حليب الأطفال «سلعة عزيزة»: ألعاب السوق السورية بلا خطوط حمراء

قد يبدو التساؤل عن سبب عدم وجود معمل لحليب الأطفال في سوريا سورياليًا، برغم أن "المنطق" يقتضي التفكير في إيجاد حل جذري لسلعة بالغة الأهمية، بعدما احترق مصنعها الوحيد قبل عشر سنوات.

انتهت جميع محاولات سحر (اسم مستعار) لتهدئة طفلها الرضيع بالفشل، بعدما عجزت عن إشباعه بسبب نقص الغذاء في حليبها، وتعذُّر الحصول على الحليب الصناعي الذي بات "سلعةً عزيزة" يندر حضورها في الأسواق السورية، لتلجأ في نهاية المطاف إلى إرضاعه لبنًا رائبًا مع القليل من السكر.

تقول "لم أستطع مواصلة إرضاع طفلي طبيعيًّا بسبب افتقار حليبي للغذاء اللازم. طلب مني الطبيب إرضاعه حليبًا صناعيًّا، لم أتحمل تكلفته لأكثر من أسبوع، فلجأتُ دون استشارته إلى اللبن الرائب".

حيلة سحر لم تحلّ مشكلة طفلها، بل زادتها تعقيدًا مع تلقي الطفل مكونات لا يستطيع جهازه الهضمي التعامل معها. هكذا، وجدت نفسها مضطرة إلى تكبّد نفقات الحليب الصناعي مهما بلغت، غير أن رفوف الصيدليات كانت قد خلت من أصناف الحليب كلها.

أزمة متكررة

منذ سنوات اعتاد السوريون سماع الأسطوانة ذاتها بين وقت وآخر: "الحليب مقطوع". لا يُنتَجُ الحليب الصناعي داخل سوريا. قبل الحرب كانت حاجة السوق المحلية تُغطى عبر مصنع وحيد هو "نستله" الذي أُقيم عام 1997 في بلدة زاكية بريف دمشق، وفقًا لقانون الاستثمار رقم 10، وبترخيص من "نستله" العالمية، لكن المصنع أُحرق عام 2013 ولم تقُم له بعد ذلك قائمة.

مذّاك صارت أصناف "نيدو" و"نان 1 و2 و3" التي تنتجها "نستله" تصل إلى سوريا بواسطة مستوردين وتجار عبر دول أخرى، مثل إيران والإمارات، وبصورة غير منتظمة. وفي العامين الأخيرين، تكررت الانقطاعات ودخلت إلى السوق أصناف أخرى مثل "بيبي لي" و"نترو بيبي" و"بيومين" المصنعة في نيوزلندا، بصورة غير منتظمة أيضًا، ومع انقطاعات متكررة غالبًا ما ينتهي كل منها مع رفع السعر.

تقول الصيدلانية لجين (اسم مستعار)، إنّ "حليب الأطفال بأنواعه كافة ينقطع بشكل متواتر. كل بضعة أشهر يتكرر السيناريو ذاته، علمًا بأن عملية التوزيع أصبحت على شكل "حصص"، أي علبة أو علبتان من كل نوع لكل صيدلية".

تحصل لجين، كما بقية الصيادلة، على الحليب عبر أصحاب المستودعات. تقول: "هناك مستودعات محددة تحتكر الحليب الذي يُستورد من دول وسيطة". تحيطُ علاماتُ استفهام كثيرة بكل ما يتصل باستيراد الحليب، وتخزينه، وتوزيعه. ووفقًا للجين "هناك محال تجارية تتوافر لديها أنواع من الحليب مفقودة في الصيدليات". ويبدو أن التلاعب بالسوق ليس حكرًا على المستوردين وأصحاب المستودعات فحسب، بل إن "بعض الصيادلة متورطون بالمتاجرة بالحليب أيضًا".

لا يخضع حليب الأطفال للعقوبات. برغم ذلك، تُضفي العقوبات المفروضة على القطاع المصرفي صعوبات وتعقيداتٍ تتعلّق بالتحويلات المصرفية وسداد فواتير الاستيراد. لكنّ حل هذه العقبة ليس مستحيلًا كما يتضح من حركة السوق ذاتها. فالحليب يصل شأنه شأن سلع غذائية أخرى، سواء من دول لا تنتهج سياسة الامتثال الزائد، أو أخرى لا تُطبق العقوبات. تواصلنا مع شركة "نستله" عبر البريد الإلكتروني الرسمي لمكتب دبي، ثم مع مكتب الشرق الأوسط، للسؤال عن أسباب انقطاع المنتجات من السوق السورية. وبعد شرح صفتنا الإعلامية، والغاية من التواصل، طُلب منّا إرسال ما لدينا من أسئلة، وهو ما حصل بالفعل. وبعد مماطلة استمرت نحو شهر جاء الردّ في نهاية المطاف مقتضبًا يؤكد أن "جميع منتجات نستله موجودة في سوريا باستثناء منتجين اثنين"، وعند السؤال عن أماكن بيع هذه المنتجات أو توزيعها، وطرق الحصول عليها، كان الجواب بالتساؤل إن كنا نملك محلاً تجاريًا!

خلو الأسواق من حليب الأطفال مجرد مقدمة لرفع سعره

"حلول البزوريّة"

ريم أيضًا أمٌّ لرضيع يحتاج حليبًا صناعيًّا. ومع تكرر انقطاع الحليب المعلّب، وفشل محاولات إيجاده، وجدت نفسها مضطرة للجوء إلى بدائل غير معروفة المصدر. تقول: "اضطررنا لشراء الحليب من البزورية (أحد أسواق دمشق القديمة). يُباع هناك بالكمية التي تريدين وبسعر أقل، تستخدمه أمهات كثيرات هنا بسبب غلاء الحليب وانقطاعه".

تُباع في البزورية أصناف من الحليب المجفف، يقال إن منها ما هو نيوزيلندي، ومنها ما هو روسي الصنع، ويمكن شراؤها كأي صنف من أصناف الحبوب أو البهارات، وفق صيغة تُسمى شعبيًّا "الفلش"، بالكيلوغرام، أو حتى الأوقية.

من المتعارف عليه أن "الحليب الفلش" لا يناسب الرضّع إلا في عمر السنة وما فوق. لكن هذا لم يعد يؤخذ في الحسبان، فالأم التي تعاني أساسًا من نقص في التغذية ستضطر إلى استخدام أي نوع "يُسكت جوع الطفل"، وتستطيع تأمينه، متغاضية عن فوائد هذا الحليب وأضراره.

هناك العديد من الأسباب التي تقف عائقًا أمام الرضاعة الطبيعية، بعضها يتعلق بالطفل، وبعضها بالأم. وبحسب الطبيب وائل سلمان، تنقسم موانع الإرضاع الطبيعي إلى نوعين: مطلقة، ومؤقتة. يشرح قائلًا: "من موانع الإرضاع المطلقة إصابة الأم بمرض الإيدز مثلًا، أو إصابة الطفل بمرض استقلابي نادر هو "الغالاكتوزيميا". أما الموانع المؤقتة فتتضمن تناول الأم بعض الأدوية التي تعبر الحليب، فضلًا عن حاجة بعض الرضّع إلى الحليب الصناعي بجانب حليب الأم كما في حالة ولادة الطفل بوزن يقل عن 1.5 كلغ.، أو للخدج في عمر أقل من 32 أسبوعًا حمليًا، والتوائم".

يوضح الطبيب أنه لا يمكن حلول حليب الأبقار محلّ الحليب الصناعي لأسباب عدة. فالصناعي مدعّم بالفيتامينات، خصوصًا فيتامين د، وبالمعادن، والحديد، والأملاح، كما تضاف إليه جراثيم نافعة (الفلورا). كما أن بروتين الحليب الصناعي معالج لجعله سهل الهضم، بعكس حليب البقر الذي يصعب هضمه وامتصاصه في سن مبكرة.

وفقًا لسلمان، يمكن الاستعاضة عن الحليب الصناعي - في حال تعذر الحصول عليه - بحليب البقر المعقم، المغليّ جيدًا، مع تمديده بالماء بنسبة 200%، أي بإضافة ليترين من الماء إلى كل ليتر حليب. ومع ذلك، فإنه يبقى غير ملائم للأطفال دون الستة أشهر.

استثمار غير مغرٍ

قد يبدو التساؤل عن سبب عدم وجود معمل لحليب الأطفال في سوريا سورياليًا، برغم أن "المنطق" يقتضي التفكير في إيجاد حل جذري لسلعة بالغة الأهمية، بعدما احترق مصنعها الوحيد قبل عشر سنوات. طرحنا السؤال على عدد من مسؤولي غرف الصناعة، من دون أن نتلقى ردًّا. فيما رأى الصناعي والمستثمر عاطف طيفور أنّ "المستثمرين يمتنعون عن مشروع كهذا لأن الغالبية تبحث عن الربح السريع بالمستوردات، علمًا بأن هذه الصناعة مدعومة بشكل كامل من البنك المركزي وهيئة الاستثمار وتحويل المستوردات". يقع مثل هذا الاستثمار خارج نطاق تخصص طيفور، الذي يرى أنّ "الدولة هي الأقدر على التصدي لمشروع كهذا، فالاعتماد على القطاع الخاص غير مجدٍ دائمًا، والقطاع العام هو السبيل الأمثل للتدخل الإيجابي".

أما الباحث الاقتصادي مقدام البربور، فيتحدث عن الجدوى الاقتصادية لمشروع معمل حليب في سوريا قائلًا: "حليب الأطفال من السلع الأساسية التي تكون مرونة الطلب السعرية عليها منخفضة. نظريًا، المشروع مُجدٍ في الحالات الطبيعية ومحدودية المنافسة، لكن سوريا في حالة استثنائية، واقتصادها اقتصاد أزمة، ما يجعل دراسة الجدوى الاقتصادية لهذا المشروع بجزئها الفني والمالي صعبة، ونتائجها المالية عالية المخاطر. وفي العادة ما يفضل المستثمرون الانتظار حتى يستقر الوضع ويتمكنوا من التخطيط بمستوى يقين مقبول".

ويعدد البربور بعض العقبات الفنية واللوجستية، بينها "صعوبة توفير المحروقات، والكهرباء، واليد العاملة المختصة، والمخابر اللازمة". أما في الجانب المالي، "فتكمن المشكلة بعدم القدرة على التنبؤ بالتدفقات المالية، خصوصًا في ظل عدم استقرار أسعار الصرف، وبذلك لا يمكن قياس أهم مؤشر وهو معدل العائد الداخلي". ويخلص البربور إلى أن "الاستثمار في سوريا اليوم سواء لمنتج أساسي أو كمالي يعتبر لعبة قمار، إذ يجب أن يصل الاقتصاد إلى مستوى معقول من الاستقرار لمنح المستثمرين الثقة، والاستقرار يعني وجود رؤية اقتصادية، لكن، للأسف، سوريا بإدارتها الحالية غير قادرة على إنجاز مهمة كهذه، والأزمة مستمرة بالتالي".

مبادرات ذاتية

أمام الاستغاثات المستمرة في الانتشار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، سُجلت مبادرات فردية لافتة للمساعدة في تأمين احتياج بعض الأسر. في شهر كانون الأول الماضي، أطلق المحامي ماجد (اسم مستعار) مبادرة جمع عبرها كمية من علب الحليب، لتوزيعها على عائلات لديها أطفال رضّع. وعن سبب قيامه بهذه المبادرة ونتائجها يقول: "السبب الأساسي للمبادرة غلاء الأسعار. نجحنا أنا ومجموعة من الأصدقاء بتأمين مئة علبة عن طريق الصيدليات". استمرت المبادرة تسعة أيام، ثم توقفت "لأننا أفراد، وهذا الأمر يفوق طاقتنا".

إزاء ما تقدّم، تتبنى التفسيرات الشعبية نظرية أثبتت دقتها في كثير من الحالات المماثلة التي تتكرر دائمًا بشأن سلع كثيرة، ومفادها أن "خلو الأسواق من حليب الأطفال مجرد مقدمة لرفع سعره".

وفقًا لـ"بورصة" الشهر الماضي، كانت أسعار العبوات الصغيرة (400 غرام) تبدأ من 18000 ليرة سورية، وقد تتجاوز 25000، طبعًا في حال توافره. ويُقدر احتياج طفل في عمر الشهر إلى نحو خمس عبوات شهريًّا.

أثناء إعداد هذا التحقيق، سألنا عشرات الصيدليات في دمشق، وحلب، واللاذقية، وحمص، عن مدى توافر الحليب. الجواب الذي تلقيناه كان واحدًا: "مقطوع". وفي الأسابيع الأخيرة صار أمرًا طبيعيًا أن نقرأ في اليوم الواحد منشورات عديدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يحاول أصحابها إيجاد طرق لتأمين حليب أطفالهم. أما المفارقة فجاءت قبل أيام عبر منشور لوزارة التجارة وحماية المستهلك عبر صفحتها الرسمية على "فيسبوك"، تحدد فيه أسعار حليب الأطفال من منتجات "نستلة"، لتتكفل التعليقات بالإشارة إلى مدى انفصال المنشور عن الواقع، إذ تستمر الأزمة في التفاقم، والشحّ يكاد يتحول إلى انقطاع تام للحليب من الأسواق.

في هذه الأثناء، لم تجد سحر حلًا صحيًا لبكاء طفلها بعد. ولن يدرك عمر، في سنه هذا، أن هناك من يتلاعب بغذائه.

 

* أُنجزت هذه المادة في إطار برنامج تدريب يضم صحافيات وصحافيين من سوريا من تنظيم “أوان” وبدعم من منظمة "دعم الإعلام الدولي - International Media Support"