هواء قاتل: إسقاطات وتشوهات خلقية في الجزيرة السورية

يؤدي ارتفاع التلوث إلى تشوهات خلقية أو ولادة أطفال دون الوزن الطبيعي، وصولًا إلى احتمال موت الجنين نفسه في الرحم. ما الذي تقوله لنا المعلومات والأرقام في الجزيرة السورية؟

بخطى بطيئة، تتقدم راما (اسم مستعار) - الحامل في شهرها السابع - لفتح الباب لنا في منزلها بمدينة القامشلي شمال شرق سوريا. لدى راما أيضًا طفلتان توأمان في العام الثاني من عمرهما، وطفلة أخرى في عامها الأول. لكنها كانت قد عانت من ثلاث حالات إسقاط خلال السنوات الثلاث الأولى من زواجها عام 2016.

تقول راما وهي تقلِّب أوراق التحاليل التي أجرتها سابقًا، إنها راجعت ستة أطباء في مدينتي القامشلي ودمشق، إلا أنهم لم يتوصّلوا لسبب تكرار الإسقاطات، فالبعض منهم أعادها لأسباب نفسية، والبعض الآخر لم يحدد السبب في حينها.

استشارت راما آخر الأمر طبيبة في مدينة القامشلي حذرتها من الأثر السلبي لاستنشاق الهواء الملوّث بعوادم السيارات ومولدات الكهرباء، خصوصًا القديمة منها أو تلك التي تستخدم وقودًا رديئًا. وبسبب الزيادة الهائلة في عدد المركبات والمولدات في الشوارع، نصحتها الطبيبة يومها بمحاولة التزامها المنزل قدر المستطاع، أو وضع كمامة إذا اضطرت للخروج.

تتأثر المرأة الحامل وجنينها مباشرة بغازات العادم التي تحتوي على أول أكسيد الكربون (CO) وثاني أكسيد الكربون (CO2) وأكسيدات النتروجين (NOx) وجزيئات ضارة أخرى بحسب ما تؤكدّه الأخصائية بالأمراض النسائية، مروة محمد، لـ"أوان". تتابع د. محمد لتوضح أنه "عند استنشاق الأم الحبلى للهواء الملوث، فإن هذه الملوثات تصل إلى المشيمة وقد تؤدي إلى نقص الأكسجين في عملية التروية الدموية مما قد يتسبب في وفاة الجنين، أو في ولادة مبكرة، أو في نقص في وزنه وتشوهات أخرى لدى الولادة".

ما من ندرة في أسباب التلوث الهوائي

بحسب إحصائية صادرة عن مديرية الجمارك التي تتبع "الإدارة الذاتية" في شمال وشرق سوريا، دخلت إلى منطقة الجزيرة السورية خلال السنوات الخمس الماضية 24,094 مركبة تعمل على وقود الديزل أو المازوت، توزعت بين 1,300 مركبة كبيرة، و22,794 مركبة صغيرة وذلك عبر معبر سيمالكا الحدودي فقط. أما عبر معبر منبج، فقد دخل منذ آذار 2021 وحتى شباط 2022 ما مجموعه 16,002 مركبة. وقد بلغ عدد سيارات الإدخال المؤقت والسيارات ذات النمر السورية المسجلة لدى مديرية المواصلات في "إقليم الجزيرة" منذ العام 2019 لغاية 2022، 120 ألف سيارة، وفق دراسة أعدها "مركز الفرات للدراسات".

تورد الدراسة أيضًا التقرير السنوي الصادر عن مديرية المحروقات في إقليم الجزيرة الذي يمكن من خلاله ملاحظة أن الوقود الأكثر استخدامًا هو المازوت المدعوم. في عام 2021، بلغ سعر المازوت المدعوم 85 ليرة سورية. ولدى مقارنته مع تسعيرة ما يدعى بالمازوت الممتاز البالغة 410 ليرة سورية لليتر، يمكن فهم سبب تفضيل المستهلكين للأول برغم نوعيته الرديئة.

غياب إحصائيات دقيقة ومحدودية إمكانيات الدراسة العلمية، يعرقلان الجزم بأسباب التشوهات والإسقاطات

ومن جانب آخر، تُرجع مهندسة البترول لورين عبدالله ازدياد التلوث الهوائي في منطقة الجزيرة السورية إلى "الحرّاقات". وتعدّ حراقات النفط اليوم واحدة من أبرز المشكلات البيئية في سوريا، وهي تقوم على عملية تسخين للنفط وتصفيته بأسلوب بدائي غير سليم بهدف إنتاج المشتقات النفطية من بنزين وكاز ومازوت. تنتج الحراقات يوميًا كميات كارثية لا يمكن ضبطها من الغازات الضارة بالصحة، أبرزها أكاسيد الكربون والنتروجين.

إسقاطات وتشوهات 

تتفق عبدالله مع الرأي الطبي حيال تأثير استنشاق غاز أول أكسيد الكربون على الصحة العامة، لاسيما صحة الحوامل والأجنة. ويمكن أن نشهد مع ارتفاع التلوث تشوهات خلقية أو ولادة أطفال دون الوزن الطبيعي، وصولًا إلى احتمال موت الجنين نفسه في الرحم. وبالعودة إلى د. محمد، تبين لنا أن حالات وفاة الأجنة أو الإسقاط ازدادت في العقد الماضي بحسب إحصاءاتها الخاصة، بنسبة تزيد عن 50% مقارنة بالعام 2010. تسجّل د. محمد معدلًا وسطيًا في الوقت الحالي يبلغ نحو 30 حالة إسقاط كل شهر، وذلك أثناء الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل للنساء اللواتي يتابعن حالتهن الصحية في عيادتها. ومن أولئك النساء مَن يعانين من إسقاطات متكررة، في حين كانت تُسجل حالة إسقاط واحدة كل أسبوع أو عشرة أيام في العام 2010.

تتابع د. محمد شارحة أن نسبة 70% من حالات الإسقاط خلال الأشهر الأولى من الحمل تنتج من "التشوهات الصبغية التي يعتبر أحد أهم أسبابها الهواء الملوث" فيما تكون 30% منها نتيجة عوامل مرضية تعاني منها المرأة الحامل.

ولا يتوقف التأثير السلبي لظاهرة تلوث الهواء في منطقة الجزيرة السورية على حالات إسقاط الأجنة فحسب. إذ أوضحت د. محمد أنه، وبمعدل وسطي، يولد في عيادتها جنين واحد يعاني من تشوهات عصبية أو قلبية أو تشوّه في الأطراف خلال فترة تتراوح بين أسبوع وعشرة أيام. ولدى الرجوع أيضًا إلى سجلاتها الخاصة، يتبين معها أن حالات ولادة الأجنة المشوّهة ازدادت بنسبة 20%. وتتابع لتشرح أن الولادات المشوّهة التي وثقتها في عيادتها تتركز غالبًا في "انعدام وجود الجمجمة أو وجود استسقاء في رأس الجنين أو قيلة أو فتحة في الظهر وتشوّهات في الأطراف".

وخلال شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وُلِد في عيادة الطبيبة ثلاثة أطفال يعانون من التشوه، حالة منها تعاني من وجود كيس مياه، وأخرى من انعدم وجود جمجمة، وثالثة من مشاكل في القلب، وفق قولها.

وبرغم كثرة التشوهات الخلقية المنتشرة في المنطقة نتيجة انتشار الأسلحة الكيماوية أو استخدام الوقود الرديء، إلا أنه لا يمكن الجزم بأن جميع هذه الحالات سببها التلوث البيئي بحسب قول الأخصائية النسائية شيرين محمد. وهي ترى أن غياب الإحصائيات الدقيقة والمقارنة الصادرة عن الجهات الرسمية السورية، سواء قبل الحرب السورية أو بعدها، بالإضافة إلى محدودية إمكانيات الدراسة العلمية، تعرقل جميعها الجزم بالأسباب التي تحتاج إلى "دراسات معمقة تعتمد على علم الأجنة وتحليل خلايا الجنين وراثيًا، وهذا غير موجود في سوريا اليوم".

تضيف د. شيرين محمد أنه من خلال المقارنة بين منطقة الجزيرة ودمشق، على سبيل المثال، يمكن بالفعل ملاحظة ازدياد حالات الإسقاط في منطقة الجزيرة بشكل كبير أخيرًا. وهي ترجع معظم أسباب تلك الإسقاطات لتشوهات جنينية في الأساس.

وفي حديثها مع "أوان"، تتفق الطبيبة المختصة بالأمراض النسائية، نسرين خليل، أيضًا مع د. شيرين في أن الكثرة الملحوظة في الإسقاطات تحتاج إلى أدوات إحصائية أكثر دقة وإلى دراسات علمية معمقة لتحديد أسبابها والجزم في ما إذا كانت تحدث نتيجة التلوث أم لأسباب أخرى.

مع ازدياد نسبة تلوث الجو بنواتج المحروقات من الغازات السامة، يزداد معدل حالات الولادات المبكرة

وفي الجانب الرسمي، تكشف نائبة "هيئة الصحة في إقليم الجزيرة" التابعة لـ"الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا"، هدية عبدالله، توثيق 134 حالة تشوه للأجنة وإسقاط خلال عام 2022 في المشافي التابعة للهيئة. انقسمت تلك الحالات إلى 71 حالة تشوّه خلقي و63 حالة إجهاض مرضية. وللمقارنة، تقول عبدالله إن عدد الولادات التي وثّقوها في مشافي ومستوصفات هيئة الصحة في الجزيرة خلال عام 2022 (إلى حين إعداد التقرير في كانون الأول/ديسمبر) بلغت 2466 من بينها 1492 ولادة طبيعة و974 ولادة بعمليات قيصرية. وتشير عبدالله إلى أن الإحصائيات هذه لا تشمل المشافي والعيادات الخاصة.

حلول غائبة

ترى د. محمد أن الحلول لا تزال غائبة، وكل ما يمكن فعله هو تنفيذ الإرشادات التي يوجهها الأطباء للمرأة الحامل، كالابتعاد قدر المستطاع عن أماكن ازدحام السيارات والمولدات التي تنبعث منها نواتج المحروقات لتقليل نسبة الإسقاطات والتشوهات الخلقية.

وهذا ما يصعب التقيد به وفق قول راما بسبب اعتماد منطقة الجزيرة السورية على المصافي البدائية لتأمين الحاجات المتزايدة لأعداد السيارات والمولدات الكهربائية التي تتضاعف بمرور الوقت في ظل غياب الحلول الشاملة من مصافي نفط ومعامل كهرباء بعيدة عن التجمعات السكنية وتطبق تقنيات تنقية الانبعاثات اللازمة. حتى ساعة إعداد هذا التقرير، بلغ عدد مولدات الكهرباء المسجلة لدى "بلدية الشعب" في مدينة القامشلي وريفها 437 مولدة بحسب لجنة المولدات التابعة للبلدية.

لا ترى المهندسة لورين عبدالله بديلًا عن السعي لضبط نسب التلوث في المنطقة، ولكنها تدرك أن هذا يحتاج إلى "تكثيف حملات التشجير التي من شأنها تنقية الهواء وخفض درجات الحرارة، والاعتماد على الطاقة المتجددة كطاقة الرياح والطاقة الشمسية لتقليل استخدام مشتقات النفط ذات الجودة الرديئة. ولا بدّ كذلك من منع استخدام مصافي النفط البدائية (الحرّاقات)، وإصلاح خطوط الأنابيب التي تضررت وخرجت عن الخدمة لنقل النفط وتصفيته في المصافي المجهزة بمعدات التكرير". وإلى اليوم، ما زالت هذه الأمور بعيدة التحقق.

طبيًا، ليس في يد د. محمد حيلةً تتجاوز منح النساء في عيادتها النصائح الوقائية المعتادة، من قبيل الابتعاد عن تناول المشروبات الغازية ووجبات الطعام الجاهزة والاعتماد على الخضروات والفواكه عوضًا عنها، وممارسة الرياضة وشرب كميات كافية من المياه، إضافة إلى تناول حبوب الفوليك أسيد طوال أشهر الحمل لتقليل نسبة الإسقاطات والتشوهات. وفي الوقت الذي كانت فيه هذه النصائح مجرد خطوة اعتيادية في الماضي، فإنها باتت اليوم صعبة التحقيق مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والأدوية مما سيحرم الكثيرات من تطبيقها.

لا تبدي د. محمد كثيرًا من التفاؤل بالمستقبل، وهي ترى أن "المنطقة قد تتجه نحو كارثة صحية لا تحمد عقباها على جيل بأكمله خلال الأعوام القادمة". تعيد د. محمد تأكيدها أنه كلما ازدادت نسبة تلوث الجو بنواتج المحروقات من الغازات السامة، سيزداد معدل حالات الولادات المبكرة وتشوه الأجنة، فضلًا عن التأثير السلبي على صحة الحامل واحتمالية إصابتها بالأمراض الصدرية والتحسسية في الأنف والحنجرة، بسبب ضعف المناعة أثناء فترة الحمل. وفي ظلّ تزايد أعداد السيارات، وخصوصاً القديمة منها، التي تدخل لمناطق "الإدارة الذاتية" كل عام، وغياب رقابة حقيقة على عملية الإدخال هذه، بالإضافة لازدياد أعداد مولدات الكهرباء والاعتماد على المحروقات الرديئة الناتجة عن المصافي البدائية، فقد لا تبدو نظرة د. محمد مغالية في تشاؤمها.  

كل ذلك يزيد من مخاوف راما في حملها الحالي، ولا سيما بعد الإسقاطات المتكررة التي عانتها في السابق وما نتج عنها من انعكاسات نفسية صعبة عليها. تحاول راما تحاشي المرور بجانب مولدات الكهرباء المنتشرة في أحياء المدينة التي تسبب لها ضيق في التنفس، ولا تمشي في الشوارع المزدحمة بالسيارات، وتسأل بيأس "أين سنذهب؟ المنطقة كلها ملوثة بهذه السموم!".

 

* أنجزت هذه المادة في إطار برنامج تدريب يضم صحافيات وصحافيين من سوريا من تنظيم "أوان" وبدعم من منظمة "دعم الإعلام الدولي International Media Support".


سوريا: جفاف على ضفاف الفرات

يواجه السوريون، خصوصًا في شمال شرقي البلاد، أزمة ناجمة عن عدم توفر كميات كافية من مياه الشرب بسبب..

سولنار محمد

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة