سوريا: جفاف على ضفاف الفرات

يواجه السوريون، خصوصًا في شمال شرقي البلاد، أزمة ناجمة عن عدم توفر كميات كافية من مياه الشرب بسبب التغيرات المناخية ونقص الهطولات المطرية، بالإضافة إلى قيام تركيا بحبس مياه نهر الفرات وتعطّل العديد من المنشآت المائية خلال الحرب.

متأملًا أرضه الممتدة بجانب ضفة نهر الفرات التي غدت بورًا بمعظمها بسبب انحسار المياه، يقف محمد (اسم مستعار) من مدينة الرقة في شمال شرق سوريا وقد كدّه الحزن؛ "بل هو شعور يتعدى الحزن"، يقول. لقد خسر نحو 150 دونم من أصل 250 كان يزرعها بالمحاصيل الصيفية كل عام. "كيف لهذه الأرض أن تصبح صحراء وهي قرب الفرات؟"، يسأل محمد من غير أن يرضيه أي جواب. 

يتردد سؤال محمد كل عام على ألسنة عدد متزايد من المزارعين على طول نهر الفرات وروافده في منطقة الجزيرة السورية، كما في باقي المناطق الزراعية في غوطة دمشق وحوض العاصي والسهل الساحلي.

خلال العامين الفائتين، تضاعف عدد الصور المنشورة على مختلف المنصات السورية التي تبيّن مظاهر الجفاف في الأراضي الزراعية وانخفاض مستوى الأنهار. 

ليست أزمات الحرب والسياسة والاقتصاد التي تمر بها سوريا منذ 12 عامًا وحدها المسؤولة عن مشكلة المياه. فالتغيّر المناخي وما يصاحبه من ارتفاع في درجات الحرارة وانخفاض في منسوب هطول الأمطار والثلوج له الدور الأكبر على المدى البعيد، خصوصًا مع تعدّي الجفاف ونقص المياه بشكل عام في سوريا نطاقَ سنوات الأزمة ذاتها. 

لقد شهدت سوريا، بحسب دراسة لمنظمة "باكس للسلام (Pax for Peace)" الهولندية، منذ العام 1980، ثلاث موجات جفاف كانت أشدها فترة الجفاف بين 2006 و2009 التي دفعت نحو مليون شخص، وفق تقديرات منظمة "إسكوا"، إلى النزوح من المناطق الزراعية إلى مناطق سكن عشوائية حول المدن الكبرى. كما عانت البلاد في صيف 2021 من مستويات غير مسبوقة في انخفاض الهطولات المطرية وتراجع حاد في منسوب مياه نهر الفرات. 

ينعكس نقص المياه في الأراضي المتشققة وفي الصنابير الجافة، ويشعر السوريون بهذا النقص مع كل صيف يأتي أكثر حرًا وشتاء أقل مطرًا. لكن ربما لا يربط معظمهم بين هذه التحوّلات وبين نمط عام من التغيّر المناخي. 

وبحسب بيانات "البنك الدولي"، يُلحظ في سوريا ارتفاعٌ مستمرٌ في درجات الحرارة يمكن تعقّبه، على وجه التحديد، منذ عام 1991 الذي شهد متوسط حرارة بلغ نحو 18 درجة مئوية، في مقابل نحو 20 درجة مئوية في عام 2020. وسيستمر هذا الخط البياني بالارتفاع بحسب التوقعات مع انخفاض في نسب هطول الأمطار. 

أُعلن في مؤتمر المناخ Cop27 الذي انعقد في مصر أن 17 دولة تعاني من الإجهاد المائي، بينها سوريا والعراق واليمن وليبيا

توقّعت دراسة أجرتها "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)" حول مخاطر تغيّر المناخ في سوريا ارتفاعَ عدد أيام الجفاف المتتالية بمعدل خمسة أيام بحلول العام 2050، الأمر الذي يقابله انخفاض أيام الصقيع السنوية بمعدل ثلاثة عشر يومًا، فضلًا عن انخفاض الهطولات المطرية بنسبة 11%، مع زيادة في متوسط درجات الحرارة بمقدار درجتين مئويتين. وستكون نتيجة تلك التغيرات انخفاضًا في الجريان المائي السطحي بنسبة تتراوح بين 25% و27%. وبالاستناد إلى تلك التوقعات، تستشرف الدراسة أن تشهد سوريا جفافًا على المدى الطويل، يرافقه انخفاض في مستويات المياه الجوفية وانحسار الغطاء النباتي مع تدني الإنتاجية الزراعية. 

تلك التكهنات القاتمة يؤكدها أيضًا ملخص سياساتي صادر حديثًا عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر والصليب الأحمر النرويجي، يرى أن سوريا، إضافة إلى العراق واليمن، ستشهد تدهورًا بيئيًا وتغيرًا مناخيًا مع انخفاض الهطولات المطرية وندرة مصادر المياه. ومن ضمن التوقعات الخاصة بسوريا، يقدّر هذا الملخص تناقص التدفق المائي في نهر الفرات، مما سيؤثر مباشرةً على أمن سوريا المائي. 

سوريا تواجه عجزًا مائيًا مستقبليًا

تتميز مناطق شمال شرق سوريا، المعروفة بالجزيرة السورية، بغنى مصادرها المائية السطحية، إذ يحددها جريان نهر الفرات وتغذي أراضيها شبكة روافده وأفرعها العديدة كالبليخ والخابور والجغجغ، بالإضافة إلى سدود الطبقة والبعث وتشرين وبحيراتها. 

وتعد المنطقة غنية بالمياه الجوفية أيضًا، ما يجعلها خزان مياه سوريا والمصدر الأهم في أمنها المائي، لكنّها معرضة اليوم للجفاف جراء التغيرات المناخية التي تسببها الأنشطة البشرية. 

وقد أُعلن في مؤتمر المناخ Cop27 الذي انعقد في مصر أن 17 دولة تعاني من الإجهاد المائي، يقع معظمها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بينها سوريا والعراق واليمن وليبيا. ويحدث الإجهاد المائي (water stress) عندما يتجاوز الطلب على المياه العذبة ما هو متوفر منها. ويُتوقّع أن تُسبّب نُدرة المياه في المناطق التي تعاني من جفاف حاد نزوحَ عشرات ملايين الأشخاص خلال السنوات المقبلة. 

 

 

الملايين بحاجة لمياه الشرب

واجه السوريون في مختلف أنحاء البلاد، بشكل خاص في شمال شرقي البلاد، أزمة ناجمة عن عدم توفر كميات كافية من مياه الشرب، لأسباب عدة أبرزها التغيرات المناخية ونقص الهطولات المطرية إضافة إلى قيام تركيا بحبس مياه نهر الفرات الذي ينبع من أراضيها. وتتفاقم الحالة جراء الحرب التي بدأت منذ عام 2011 وأدت إلى تدمير العديد من المنشآت المائية.

ووفقًا لتقرير صدر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في أكتوبر/تشرين الأول 2021، فإن الملايين من سكان المناطق الشمالية والشمالية الشرقية في سوريا غير قادرين على الوصول إلى إمدادات كافية من المياه الصالحة للشرب، لأسباب بيئية تتعلق بقلة هطول الأمطار وانخفاض منسوب نهر الفرات بشكل غير مسبوق، بالإضافة إلى انخفاض القدرة التشغيلية لمحطة مياه علوك في منطقة رأس العين بالحسكة بعد سيطرة فصائل المعارضة المدعومة من تركيا عليها، فضلًا عن أسباب أخرى من صنع الإنسان.

وشدّد التقرير على أن انخفاض الموارد المائية أدى إلى ارتفاع معدل انتشار الأمراض المنقولة بالمياه في مناطق شمال شرقي سوريا، ما زاد الضغط على نظام الصحة العامة. كما أشار إلى أن عدم الحصول على المياه الصالحة للشرب له تأثير على صحة النساء والفتيات، بما في ذلك صحّتهن الإنجابية. وهو ما أكده أيضًا تقرير صادر من منظمة "أطباء بلا حدود (RSF)" في أواخر سبتمبر/أيلول 2021، على اعتبار أن ارتفاع نسبة الأمراض المنقولة بالمياه وانخفاض مستوى الأمن الغذائي، يفاقم من مخاطر سوء التغذية وينعكس مباشرة على صحة النساء الحوامل. 

كذلك يفيد تقرير لمنظمة "الناس في حاجة People in Need" نشر أوائل نيسان/أبريل من هذا العام بأن أكثر من نصف سكان المناطق الشمالية في سوريا "يعتمدون لتلبية احتياجاتهم اليومية على مصادر بديلة وغير آمنة لمياه الشرب".

إن المصدر الرئيس لمياه الشرب في مناطق شمال شرق سوريا هو نهر الفرات، الذي تصل مياهه عبر الشبكة إلى التجمعات السكانية المحيطة من خلال عدد من محطات الضخ. لكنّ عدم كفاية تلك المضخات، بالإضافة إلى اهتراء شبكات المياه، يحول دون حصول سكان المنطقة على كفايتهم من مياه الشرب.

وأوضح التقرير أنه في 2021، توقفت محطات الضخ في شمال سوريا عن العمل لمدة ثلاثة أشهر بسبب قلة منسوب مياه الفرات وجفاف العديد من الآبار. هذا الوضع دفع السكان إلى الاعتماد على الصهاريج لشراء مياه الشرب، علمًا بأن مياه الصهاريج غالبًا ما تكون غير آمنة بسبب عدم تعقيمها أو ملئها من الأنهار الملوثة.

حلول مؤقتة وتوصيات دولية

تقول منظمة "أطباء بلا حدود (RSF)" إنها استجابت لأزمة المياه في شمال شرق سوريا من خلال نقل مياه نقيّة عبر صهاريج إلى مدينة الحسكة، بالإضافة إلى تشغيل خدمات المياه والصرف الصحي في حوالي 90 مخيمًا، لتصل إلى نحو 30,000 نازح في شمال غرب البلاد.

لكن المنظمة تعترف بأن هذه الحلول مؤقتة وليست مستدامة. أما مسؤولوها فيعبرون عن العجز عن تغطية جميع الاحتياجات في ظل نقص التمويل اللازم، وصعوبة وصول الكثير من الأشخاص إلى مصادر المياه النقية.

وفي تقرير صدر العام الماضي عن منظمة iMMAP، وجهت المنظمة توصيات للسلطات المحلية بهدف مواجهة تأثير التغيرات المناخية على الأمن المائي. ويقترح التقرير إطلاق حملات توعية من شأنها الحفاظ على المياه والتربة والإنتاج الزراعي من خلال الربط بين مخاطر المناخ والأمن الغذائي، والترويج لأصناف القمح المقاومة للجفاف نسبيًا.

كما يوصي التقرير بإعادة تأهيل أنظمة الري واستعادة النظم البيئية المتدهورة. ويدعو السلطات المحلية والعاملين في المجال الإنساني إلى إجراء مراقبة منهجية وتقييم مصادر المياه السطحية والجوفية في سوريا بهدف معالجة التلوث والتهديدات الأخرى.

وكان المنتدى الدولي للمياه قد انعقد في مدينة الحسكة في العام 2021 برعاية هيئة الإدارة المحلية والبيئة التابعة للإدارة الذاتية، وحضرته وفود أجنبية ومسؤولون محليون وممثلو منظمات دولية ومحلية لمناقشة أزمة المياه في شمال شرق سوريا.

وبناءً على مخرجات المنتدى، دعت منظمة iMMAP المنظمات الإنسانية والمحلية إلى إطلاق مشاريع تساهم في توعية المزارعين حول تأثيرات التغيّر المناخي على الزراعة وتمكينهم لمواجهة هذه التغيرات وتأثيراتها على الموارد المائية.

قد تُثمر دعوات كهذه على المدى الطويل في حال طُبّقت ووُضعت الخطط المناسبة لمواجهة آثار التغيّر المناخي في المنطقة. لكنّ المزارعين سيخسرون، في هذه الأثناء، المزيد من الأراضي لمصلحة الجفاف، وستتضاعف خسارتهم كلما تأخرت الاستجابة لحاجاتهم.

هواء قاتل: إسقاطات وتشوهات خلقية في الجزيرة السورية

يؤدي ارتفاع التلوث إلى تشوهات خلقية أو ولادة أطفال دون الوزن الطبيعي، وصولًا إلى احتمال موت الجنين نفسه..

سولنار محمد

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة