطيني أيضًا، وأثره على الحريات العامة، والاعتداءات على حرية الرأي والتعبير المستمرة، والبطالة، وقلة فرص العمل، والتراجع المجتمعي، وظلم النساء، كلها أسباب دافعة للفكرة"، لافتةً إلى أن النساء في فلسطين عمومًا يعانينَ من فكرٍ واحد تجاههن، "فهنَّ مطالَبات بالمساهمة في تأسيس أسرهن -الصغيرة أو الممتدة- ودعمها، لكن ضمن شروطٍ وقيودٍ وأحكامٍ جاهزة مسبقًا".

وبحسب عبد الرحمن، فإن ربع الإناث في قطاع غزة "أو أكثر يفكرن بالهجرة"، مدللةً على ذلك بقولها: "مثلًا في نادي الإعلاميات (وهو أحد برامج فلسطينيات)، هناك 400 عضوة من قطاع غزة، خضعن لعملية تقييم العام الماضي 2021، وقد لفتنا آنذاك أن ما نسبته الربع، هاجرن لأسباب تتلخص في التعليم، أو العمل، أو الزواج".

وفق تقييمها، ترى عبد الرحمن أن هجرة السيدات والشابات إلى خارج قطاع غزة يقترب من التعامل معه كظاهرة، "لكن ذلك لم يحدث بعد، ليس لقلة من يفكرن في الهجرة، بل لأن النساء بطبيعتهن ربما أقل تهورًا في اتخاذ قرارٍ مصيريٍ كهذا من الذكور" تستدرك.

إلى ذلك، يؤكد الحقوقي الفلسطيني عبد الله شرشرة أن زيادة المستوى الثقافي والمعرفي للإناث في قطاع غزة يعتبر من العوامل التي أسهمت في زيادة أعداد اللواتي يهاجرن أو يسافرن إلى الخارج بحثًا عن العمل أو التعليم.

ففي حين يؤكد شرشرة أنه يمكن وصف الهجرة غير الشرعية بـ"الظاهرة"، وهذا الأمر يشمل الشباب من الجنسين، فإن هجرة الشابات بشكل خاص لا يمكن اعتبارها ظاهرة، إنما يمكن القول إن الوضع بقطاع غزة وتزايد عدد المؤسسات التي تقدم منح دراسية للفتيات، وشيوع ثقافة العمل الحر والرقمي، أمور ساهمت في ازدياد أعداد الفتيات اللواتي يتركن قطاع غزة للعمل أو الدراسة.

ويضيف أن الحروب المتكررة، والوضع الاقتصادي المتردي، بالإضافة إلى البطالة المرتفعة، والقيود الاجتماعية، وانحسار المشهد الثقافي كلها عوامل ساهمت في تزايد أعداد الشباب الذين يفضلون الهجرة على البقاء في الوضع الراهن.

ولا يغفل الحقوقي شرشرة الدافع السياسي الذي يعتبر أهم العوامل التي تؤدي لتزايد أعداد المهاجرين، خصوصًا أن المبررات السياسية هي أبرز  أسباب طلب اللجوء في أوروبا، ويقف خلف ذلك الانقسام وانحسار مساحة التعبير عن الرأي.

لقد بات الكثير من شباب غزة ينظرون إلى "الهجرة" كطوق نجاةٍ من نارٍ أضرمها الانقسام في أعمارهم وأحلامهم معًا، وتركهم "فُرادى" يواجهون محتلًا لا يرحم، وأقطاب حكمٍ متنافرة، تبتسمُ للصورة في جلسات حوارٍ شكلية، وتخدع بصيص الأمل في قلوبهم. 

 

* أُنجزت هذه المادة في إطار برنامج بتنظيم من الجامعة الأميركية في بيروت ودعم من منظمة "دعم الإعلام الدولي" International Media Support
* تُنشر بالتزامن مع مؤسسة "فلسطينيات"