عناق من طرف واحد

كان العناق لدى الغالبية أشبه ببضاعة ممنوعة التداول. برغم ذلك، بدا أحيانًا كسرقة لا بد منها، كتدخين سيجارة من الممنوعات في زاوية قصية مظلمة، بعيدة عن عيون المتربصين. لا أعلم ما الضير في سرقة قطعة صغيرة من الزمن.

متى تسمح لنا ظروفنا بالعناق؟

كم هو مغرٍ لو بدأ بثورة، أن نثور عناقًا.

كنتُ في أواخر التاسعة عشر من عمري حين تلقّيت هذا الفعل لأوّل مرّة. لقد حفظتُ هذه الذكرى داخلي. وضعتها في ركنٍ عصي على البلوغ أو النسيان. خبّأتها وأغلقت أبواب القلب.

عشتُ في وسط قبلي كان يزدري هذا الفعل، بصفته مدعاة للضعف والهشاشة. لذلك أمضيت عمري مع أشخاص أحمل في داخلي شعورَ الرغبة الدائم بمعانقتهم. شاخت هذه الرغبة محكومٌ عليها بالوجود المنهك، من دون أن تتمظهر بشكل ملموس. كانت الأحلام هي المنفذ الوحيد لها. لذلك ما زلت، وأنا أقارب نهاية العشرينيات من العمر، أحلم بأني عدت طفلًا صغيرًا أركض عبر مرج أخضر، تكاد نباتاته تغطي نصف جذعي، باتجاه أمي التي تفرد جناحيها ضاحكة لالتقاطي ورفعي عاليًا، ثم ضمي وخدي يلتصق بوجنتها.

يقول الأطباء الآن إنّ وضع أمي الصحي سيئ. جسدها لا يحتمل أي عمل جراحي، وستُمضي ما تبقى لها من العمر منهكة، طريحة الفراش. أتخيّل من منفاي عينيها الصبورتين، تحدق بهما في فراغ لا ينضب، منتظرة دون أن تعلم معنى انتظارها. تصيبني فكرة رحيلها بالهلع، تاركة لي مشاريع لعناقات لم يُكتب لها التنفيذ. فأين إذًا سأُنفق كل هذا؟ هي الآن لا تقوى حتى عليه، بل إنها لم تجربه أبدًا أو تمارسه حتى علينا.

كانت أمي تحكي لنا حكاية إحضار والدها لها من العراق، يوم كانت تبلغ الخامسة عشر، وتزويجها لأبي في سوريا. كانت، كلما رأت رجلًا، قالت ربما هذا هو. ودعها جدي وغادر عائدًا أدراجه دون عناق. كان عناقًا من طرف واحد، لم ترَه بعدها إلا مرة واحدة وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. كانت أمي تبدو كالمسحورة وهي تتحدث عن هالة الرجولة والبأس التي تحيط بوالدها، لكنّي لم أحب تلك الصورة لجدي أبدًا. لو لم يحضر أمي إلى هذه البلاد، ربما كنتُ قد ولدت وحظيت بالعناق في بلدٍ آخر. ربما كانت الفرصة ستسنح لأمي لتعلّم العناق أيضًا.

توفي أبي عندما كنت في السابعة من العمر. كانت هذه المرة الأولى التي أبكي فيها على غيابه. لحظة معرفتي بذلك، رميت نفسي على الأرض، وأخذت أتمرغ بالتراب والحصى بشكل عنيف، محدثًا زوبعة من الحجارة التي ترشق كل من يحاول الاقتراب مني. كطائر شُق عنقُه وأخذَت روحُه تُصارع في الخروج. بعد لحظات وجدت العديد من النسوة متحلقات حولي على شكل دائرة صغيرة، معيقات أي محاولة للهواء في الوصول إلي، فيما رحت أقاوم الكوب الذي يسقينني منه الماء رغمًا عني. لم أكن أعلم ما كان يحدث لأمي في هذه الأثناء، ولم يهرع أحد من الحاضرين لمعانقتي. توافد الناس للتعزية، وانتهى الأمر كما لو أن والدي لم يكن موجودًا أصلًا. شعرت حينها أنني لن أحظى بالعناق يومًا، بعدما فاتني وأنا في هذا الظرف. لا أذكر إن كنت قد عانقتُ والدي قبل وفاته، وما إذا كان قد حملني بين ذراعيه مرة أخرى بعد المرة الأولى التي خرجتُ فيها من رحم أمي. يومذاك التقطني ورفعني مبتهجًا كوني ولدتُ صبيًا.

كان على الأهل في مجتمعي هذا أن يلاحظوا أن الطفل الرضيع لا يهدأ إلا عند ضمّه.

 ماذا لو كان قد حصل كل منا على مقداره الطبيعي من العناق؟

هل كنا سنكون أفضل حالًا اليوم، بعلاقاتنا البينيّة وسلامنا النفسي؟ ربما كنا سنحظى على الأقل بنهايات أكثر سلامًا ورضا.

مع انتقالي إلى دمشق، رأيت العديد من الأشخاص يقومون بهذا الفعل كسلوك طبيعي. لكنه بدا بفعل العادة جافًا. إلا أنّي أحببت عفويته. حظيت بأصدقاء في فضائي الجديد، وبالتالي بالعديد من المعانقات، حتى باتت أحيانًا شكلًا من السلام المعتاد. وبرغم هذا، لم يكن مألوفًا أو مسموحًا بين جميع أفراد المجتمع. لذلك كان عناقك يتحدد بوسطك الاجتماعي، وبدائرة رفاقك ومعارفك ومدى تقبلهم للأمر كشيء طبيعي. إلا أن هذا السلوك كان عند الغالبية الباقية في المجتمع أشبه ببضاعة ممنوعة التداول. برغم ذلك، بدا أحيانًا كسرقة لا بد منها، كتدخين سيجارة من الممنوعات في زاوية قصية مظلمة، بعيدة عن عيون المتربصين. لا أعلم ما الضير في سرقة قطعة صغيرة من الزمن.

 

أتذكر ما قدمه سعد الله ونوس في مسرحيته "طقوس الإشارات والتحولات"، واصفًا واقعنا العربي والسوري على وجه الخصوص، بالمجتمع الذي له ظاهر وباطن

 

 التقيت أشخاصًا مارسوا حقهم بالعناق بشكل كامل في وسطهم العائلي حد التخمة، وأشخاصًا لم يعنِ لهم هذا الفعل شيئًا، وآخرين لم يقبلوا الشبع منه، فيتحينوا أي فرصة للحصول على المزيد. أحببت النوع الأخير كثيرًا، برغم أني لم أتجانس مع فورة التجسيد. في سوريا تعيش هذه المجموعات المتصالحة مع الشعور والجسد في الظل. شمسها فقط ذلك الإحساس المنبعث داخلها، بأنها تفعل ما تريد، وبأنها لا تخضع لأي قيد يمكن أن يُفرض على ممارساتها أو شكل وجودها وسلوكها. كما لاحظت أن لعناق الأنثى شعورًا يبعث على الراحة، وأنه مسبب لتدفق هرمون السعادة أكثر، لا بصفتها الجنس الآخر المرغوب، بل لأن فعلها بدا أصدق، وربما في مواضع معينة كانت أكثر حرية منا نحن الذكور، بصفتها أنثى، المصدر "الرسمي" للعاطفة التي وسمها مجتمعنا بها.

إلا أن الحصول على هذه الأنثى لم يكن بتلك السهولة في هذا المجتمع، خصوصًا لشاب تاق للعناق، وبحاجة لمن ينهال عليه به، من دون أن يُباح له حق التعبير عن حاجته، فقط لكونه رجل. أتذكر هنا ما قدمه سعد الله ونوس في مسرحيته "طقوس الإشارات والتحولات"، واصفًا واقعنا العربي والسوري على وجه الخصوص، بالمجتمع الذي له ظاهر وباطن، أي أن شكله الخارجي متناقض بشكل مفجع مع خباياه. من هذه الفكرة، تبدو واضحةً حالة التقنُّع لدينا، أي الادعاء بأن تلبية حاجات الشعور ليست ضرورية، بل قد تكون مدعاة للانقياد وراء المحرمات، بينما نمارسها خفيةً، في أحلامنا، وفي لحظات انهيارنا القصوى، عندما تتعطل فعالية الحلول كافة، فيكون لابد من فعل العناق لتهدئة الآخر.

قد تكون الفاجعة موجودة في انفصالنا الأول عن أمهاتنا. ماذا لو بقينا بين أحضانهنّ نحظى بعناق أبدي؟ ألهذا يستوطننا الحنين لأن نبقى صغارًا؟

نتصف، كمجتمع سوري، أو عربي بشكل أعمّ، بكوننا مجتمعًا تقليديًا محافظًا، جديًا وجافًا. وليس مسموحًا الدخول ضمنه في فلك الممنوع، أو ما يُصدّر على أنه ممنوع. وقد تعدّى الأمر إلى العاطفة التي تدخلت على ما يبدو في تشكيلها والسيطرة عليها قوى عليا. إذ يجب أن نكون عاطفيين فقط بخضوعنا وتقديسنا واتّباعنا للقادة والسياسيين.

لن تجلب لنفسك امتعاض المحيط إن انكببت على صورة ذاتِ دلالة دينية وقبّلتها، ولن تثير غرابة الناس إن سار رئيس البلاد في الشارع وركضت إليه واحتضنته. بل على العكس من ذلك، ستُصور كإنسان صادق ووفي، كما لو كنت كلبًا التقط القرصَ الطائر الذي رماه صاحبُه، ثم ركض باتجاهه متنظرًا أن يمسح على رأسه.

لقد تدخلت السياسة والسلطة حتى في ماهية مشاعرنا. روّضتها، لتكون مفرزاتها نابعة منها وتابعة لها، على اعتبار أن الشعور والرغبة هما المحركان الأوّلان للتحرر، لذلك كان العناق لدينا فعلًا أخذ نكهة تمرّد، في محاولة لسكب مساره في مجرى آخر من حياتنا.

قد تكون إحدى مشكلات واقعنا هي تحميلُ صور الشعور، التي هي من أكثر الأشياء أصالة في الإنسان، مظهرًا إيحائيًا غرائزيًا مبتذلًا. تجذُّر هذه الفكرة حولّها إلى حقيقة. أصبحت كذلك، حتى لو لم تكن.

لقد دُفنت مشاعرنا داخلنا ونحن على قيد الحياة. بعد الثورة السورية، فقدنا الخصوصية التي تتسم بها أفعالنا الحميمية. باتت شيئًا جانبيًا، وسط اعتيادنا رؤية أحلامنا تتكسّر. ألفنا الفقد والمنفى، وتعايشنا مع الخيبة. تناثرنا في أصقاع الأرض كحبات عَقد قُطع خيطه، ليأخذ العناق مع أصدقائنا وأُسرنا شكلًا افتراضيًا. ما زال هناك أشخاص تعينهم مدّخرات الذاكرة الوافرة في منافيهم، وما زالت الفرصة سانحة لآخرين للادخار.

لكن ما حالُ من لم يحظوا بعناق طوال حياتهم؟

ّإلى من لا عزاء لهن

النساء وحدهنّ في قرية طفولتي المجاورة للحدود العراقية كنّ قرابين للتضحية والعقاب. طفولتي مكتظة بصورهنّ،..

علي الرميض

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة