عن الزراعة والحشيشة في ظل الانهيار

ما أثر الأزمة الاقتصادية على الزراعة في لبنان؟ ماذا عن زراعة حشيشة الكيف؟ وماذا عن البدائل؟

وفق رئيس "المركز اللبناني للبحوث والدراسات الزراعية"، رياض سعادة، ما زال كثُر غير مدركين لحجم انعكاسات الأزمة الاقتصادية على القطاع الزراعي في لبنان.

حاول سعادة تتبّع جذور المشكلات المتعلّقة بقطاع الزراعة في دراسته الصادرة أواخر عام 2022 بعنوان: "تشخيصُ وضع الزراعة اللبنانية في ضوء الأزمة المالية الاقتصادية الراهنة: حلول فورية ورؤية مستقبلية".

وقد ركّزت الدراسة المذكورة على الإهمال الممنهج لهذا القطاع من قبل الحكومات المتعاقبة. إذ برغم توافر تمويل خارجي لمشاريع دعم القطاع على مدى العقود الثلاثة الماضية، لم تؤثر هذه المشاريع إيجابًا، وبشكل ملموس، على نمو إجمالي الناتج المحلي الزراعي في لبنان. وفي ظل غياب قاعدة بيانات رسمية مُشتركة بين الفئات العاملة في البرنامج المُفترَض لإعادة إعمار البلد بعد الحرب الأهليّة، اتسم تنفيذُ المشاريع بالعشوائية، وكانت نتيجته عقيمة.

وبحسب ما ورد في الدراسة، بلغت مشاريع القطاع الزراعي الممولة منذ العام 1992، 263 مشروعًا رئيسيًا. وبلغت قيمتها 285 مليون دولار أميركي، لم يَنتج منها أي تحسين في القطاع الزراعي لأسباب عدة، أهمها أن غالبية المشاريع صُمّمت بشكل مستقل عن رؤية لبنانية متكاملة، في ظلّ غياب هيئة تنسيق وطنية تعمل على دمج المشاريع بهدف تحقيق أقصى قدر من الفعالية.

وتشرح الدراسة مراحل الانهيار الزمنية التي مرّ بها القطاع الزراعي في لبنان، بدءًا مع تعيين رفيق الحريري رئيسًا للحكومة في خريف عام 1992، وتحوُّل نظام المبيعات النقدية ـــ أي الدفع الفوري نقدًا أو عبر شيك الذي اعتمدته شركات المُستلزمات الزراعية خلال الحرب (1975 ـــ 1991) ـــ إلى مبيعات ائتمانية تسمح للتجار والمزارعين بالدفع في وقت لاحق.

لكن، بسبب الفوائد المصرفية المرتفعة، لم تسمح عائدات المزارعين الضئيلة بسداد ديونهم بالكامل، ما زاد بشكل خطير حجم الكتلة الائتمانية المخصصة لتجار التجزئة والمزارعين. وقد قُدرت ديون المزارعين عام 2019 لتجار التجزئة بنحو 80 مليون دولار، وديون تجار التجزئة للبنوك والمستوردين بنحو 60 مليون دولار، علمًا بأن المستوردين لديهم التزامات أيضًا مع مصارف ومورّدين أجانب.

بذلك، انهار نظام تمويل قطاع الزراعة اللبنانية مع بداية الأزمة الطاحنة عام 2019، وانقطعت سلسلة الائتمان، وحُرم المزارعون من التسليف الذي كان مؤمنًا بشكل رئيسي من خلال المستوردين. 

ويصف د. رياض سعادة انهيار النظام التمويلي بـ"الحلزون الانتحاري" الذي يجر المزارعين من وضع سيء إلى أسوأ. ويقول في حديثه لـ "أوان":" يُظهر التقرير السنوي الذي سيصدر قريبًا عن مركزنا لعام 2022 حجم الفوضى التي يشهدها القطاع، خصوصًا المحاصيل الضارة التي زُرعت في ظل هذه الفوضى". وجاء في الدراسة تدني الناتج النباتي المحلي لعام 2020 بنسبة 33%، بعدما كان قد استقر عام 2019 إثر تحسنه عام 2018 بسبب نجاح التصدير والارتفاع الموازي للأسعار المحلية. 

ويرى سعادة أن الحل لا يمكن أن يكون فوريًا، بل قد يحتاج إلى عقود، حيث يشير في الدراسة إلى أن خطة العمل لعلاج الأزمة في القطاع الزراعي ينبغي أن تنقسم إلى إجراءات فورية وأخرى طويلة الأمد تُعنى بالمجتمع الريفي والاقتصاد الزراعي، وتضمن وضع خطة تنموية تُنفَّذ وفق جدول زمني واضح يضمنها "قانون زراعي" يشكّل الإطار التوجيهي للوزارات المتعاقبة.

وبرغم أن إجمالي الناتج الزراعي لم يتعدَّ الـ4% من الناتج الوطني في العام 2019، إلا أن النشاطات الصناعية والخدمية التي لا وجود لها بغياب الإنتاج الزراعي تحتلّ ما بين 8% و10% من إجمالي الناتج الوطني. وتشير الدراسة إلى أن إحدى أوجه مشكلة عدم توازن الميزان التجاري، تتمثل في استيراد 80% من المواد الغذائية المصنّعة. 

عن الحشيشة والزراعات البديلة 

عاد أبو علي (اسم مستعار) مجددًا إلى زراعة أرضه بحشيشة الكيف، أو الحشيشة، بعد محاولته استبدالها بزراعة البطاطا قبل عامين. إذ إن محاولته باءت بالفشل بسبب ارتفاع كلفة الزراعة لجهة الحاجة إلى توفير مياه ومواد كيماوية وأسمدة ويد عاملة، بعكس نبتة الحشيشة التي لا تحتاج إلى رأسمال وتقلّ مخاطر تعرّضها للتلف. ولا تأتي المشكلات في زراعة المحاصيل "البديلة" فقط، بل أيضًا في تصريفها في الأسواق، خصوصًا مع انهيار العملة الوطنية.

يبلغ أبو علي خمسين عامًا قضاها في زراعة أرضه التي ورثها أبًا عن جد، وهو يقطن في إحدى قرى منطقة البقاع التي حاول مزارعون كُثُر فيها الاستغناء عن زراعة الحشيشة واستبدالها بزراعات أخرى. إلا أن غالبيتهم عادوا إليها مجددًا بسبب غياب الدعم الذي يضمن لهم الاستمرار بالزراعات البديلة. وتُزرع الحشيشة مطلع الربيع وتُحصد في أيلول، وتُجفّف بعدها تحت أشعة الشمس قبل أن يتم تبريدها، ثم "دقّها" أو طحنها في معامل صغيرة في البقاع.

ويطالب أبو علي، كغيره من المزارعين، برزنامة زراعية وقروض مالية تؤمن له ما يحتاجه من أجل شراء المعدات، بالإضافة إلى تأمين الحبوب والأسمدة للمزارعين. فغياب الرزنامة الزراعية يُبقي الحدود مفتوحةً أمام التجارة البرية للزراعات التي تملك قدرة تنافسية تتفوق على الزراعات المحلية. "على الدولة أن تفتح لنا الأسواق لتصريف الإنتاج قبل أن تطلب منا استبدال الحشيشة بالمزروعات الأخرى التي لا تحتمل التخزين"، يقول أبو علي. "حين تتلف هذه الزراعات البديلة، لا يخسر أحد سوانا". 

وكانت الدولة اللبنانية قد أقرت عام 2020 قانونًا يضمن تنظيم زراعة القنب الهندي لأسباب طبية، على اعتبار أن ذلك سيوفر مئات ملايين الدولارات للخزينة. إلا أن القانون ما زال يقبع في الأدراج الوزارية ولم يدخل حيز التنفيذ بعد. وبرغم نفاذ القانون، لم تُعين حتى الآن هيئة ناظمة لإدارة القطاع. وبذلك يكون لبنان قد خسر أربعة مواسم زراعية، علمًا بأن "خطة ماكينزي" (التي وضعتها شركة الاستشارات "ماكينزي" للنهوض بالاقتصاد اللبناني) كانت قد قدّرت الربح الذي يُمكن أن يجنيه لبنان من زراعة القنب الهندي بمليار دولار سنويًا.

ويقول المتخصص بإنتاج الأدوية من النباتات الطبية د. داني فاضل، وهو أستاذ وباحث في الجامعة اللبنانية ـــ كلية الزراعة، وأحد المشاركين في دراسة اقتراح القانون المتعلق بزراعة القنب للاستخدام الطبي، إن الأرباح التي قدرت "ماكينزي" أن الدولة قادرة على جنيها سنويًا تقوم على فرضية اعتماد الزراعة التقليدية. أما في حال استخدام الخيم البلاستيكية، فستصبح الأرباح مضروبة بأضعاف.

ويؤكد فاضل أن لا بدائل عن زراعة القنب. وما تحاول الدولة الترويج له تحت عنوان "الزراعات البديلة" فشل عام 1980 يوم شجعت على زراعة الشمندر كبديل عن القنب، والتاريخ سيعيد نفسه.

وما زالت الدولة تبحث مع هيئات تابعة للأمم المتحدة عن بدائل للزراعات الممنوعة، وعن أساليب للتوسع في خدمات الإرشاد الزراعي والبحوث العلمية والتدريب، في ظل تأجيل تنفيذ خطة "ماكينزي" وتجاهل ما قد تدرّه من أرباح للخزينة، إذا ما أخذنا بالاعتبار أن لبنان هو ثالث أكبر مصدَر للقنب على الصعيد العالمي استنادًا إلى مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC).  

وفي حين يتساءل فاضل عن المصلحة من هذا التعطيل، يردف قائلًا إن الدراسات التي أُجريت على القنب في غالبية المناطق اللبنانية من قبل طلاب كلية الهندسة الزراعية، أثبتت ان أصناف القنب المزروعة في المناطق اللبنانية من أكثر الأصناف العالمية جودة. 

وفي حين يبقى هذا السؤال معلقًا، يعاني كثير من المزارعين، خصوصًا في البقاع، من تلف المحاصيل أو من اتهامهم بمخالفة القانون لأنهم يزرعون الحشيشة التي شُرعت (لأغراض طبّية)، وكذلك من آلاف مذكرات التوقيف الصادرة بحقهم.

 

* أُنجز هذا التقرير بدعم من "صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية" UNDEF ومنظمة "صحافيون من أجل حقوق الإنسان" Journalists for Human Rights.

كلفة الصحة الجنسيّة والإنجابيّة في لبنان

كيف أثّرت الأزمة الاقتصاديّة في لبنان على الصحة الجنسيّة والإنجابيّة؟ نستعرض في هذا التحقيق قصصًا..

مروة صعب
عاملات منزليات في مواجهة الكفالة

معظم العاملات اللواتي يحضرن إلى لبنان ليست لديهنّ فكرة عن ظروف العمل، ويتم بيعهن كذبة من قبل وكلاء..

مروة صعب
كيف تتعرّض النساء في لبنان إلى عنف اقتصادي؟

تفيد بعض الإحصاءات بأن نحو 30% من اللبنانيين اليوم عاطلون عن العمل. ثمّة من يقول إنّ النسبة أقل إذا ما..

مروة صعب

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة