بيت بساعات كثيرة

ثمّة حقول رمزيّة تنطوي (أو انطوت في الماضي) على تمارين ذهنيّة داخل كلّ طائفة في لبنان، وفي ما بين الطوائف، حول إعادة تعريف التعايش أو فضّ العقد الاجتماعي الذي يجمعها، تدريجيًا. هذه بعضها:

يُمكن رصد مجموعة من المؤشرات على تحلّل العقد الاجتماعي اللبناني اليوم. في الأصل، يصلحُ العقدُ الاجتماعيّ في لبنان لاستخدامات كثيرة. فهو ناظمٌ أعوَج للحياة الدستوريّة ومؤسّساتها، لكنّ التنكيلَ به لهُ وظيفة حيويّة أيضًا. إذ إنّه يجرّ الجماعات الطائفية إلى حافّة اقتتال، جاعلًا منها أداة طيّعة في أيدي المستثمرين في مخاوفها، ومن ثمّ يضع كلًا منها أمام سؤال وجوديّ يتجدّد كلّ حين: هل يمكن التعايش مع الجماعات الأخرى فعلًا؟ وهل من سبيل جدّي لإعادة تعريف هذا التعايش، أو لفضّ التعاقد مع هذه الجماعات من الأساس؟

بعض المؤشرات ـــ ذات الدلالة الرمزيّة ـــ على تحلّل الاجتماع اللبناني، ظهر خلال الحرب الأهليّة، ومنها ما يتكرّر اليوم، وبينها ما استجد من دون أن تكون له سوابق مشابهة في الماضي، كقصّة تعدّد المواقيت إثر لقاء برّي ـــ ميقاتي السورياليّ قبل أيام، وما تلاه من مشاركة أحزاب ومؤسسات دينيّة وإعلاميّة في تحديد هذه المواقيت بفائض سورياليّة أيضًا.

في ما يلي مؤشراتٌ من الماضي والحاضر على هذا التحلّل، مع ما ينطوي عليه بعضها من عبث:

كتاب التاريخ

بعد اثنين وثلاثين عامًا على نهاية الحرب الأهلية، ما زال السؤال حول "كتاب التاريخ الموحّد" ماثلًا، لكنّه يستتبع سؤالًا آخر: هل توحيد كتاب التاريخ لطلّاب المدارس في لبنان ضرورة؟ وهل هذا ممكن أصلًا؟

فلنُجرِ مقارنة سريعة: في إسبانيا، أقرّ المشرّعون قانون عفو عام 1977، جاء مكملًا لـ"ميثاق النسيان" Pacto del Olvido. والأخير اتفاق غير رسمي على "نسيان" المرحلة القاتمة من تاريخ البلاد، ممثلة بالحرب الأهلية (1936 – 1939) وما تلاها حتى وفاة الديكتاتور فرانكو (1975). أما قانون العفو فينطوي على غياب محاسبة المسؤولين عن العنف الذي أزهق حياة عشرات الآلاف وهجّر عشرات الآلاف الآخرين.

غير أن القانون هذا يتمّ تجاوزه هناك تباعًا، مع بدء التنقيب في الذاكرة بمبادرات اجتماعيّة منذ مطلع الألفيّة، وصولًا إلى إقرار قانون "الذاكرة الديمقراطية" عام 2022، الذي من خلاله "يستعيد" الإسبان ذاكرتهم حول أهوال الحرب وما بعدها.

تصعبُ المقارنة بين حالتي لبنان وإسبانيا بطبيعة الحال. لكنّ الجائز قوله بخصوص لبنان أنّ أيّ استراتيجيّة جدّية لم توضع لمعالجة الماضي سوى بـ"النسيان"، مرفقًا بالعيش في أجواء حرب باردة على الدوام، علمًا بأن الحرب الباردة هذه تجعل من التاريخ مادة للتعبئة وللمبالغة في استعراض "الخصوصيّات الطائفيّة" والاستثمار الحثيث بها. 

ثمّة من يرى أن الحاجة تكمن في التفاهم على منهج علمي لكتابة التاريخ، تُقدّم من خلاله سرديّاتُ الحرب المتعدّدة من دون الإخلال بالوقائع الثابتة. بهذا المعنى، فإن المطلوب هو منهج موحّد، لا تاريخ موحّد بالضرورة. هذا ما يدعو إليه، مثلًا، أستاذ التاريخ العثماني المتقاعد (ومرشح "الكتلة التغيريّة" ـــ المرحومة ـــ لرئاسة الجمهورية) عصام خليفة.

المطار

شكّلت أحداث 7 أيار 2008 محطة أمنيّة فارقة في تاريخ لبنان بعد الحرب. اندلعت هذه الأحداث إثر صدور قرارين وزاريين، أحدهما ينصّ على إقالة رئيس جهاز أمن المطار، معطوفًا على كيل اتهامات مُتخيّلة لـ"حزب الله" بالتحضير لاستهداف طائرة بصاروخ من محيط المدارج. انتهت الأحداث بجرحٍ مفتوحٍ وتبخّرت معها الاتهامات.

اليوم، يعود الحديث عن الحاجة إلى وجود أكثر من مطار في لبنان إلى الواجهة. وفي حين يربط البعض دعوته بـ"الحاجة إلى اللامركزيّة الموسّعة"، فإن البعض الآخر يجاهر بالرغبة بالتفلّت من حضور "حزب الله" الطاغي في المطار ومحيطه. وهناك من يذهب أبعد من ذلك بالقول أو الإيحاء بأنّ القضيّة تتّصل بـ"حقّ" كلّ طائفة كبرى بمطار لها. 

هكذا، يتراوح مطلب تعدّد المطارات بين حدّي الإنماء المتوازن والفدراليّة وما بينهما من لامركزيّة خدميّة.

 في الحرب الأهليّة، برز شعار "حالات حتمًا" الذي رفعته "القوات اللبنانيّة" تأكيدًا على تمسّكها بكسر "احتكار الآخرين" للمطار وتدشين مطار موازٍ له في بلدة حالات.

اليوم، تُعرض مشاريع متعدّدة، لبعضها أسباب وجيهة، لتطوير مطار القليعات في الشمال، وحامات في جبل لبنان، ورياق في البقاع، وكلها "ميني مطارات" يستخدمها الجيش اللبناني حاليًا كقواعد عسكريّة.

السجال القائم اليوم حول الطريقة التي يجري بها تلزيمُ توسعة مطار بيروت، بابٌ موارب. إذ إنه يفيد في إقفال الاستثمار الطائفي في اقتراح إنشاء المطارات المذكورة، أو في فتح هذا الاستثمار على مصارعيه.

العاصمة

بيروت الشرقية، وبيروت الغربية.

ظلّ حال العاصمة على هذا المنوال طوال سنوات الحرب، وظلّت القسمة عامرة في نفوس كثيرين بعدها. تجلّت هذه القسمة النفسيّة سياسيًا أكثر من مرّة خلال الانتخابات النيابيّة والبلديّة على امتداد سنوات. وبعد تراجع مؤقت لها في مطلع انتفاضة تشرين 2019، عاد تضخّم الشعور ليَبرز إثر استخفاف قوى سياسيّة تمثل المسلمين بشكل رئيسي بأثَر انفجار مرفأ بيروت عام 2020. وانفجار المرفأ – برغم أنه كارثة وطنيّة كبرى – ضرب مناطق ذات غالبيّة مسيحيّة بالدرجة الأساس. وقد عزّرت طريقة التعاطي معه ومع التحقيق اللاحق له الشعور بالانسلاخ أو بالرغبة بهذا الانسلاخ لدى قطاعات مسيحية وازنة.

اليوم، يُستعاد "القلق من الإخلال بالتوازن الطائفي" في المجلس البلدي لبيروت (على لسان نواب "الكتائب" وغيرهم)، ويتكرّر الحديث عن استحداث بلديّتين للعاصمة. وفي حال قيام هاتين البلديّتين، وفق المقترحات البرلمانيّة التي تقدّم بها نواب "التيار الوطني الحرّ"، على دائرة تضم الأشرفية والرميل والصيفي والمرفأ والمدوّر ذات الغالبية المسيحيّة، وأخرى تضمّ راس بيروت ومينا الحصن والباشورة وعين المريسة والمصيطبة وزقاق البلاط والمزرعة ذات الغالبية المسلمة، فإنهما ستشكلان، عمليًا، استعادة لقسمة العاصمة الغابرة: بيروت الشرقية، وبيروت الغربية.

المايوه vs الحجاب

قبل أقلّ من عام، نُظمت تجمعات ضمّت آلاف الأطفال الذين ردّدوا أغنية "سلام فرمانده" / "سلام يا مهدي". شكّل هذا، من جملة ما شكّل، عرض عضلات أيديولوجيّة لـ"حزب الله". غير أنه كان كذلك مناسبة لعودة الحديث عن الملابس و"الثقافة" التي تعبّر عنها. قالت النائبة بولا يعقوبيان يومذاك إنّ مشهد الطفلات المحجبات الواقفات في صفوف متراصّة يعكس "ثقافة مستوردة"، ولا يشبه الثقافة اللبنانيّة. ردّ أنصار الحزب. وفاض "تويتر" بالتغريدات المتقابلة.

يندلع سجال في لبنان كلّ حين حول طبيعة الملبس. مرّة يكون المايوه ومُرتدياتِه موضع المنع في "المناطق المحافظة" (ذات الغالبية المسلمة) أو محطّ التهجّم على منابر رجال دين مسلمين، ومرّة يكون "البوركيني" محلّ منع في "المناطق المتحرّرة" (ذات الغالبية المسيحيّة). ثمّة قسمة بين مجتمعين مُتخيّلين، تغيب معها التدرجات، علمًا بأنها موجودة في الواقع. لكنّ السائد في العقول، وفي أعداد حاملي هذه العقول، هي القسمة هذه، أو هكذا يبدو. أقلّه، يمكن القول إنّ التشنّجات، الطبيعية منها والمصطنعة، تسمح لطرفي هذه القسمة بالظهور بصفتهما مُمثّلين للسواد الأعظم من اللبنانيين.

العَلَم

الخلاف حول عَلَم بلد ما مؤشرٌ على الرغبة بفضّ العقد الاجتماعي. لم نصل إلى هذه اللحظة في لبنان بعد، علمًا بأننا اختبرناها خلال حربنا الأهليّة.

في العالم أمثلة كثيرة على جعل العلم موضع تنابذ يرمز إلى خلاف حول الهويّة. في إيرلندا الشمالية، اندلعت سلسلة احتجاجات وأعمال عنف عامي 2012 و2013 على خلفيّة قرار رفع العلم البريطاني على مبنى بلدية العاصمة بلفاست، بين القوميين الإيرلنديين المؤيدين للانفصال عن بريطانيا والوحدويّين أنصار الارتباط بها. قبل ذلك بنحو عامين، أصبح علما سوريا وليبيا محطّ نزاع أيضًا باعتبارهما رمزين لشرعيّة نظامَي البلدين مع انطلاق قطار "الربيع العربي". وفي الأعوام الأخيرة، شهدت إسبانيا بدورها نزاعًا سياسيًا وقضائيًا بين سلطاتها المركزية وسلطات إقليم كاتالونيا المتمتّع بحكم ذاتي، حول جواز رفع الأعلام "غير الرسمية" على مبان حكومية وفي الفضاء العام.

سبق في لبنان أن اتخذ النزاع على شرعيّة العلم ورمزيّته شكلًا عبثيًا، لكن دمويًا في الوقت عينه، مع اندلاع "حرب العلم" عام 1985 بين ميليشيا "حركة أمل" من جهة، وميليشيا "الحزب التقدمي الاشتراكي" وحلفائه اليساريين من جهة أخرى، إثر إعلان وليد جنبلاط "الإدارة المدنيّة" ورفضه الاعتراف بالعلم والاستقلال وسلطة الجيش، في مقابل تمسّك نبيه برّي – الوزير حينذاك – بالثالوث الذي رفضه جنبلاط.

لسنا في صدد حرب عَلَم اليوم. فالقوى السياسية غالبًا ما تُزايد على بعضها لهذه الناحية. لمسنا ذلك في تظاهرات 8 آذار و14 آذار 2005، وفي أكثر من محطة لاحقة. لكنّنا قد نعود إلى نزاع جديد حول العَلَم، في لحظة تدهور ما.

اللغة

اللغة حقلٌ رمزيٌ بالغ الدلالة بصفتها المُنتج الرئيس للحقائق الاجتماعيّة (والسياسية ضمنًا). لم يُفتح نقاش في لبنان بخصوص اللغة العربيّة في المناهج التربويّة، ولا في ما يتجاوز هذه المناهج. أقلّة حتى الآن. هذا مع العلم بأنّ التحلّل في المدارس الرسميّة والجامعة الوطنيّة، وفي الجسم التربويّ عمومًا، يفتح المجال أمام إحياء طروحات تعبّر عن الرغبة بفضّ العلاقة اللغويّة بين اللبنانيين.

إذا نبشنا ماضي لبنان، سنجد مثلًا سلسلة محاضرات ألقاها الشاعر سعيد عقل في الخمسينيات ودار نشر أسّسها في الستينيات لـ"التبشير" باللهجة اللبنانية، أو ما سمّاها "اللغة اللبنانيي" القائمة على حروف لاتينيّة، كبديل عن اللغة العربيّة الفصحى. حاول عقل وقتذاك "تأصيل" مسعاه، فربط هذه "اللغة" بـ"فكر" لبناني موغل في القدم. اعتبر أنّ إقليدس وفيثاغورس وموخوس وغيرهم من الفلاسفة القدماء الذين نسبهم إلى فينيقيا (ومعظمهم سليل الحضارة اليونانيّة)، هم طريق لبنان إلى "الحداثة".

غير أن المعنى السياسي لهذه المحاججة وما سبقها وتلاها من محاججات مماثلة، كان واضحًا على الدوام. "لو اعتمد العرب اللهجات المحكيّة، لما وقعت نكسة 1967"، قال عقل ذات مرّة. بمعنى آخر، لو انفصل لبنان عن محيطه – كما يقول - لما ابتُلي بالخراب. الحلّ – وفق هذا المنطق - يتمثل بتأصيل الانفصال في اللغة، مثلما فعل أتاتورك بفصله تركيا لغويًا عن تاريخها العثماني ومحيطها الإسلامي.

لاحقًا، مع تطوّر الإفصاح السياسي عن معنى "الهويّة اللبنانيّي" إلى ما هو أبعد من اللغة خلال الحرب الأهليّة، ارتَدَت هذه المحاججة بدلة كاكيّة، واستحالت دعوة إلى إبادة جماعيّة.

بلدٌ بساعات كثيرة

هذه مجرّد بعض الحقول الرمزيّة التي تنطوي (أو انطوت في الماضي) على تمارين ذهنيّة داخل كلّ طائفة، وفي ما بين الطوائف، حول إعادة تعريف التعايش أو فضّ العقد الاجتماعي الذي يجمعها، تدريجيًا.

في قرار برّي ـــ ميقاتي تثبيت الساعة، ومن ثمّ العودة عنه بعدما اجتاحت البلد انقسامات حادّة ومواقف وخطابات من لالا لاند، ما يذكّرنا بأنّ لبنان ـــ كما كان على الدوام ـــ بيتٌ بمنازل كثيرة كما وصفه الراحل كمال الصليبي.

في الزوبعة التي حصلت ما يذكرنا أيضًا بأنّ لبنان ما انفكّ يدور في حلقات مفرغة منذ نشأته. صحيحٌ أن عقارب الساعة لم تدُر فيه يومًا إلى الوراء، وأنّ كلّ حقبة ـــ كما تُعلّمُنا سُنن التاريخ ـــ لها معطياتها الخاصة. لكنّ ساعة الأزمة التي تدقّ فيه اليوم إنما هي امتداد لسابقاتها، ولا يمكن بحال من الأحوال فصلها عنها.

ولئن كانت ساعات لبنان كثيرة، تمامًا ككثرة المنازل فيه، فإنّ منابع أزماته كامنة ـــ كما دومًا ـــ في ثابتٍ واحدٍ لا يتزحزح برغم تغيّر موازين القوى داخله باستمرار: بنية نظام هذا البلد.

خمسة أسئلة عن روسيا بعد "تمرّد فاغنر"

بمعزل عن أهداف "تمرّد فاغنر" وما كان يمكن، واقعيًا، أن ينجم عنه، فالأكيد أنّه حجرٌ كبيرٌ مرميٌّ في مياه..

ربيع بركات
من الذي يريد محوَ اليهوديّة؟

بخلاف "الحلّ النهائي" الإبادي الذي روّجت له النازية إبان الحرب العالمية الثانية، فإن "الحلّ النهائي"..

ربيع بركات
عن علاقتي بـDeutsche Welle وإسرائيل

ثلاثة منشورات على صفحتي الخاصة على "فيسبوك"، بينها صورة لغرافيتي يُظهر ليلى خالد على جدار الفصل العنصري،..

ربيع بركات

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة