السوريون ولعنة الطاقة

هل هي "لعنة الطاقة" التي جعلت سوريا ميدانًا لنزاعات ومواجهات ممتدة وثقيلة ومن دون أي أفق للحل/التسوية؟ ربّما، ولو أنها ليست السبب الوحيد لما حدث ويحدث في البلاد.

تمثل الطاقة أحد الخيوط الرئيسة الممتدة، بلا انقطاع تقريبًا، في أزمات سوريا والمنطقة. وإذا كان السوريون يعانون اليوم من أزمة مهولة في الطاقة (النفط والغاز)، فمن الغريب بالنسبة لهم أن يرتبط أحد التفسيرات بوجود الطاقة بكثرة في البلاد وقبالة سواحلها، أو لكونها معبرًا محتملًا لأنابيب الطاقة من الشرق إلى الغرب، أو من الجنوب إلى الشمال!   

ربما كانت سردية الطاقة أقل سرديات الأزمة السورية رواجًا وقبولًا، لجهة الحديث عن اندلاعها على الأقل، لكنها تظل السردية الأكثر حضورًا في تفسير الأزمات الاقتصادية والمعيشية في البلاد، على اعتبار ان معظم موارد الطاقة (النفط والغاز) تتمركز في منطقة الجزيرة التي تسيطر عليها الولايات المتحدة و"الإدارة الذاتية"، وأما الموارد في المناطق التي تقع تحت سيطرة الحكومة السورية فإن الحصار والعقوبات وعوامل أخرى عديدة تحول دون استثمارها بالشكل المطلوب.

هل هي "لعنة الطاقة" التي جعلت سوريا ميدانًا لنزاعات ومواجهات ممتدة وثقيلة ومن دون أي أفق للحل/التسوية؟ ربّما، ولو أنها ليست السبب الوحيد لما حدث ويحدث في البلاد، فثمة عوامل وأسباب أخرى تختلف أوزانها النسبية باختلاف القراءات والتقديرات، والمواقف والرهانات إلخ، وهذا باب فيه كلام كثير.   

لكن لعنة الطاقة ليست جديدة، ثمة من وصف البترول بـ"دم الشيطان"[1]، لكثرة النزاعات والحروب التي اندلعت بسببه، والسياسات الريعية التي نتجت من موارده، وهذا يصح على حالة سوريا، وفق بعض النظريات التي تعدّ مشروعات أنابيب النفط والغاز العابرة للحدود أحد مسببات ما تشهده البلاد من سنوات، قبل أن تصبح خرائط السيطرة (قُل: خرائط النفط والغاز) داخل سوريا نفسها، أحد محددات أو فواعل الحصار والخنق الاقتصادي، وذلك بحرمان دمشق من موارد الطاقة الرئيسة في البلاد، وتعزيز ديناميات الانقسام الراهنة، والهيمنة على الموارد من قبل الولايات المتحدة التي أقامت قواعد عسكرية لها قرب حقول النفط والغاز، ويسمى بعض تلك القواعد بأسماء تلك الحقول، بالإضافة إلى خرائط شبكات التهريب والتجارة غير الرسمية وشبه الرسمية عبر مختلف مناطق السيطرة.

تحضر فرضية الأنابيب في تقديرات خبراء عسكريين، ومن ذلك مثلًا روب تايلور الضابط في الجيش الأميركي، الذي نشر دراسة في المجلة العسكرية الأميركية تحت عنوان "صراع الأنابيب في سوريا"، يقول فيها إن من المهم التنبه إلى بعد الطاقة في قراءة وتحليل الأزمة السورية، سواء بالنسبة لظروف نشأتها واستمرارها، أو بالنسبة لمستقبلها.

الملغز بالنسبة للسوريين أن حليفي دمشق الغنيين بالطاقة: موسكو وطهران، يترددان أو يجدان صعوبة في تأمين احتياجاتها

ومثل كثير من تفاصيل المشهد السوري، تحولت تلك النظرية إلى ميدان للشد والجذب، وانبرى البعض لتفنيدها، ولم يحظَ كلام الضابط الأميركي بأصداء كبيرة، ربما لأن الحديث عن "حرب الأنابيب" والموقع الجيوستراتيجي، يضعف السرديات التي تحدثت عن ثورة شعب ضد نظام حكم، ومجتمع ضد دولة، لصالح السرديات التي تتحدث عن مؤامرة خارجية ضد النظام السياسي والدولة.

في العام 2016 وفي مقابلة مع صحيفة "إيل جورنالي" الإيطالية، أجاب الرئيس السوري بشار الأسد عن سؤال حول "معارضة سوريا مد خط أنابيب اقترحته قطر، ودور ذلك في اندلاع الحرب" بأنّه "كان أحد العوامل المهمة"، مشيرًا إلى أن مشروع الخط "لم يُعرض علينا بشكل علني، لكنني أعتقد أنه كان مخططًا له ... كان هناك خطان سيعبران سوريا، أحدهما من الشمال إلى الجنوب يتعلق بقطر، والثاني من الشرق إلى الغرب إلى البحر المتوسط يعبر العراق من إيران". وتابع: " حينذاك، كنا نعتزم مد ذلك الخط من الشرق إلى الغرب، أعتقد أن هناك العديد من الدول التي كانت تعارض سياسة سوريا لم ترغب بأن تصبح سوريا مركزًا للطاقة".

لكن الخطاب الرسمي في سوريا لم يكرر الحديث عن أنابيب الطاقة العابرة للحدود والأقاليم، ربما لأن ذلك الحديث يضعف الرواية التي تقول إن الغرب مناهض للنظام السياسي والدولة لسبب أصلي، جوهراني، عميق، وليس لمجرد أنابيب طاقة، فضلًا عن أن سردية الأنابيب تهمش مقولات وعناوين الوطن والوطنية والصراع التاريخي والمقاومة ضد الهيمنة الغربية.. إلخ.

في المقابل، ظل الخطاب الرسمي للحكومة السورية يركز على دور الولايات المتحدة في حرمان سوريا من موارد النفط والغاز، وتمكين "الإدارة الذاتية" المعلنة من جانب واحد في منطقة الجزيرة السورية، من الاستيلاء على تلك الموارد، ومنع الوصل الجغرافي بين سوريا والعراق، وتهيئة الظروف لتسويق النفط من خلال معابر مختلفة بينها معابر مع شمال العراق وتركيا، وبالطبع الحكومة السورية.

الملغز بالنسبة للسوريين أن حليفي دمشق الرئيسين الغنيين بالطاقة: موسكو وطهران، اللذين يُفترض أن دمشق تتحمل تبعات قرارها بالوقوف معهما في مشروعات الأنابيب، وفي خيارات استراتيجية كبرى، يترددان أو يجدان صعوبة في تأمين احتياجاتها. ليس هذا فحسب، بل إنهما يتنافسان على الاستحواذ على موارد النفط والغاز والفوسفات والموانئ في مناطق سيطرة الحكومة أيضًا، فيما استحوذت روسيا على حقوق التنقيب قبالة السواحل. كل هذا من دون مباشرة أي أعمال جدية يمكن أن تفضي إلى تغيير في تدفقات النفط والغاز والموارد، ليس لتغطية احتياجات البلاد، وإنما للتخفيف من أزمة الطاقة الخانقة، بالحد الأدنى!

لكلّ طرف سرديته بهذا الخصوص، تقول روسيا وإيران إن الأزمة ليس في قلة موارد الطاقة، وهي قليلة بالفعل، بقدر ما أنها في الإجهاد الذي تعاني منه القطاعات الحكومية وبيروقراطية الدولة بتأثير عوامل مختلفة، منها الحرب، والفساد، وارتفاع التكاليف، وصعوبة تدفق الموارد بسبب تعدد مناطق السيطرة... أما بالنسبة لتوريد النفط والغاز، فهذا ممكن، ويحدث غالبًا، إنما وفق قواعد السوق، ويتأثر الشركاء بالعقوبات الغربية، الأمر الذي يعقّد الإجراءات ويزيد في الأعباء.

مع كل إعلان عن تسوية أو مبادرة أو تقارُب، يرتفع سقف التوقعات بانفراج قريب أو محتمل لأزمة الطاقة في البلاد، لكن ما يحدث في الواقع هو ازدياد أزمة الطاقة حدة، وازدياد حياة الناس صعوبة. وفي تقدير حديث لبرنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، فإن أكثر من 12 مليون شخص (أكثر من نصف السكان) على أبواب الجوع، ويُهدد خطر الانزلاق إلى الجوع نحو 3 ملايين شخص (تصريحات 14 آذار/مارس 2023).

يعاني السوريون من لعنة الطاقة بالفعل، والنفط والغاز بالنسبة لهم ليسا "دم الشيطان" فحسب، بل هما "برازه" أيضًا[2]. كذلك هي السياسة في هذا المشرق وفي العالم اليوم، من منظور سوريين يعانون وطأة حرب ثقيلة طالت كل شيء.


[1]  التعبير لعالم الاقتصاد الأميركي "فيرنون سميث" الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد، ورد في محاضرةٍ له في واشنطن 2003.

[2]  التعبير لـ الفنزويلي خوان بابلو بيريز ألفونسو مؤسس منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك).