ّإلى من لا عزاء لهن

النساء وحدهنّ في قرية طفولتي المجاورة للحدود العراقية كنّ قرابين للتضحية والعقاب. طفولتي مكتظة بصورهنّ، وبآثار التركة الاجتماعية والعرفية التي يرثنها جيلًا بعد جيل.

أُصغي بانتباه إلى الألم. الألم كدليل على حياتي الماضية. لا وجود لأدلة أخرى أثق بها.

وأفكّر بالكتابة عن أثر الحروب على النساء والمهمّشين. أفكر أنّ الحرب مفردة أنثوية بمضمون ذكوري مفجع، تقف النساءُ أهداف ومتاريس لها.

قرية طفولتي المجاورة للحدود العراقية كانت، كمثيلاتها، قرية نسائية. النساء وحدهنّ كنّ في هذه المنطقة قرابين للتضحية والعقاب. طفولتي مكتظة بصورهنّ، وبآثار التركة الاجتماعية والعرفية التي يرثنها جيلًا بعد جيل. لا أذكر أصوات الرجال، إلا حين تعلو للحسم في أقدارهنّ.

بُترت ساق خالتي منذ أيام، بعد نحو سبعين عامًا كانت خلالها تجرّ الساق خلفها كطرف غير صالح. عاشت خالتي حياتها كشبح، راضية بأن تكون قربانًا أبديًا يُنحر بشكل يومي، على مدى عقود. كانت الابنة البكر، وكان لها أربعة إخوة وأخوات، بينهم أمي. توفّيت جدتي في سن مبكرة، تاركة لخالتي مسؤولية رعاية إخوتها الصغار. وبما أنّ جدي كان متعدد الزوجات وكثير الغياب، فقد نذرت خالتي نفسها لتربية إخوتها والاعتناء بهم، وأغلقت نوافذها وأبوابها المواربة على عالم الرجال بشكل نهائي. أتساءل اليوم عن مدى وعيها حين أقدمت على تضحية كهذه.

سبق لأمي أن سردت لنا حكاية قدم خالتي غير مرّة. الواقعة قديمة، لكنّ ألمها دائمًا ما يبدو حديثًا، يولد كل يوم من جديد. في أحد أيام طفولتها، تعثّرت خالتي والتوى كاحلها. تورّمت قدمها ومنعها الألم من النوم لأيام. لم يولِ أحد اهتمامًا بقدمها الصغيرة، ظنًا أن المسألة لا تتجاوز رضّة بسيطة  يتعرّض لها كثر. لكنّ العظم في رسغها كان في الواقع قد انحرف، مثلما انحرفت حياتها عن مسارها الطبيعي. وحين أخذها جدي إلى طبيب يعالج بوسائل بدائيّة، ضاعف ذلك من الانحراف، وباتت عظام رسغها على شكل خطّين متوازيين، لن يلتقيا مدى العمر.

أخذت قدم خالتي عند المفصل شكلًا معقوفًا، فيه طرف زائد غير صالح معلّق بالجسد. وسبّب هذا قصرًا حاولت مداراته عن طريق ارتداء نوع خاص من الأحذية، فردة منها ضخمة ومرتفعة، والفردة الأخرى طبيعيّة. تدفّق الزمن في غفلة منها. كبر إخوتها وتقاذفتهم الأقدار. كل منهم ذهب في طريق. ما زلت أذكر لقاءها الأول بأمي بعد فراق استمرّ اثنين وعشرين عامًا، بعدما فرقتهما العائلة، والحدود، والقادة على جانبيها. إذ بعدما تناحر حزبا "البعث" في سوريا والعراق، سارع رئيسا البلدين لتخطيط حدود كانت حتى تلك اللحظة مبهمة وغير رسميّة ومتداخلة، ما جعل الدقائق الفاصلة بين قريتيهما تغدو سنوات. 

معظم النساء الموزّعات على جانبي الحدود لا يتمتّعن بحقوق أو شرعية وجود، وهذا ينعكس بدوره على مصير أبنائهنّ

ما زلت أحاول استيعاب قدرة خالتي على الصفح. الصفح عن القَدَر والأهل، وعن الوطن والآلهة التي لم تسهّل خطّ مسار معقول لحياتها. لطالما ظننت أن قدرة شخص ما على المسامحة تكمن في امتلاكه إيمانًا من نوع خاص، يجعل كل ثمن يبدو بخسًا. أتساءل دومًا كيف تحلّت بكلّ تلك القدرة على تحمّل الألم، بوجهيه النفسي والجسدي، وصولًا إلى اليوم.

تبدو الآن خالتي، بعد بتر ساقها، خاسرًا رئيسًا بعد رحلة هدفت إلى إنقاذ الجماعة/العائلة. أظنّها الآن تحظى بوقت وافر لاجترار لحظات منتقاة من الماضي. يُخيل إليّ أنها، عندما تتذكر لحظة ذات وقع وألق خاص، تتمسك بها. ربما تقول "عليّ التقاط هذه اللحظة وعدم السماح لها بالهروب". ولكن، في الغالب، بعد يوم طويل طافح بالذكريات، تصل إلى خلاصات الواقع المرّ ذاتها.

أظنّ أنّ أمي كانت تخشى على شقيقاتي من مصير مشابه. هل ذنب خالتي أنها أختارت التضحية من دون أن يطلب منها ذلك أحد؟ كانت سعيدة ببذلها، أو هكذا بدت، ربما لأنها كانت ترى أن المرأة في هذه البقعة من العالم خُلقت لتضحّي.

كان على المرأة في مجتمعي ذاك أن تختبئ خلف ظهر زوجها، وخلف يوميات الحياة، وخلف حفاضات الأطفال بسرور، بل برغبة. أشعر بالحزن لأنّي كنت هناك، لأنّي أعرف كل هذا، لأنّي أعرف الكثير.

لا نرث من أهلنا فقط لون عينينا. بل نرث أيضًا الألم والخوف والعاطفة، وربما المصير أيضًا. لقد ورثنا عن أمي وخالتي لعنة الأوطان. لكنّ للنساء النصيب الأكبر من هذه اللعنة. "سُجنت" شقيقتاي منذ أكثر من أحد عشر عامًا خلف الحدود الفاصلة بين العراق وسوريا. لم أرهما من منذ ذلك الوقت، بل منذ ما قبله، على اعتبار أنّي هجرت قريتي قبل ذلك الحين.

لم تحصل أمي على الجنسية السورية، ولم تحصل شقيقتي الأولى في المقابل على اعتراف الحكومة العراقية. ولأنّ الزواج في تلك المناطق النائية لا يخضع بالضرورة للتسجيل في الدوائر الحكومية، فهو كثيرًا ما لا يتعدّى كونه قرانًا يُعقد بمعيّة رجل دين، وبشهادة عدد من الرجال. ولأنّ الانتقال بين البلدين الجارين - سوريا والعراق - لا يعتمد على وسائل رسميّة في المناطق الحدوديّة، فإنّ كثيرًا من النساء الموزّعات على جانبي الحدود لا يتمتّعن بحقوق أو شرعية وجود. وهذا ينعكس بدوره على مصير أبنائهنّ، فزوج إحدى شقيقتيّ سَجّل بناتها على اسم امرأة أخرى، تجنبًا لحرمانهن من حقوقهنّ المدنية، كحقَّي المواطنة والتعليم، والمساعدات الحكومية.

تبكي أختي في تسجيل صوتي عبر "واتساب"، قائلة إن الجميع يتصرّف كما لو لم يكُن أولادها لها. تبحث عن اعتراف بأمومتها. أما أولاد شقيقتي الصغرى فمكتومو القيد، كونهم من أمٍ غير معترف بها بحسب السجلات الرسميّة في العراق.

الكثير من النساء هناك لم يفهمن العالم بعد. ولم يُتح لهنّ النظر من خلال شرفات الاحتمالات الواسعة. أتذكّر مصطفى، الشاب الذي حاول اجتياز الحدود في ساعة متأخرة من الليل لإحضار عروسه، قبل أن ترديه رصاصة أطلقها أحد أفراد حرس الحدود. يقول الشاب الذي رافقه إنّه شعر بسائل ساخن على وجهه: "ظننت أن السماء بدأت تمطر أسيدًا، وعندما نظرت بجواري، رأيت نافورة من الدمّ المتدفّق من عنق مصطفى". بقيت عروس مصطفى لسنوات في حالة حداد. ووصفها البعض بأنّها مصدر شؤم، وهو ما حال دون زواجها مرّة أخرى.

أُصغي بانتباه لهذه القصص. كلّما هربت منها وجدتني أكتشفها أكثر. ما ساعدني على الاحتمال هو أننا ألفنا الحياة المشتركة. خالتي، أمي، شقيقتاي، وأخريات، يتشاركن المعاناة ويُتقنّ الحديث عنها.

بالنسبة لهنّ، الألم هو الدليل على حياتهنّ الماضية والحاضرة. لا وجود لأدلة أخرى يثقنَ بها.

عناق من طرف واحد

كان العناق لدى الغالبية أشبه ببضاعة ممنوعة التداول. برغم ذلك، بدا أحيانًا كسرقة لا بد منها، كتدخين..

علي الرميض

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة