مشكلتنا مع البلاستيك
كيف يتعامل العالم العربي عمومًا، وسوريا على وجه الخصوص، مع مشكلة البلاستيك الذي تقوم بعض الدول اليوم بإحلال بدائل صديقة للبيئة مكانه؟
كيف يتعامل العالم العربي عمومًا، وسوريا على وجه الخصوص، مع مشكلة البلاستيك الذي تقوم بعض الدول اليوم بإحلال بدائل صديقة للبيئة مكانه؟
في بدايات القرن العشرين، جاء اختراع البلاستيك كحلٍّ لما عُدّ يومها "مشكلة بيئية" بدأت بالظهور بسبب التوسّع في مجالات التصنيع والطلب على المنتجات المنزلية. كانت تَدخلُ في صناعة تلك المنتجات مواد طبيعية مختلفة، كالعاج والصدف والعظم والخشب. لهذا، شكّل إنتاج البلاستيك ذي التركيبة الاصطناعية الخالصة بديلًا أنقذ العديد من الأجناس الحيوانية المهددة بالانقراض.
كما فتحت "المادة ذات الألف استخدام" السبيلَ لابتكار ما لا يُحصى من المنتجات الجديدة، منذ خمسينيات القرن الماضي على وجه التحديد، وسمحت بالاستعاضة عن مواد أكثر تكلفة كالزجاج والخشب والمعادن. من هنا بدأ تصنيع بدائل بلاستيكية تُستخدم لمرة واحدة، كعلب الطعام ومواد التغليف والأكياس وغيرها.
تحيط بنا هذه الأشياء أينما نظرنا، بحيث بتنا غير قادرين على تصوّر حياتنا من دونها، وصرنا كالـ"مدمنين على المنتجات البلاستيكية التي تُستخدم لمرة واحدة، والتي تتسبب في عواقب بيئية واجتماعية واقتصادية وصحية وخيمة" بحسب "برنامج الأمم المتحدة للبيئة".
هذا الاعتماد المتزايد على البلاستيك في الحياة المعاصرة تحوّل إلى مشكلة بيئية بسبب التلوث المصاحب لعملية تصنيعه من جهة، والنفايات البلاستيكية المتراكمة من جهة أخرى. إذ إن العالم صار ينتج اليوم "نحو 400 مليون طن من النفايات البلاستيكية كل عام".
وبحسب بيانات "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD"، فإن 9% فقط من نفايات البلاستيك يُعاد تدويرها على مستوى العالم، بينما يقبع نحو نصف تلك النفايات في المطامر، وتتوزع 22% منها حول العالم على مكبّات عشوائية وفي الطبيعة، ويُحرق الباقي، وهو ما يطلِق المزيد من الغازات الضارة بالبيئة.
تلك هي الوقائع حول العالم، فأين تقع سوريا والمنطقة العربية عمومًا على خريطة البلاستيك؟
تعتمد صناعة أكثر من 99% من البلاستيك على مواد أولية كيماوية مستخلصة من الوقود الأحفوري بحسب "مركز القانون البيئي الدولي". وبحسب تقرير صادر عن "المنتدى الاقتصادي العالمي"، فإن إنتاج البلاستيك يشكّل نحو 6% من استهلاك النفط العالمي، وهو ما يعادل استهلاك قطاع الطيران العالمي.
تضع هاتان النسبتان السابقتان البلاستيك في خانة الصناعات ذات البصمة الكربونية العالية، إذ تُعدّ واحدة من أكثر الصناعات مساهمة في انبعاثات الغازات الدفيئة المُسببة للاحتباس الحراري.
عام 2019، تولّد عن البلاستيك 1.8 مليار طن من الغازات الدفيئة، أي ما نسبته 3.4% من الانبعاثات العالمية بحسب بيانات "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية".
وتتوقع المنظمة أن تتضاعف الانبعاثات الناتجة من دورة حياة البلاستيك بحلول عام 2060، لتبلغ 4.3 مليار طن من انبعاثات غازات الدفيئة عالميًا، في حين تبدو توقعات الأمم المتحدة أكثر تشاؤمًا، إذ تفيد بأن انبعاثات الغازات الدفيئة 6.5 ستبلغ مليار طن تقريبًا بحلول عام 2050.
تحبس هذه الغازات حرارة الشمس عند ارتفاع نسب تركيزها في الغلاف الجوي للأرض. وهذا يؤدي إلى الاحتباس الحراري وتغير المناخ بحسب تعريف الأمم المتحدة. وبمرور الوقت، تؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى تغيّرات في أنماط الطقس واضطرابات في توازن الطبيعة، ما يشكل تهديدًا للكثير من أوجه الحياة على الأرض.
وبحسب تقرير صادر "مختبرات غرينبيس للبحوث"، يعاني الشرق الأوسط من ظاهرة الاحترار بوتيرة تقارب ضعف المعدل العالمي. من جهته، يضع "صندوق النقد الدولي" منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا على خط الجبهة في مواجهة التبعات الإنسانية والاقتصادية التي يتسبب بها التغير المناخي.
ويجدر هنا التذكير بأن المنطقة تقع أصلًا في نطاق مناخي صعب، ما يفاقم آثار التغير المناخي من تصحر وإجهاد مائي وارتفاع بمستويات البحر. وستظهر العواقب المباشرة لتلك التغيرات في تراجع الأمن الغذائي والصحة العامة.
التلوث البلاستيكي على شاطئ خلدة، الأوزاعي في لبنان - JOSEPH EID /AFP
تشير بعض التقارير الاقتصادية إلى أن الإمارات العربية المتحدة والسعودية ومصر تحتل مراتب أكبر منتجي البلاستيك في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وتوجد مؤشرات تتوقع زيادة في إنتاج البلاستيك واستهلاكه في دول "مجلس التعاون الخليجي"، خصوصًا مواد التعبئة والتغليف والأدوات المنزلية الأخرى، بسبب التزايد السكاني وارتفاع القدرة الشرائية عمومًا.
سوريًا، تغيب المعلومات الدقيقة والمخصصة عن غالبية التقارير بسبب قلة البيانات أو عدم توفرها حتى. لكنّ سوريا لا تغيب عن المشهد المناخي المتأزم في المنطقة مع استمرار الأزمة فيها ودخولها عامها الثاني عشر. فقد خلفت الحرب، بحسب دراسة بعنوان "الآثار البيئية للصراع السوري" نشرتها "مبادرة الإصلاح العربي"، آثارًا بيئية خطيرة بسبب كثرة استخدام الأسلحة المتفجرة، والأضرار التي لحقت بمصافي تكرير النفط، وكذلك بسبب سوء إدارة النفايات والمياه.
وتستعرض الدراسة مجموعة من التحديات البيئية التي تترتب عليها أضرار صحية واجتماعية واقتصادية فادحة؛ بما في ذلك تلوث الهواء، والانبعاثات، واجتثاث الغابات، وتآكل التربة وانحسار الغطاء النباتي، ونضوب المياه. وبرغم أن الدراسة لا تتعرض للبلاستيك تحديدًا، إلا أن الصورة التي تتصدرها تُظهر عاملًا في مصفاة مؤقتة تستخرج الوقود من النفايات البلاستيكية عن طريق حرقها. ويكاد الهباب الأسود يخرج من الشاشة مترافقًا مع رائحة خانقة عند النظر إلى تلك الصورة فقط!
وبرغم تأثر القطاع الصناعي عمومًا بالأزمة، وتوقّف العديد من المعامل أو دمارها، فإن الصناعة البلاستيكية في سوريا ما زالت واحدة من القطاعات النشطة نسبيًا. ويبين "دليل الصناعات الكيميائية السورية" عددًا لا بأس به من منشآت الصناعات البلاستيكية التي لا تزال عاملة في مختلف المناطق الصناعية السورية. ويقول محمد الطير، مالك أحد معامل البلاستيك، لـ"أوان"، إن في دمشق وحولها ما يزيد عن 200 معمل لإنتاج البلاستيك.
في آب/أغسطس 2022، نشرت صحيفة "الشرق الأوسط" تقريرًا عن مخاطر الانبعاثات الغازية من النفايات إثر نشر صورة فضائية عالية الجودة تبيّن أن "انبعاثات غاز الميثان الصادرة من أحزمة النفايات في العالم [...] ترتفع بما يتجاوز التقديرات السابقة بأضعاف".
وتُظهر دراسات أن النفايات البلاستيكية، سواء كانت تلك المرمية في مكبات مفتوحة أو في مطامر، تعد المصدر الرئيس للجسيمات البلاستيكية الدقيقة (microplastics) التي تدخل إلى التربة والمياه الجوفية وتنتقل عبر الهواء حتى تصل إلى المناطق القطبية، وتساهم بالتالي في تسارع التغير المناخي عبر امتصاصها الضوء والحرارة، وتسببها في تراجع الغطاء الجليدي. وتؤكد هذه الحقائق الأهمية المتزايدة لمعالجة النفايات البلاستيكية وإعادة تدويرها على نحو صحيح.
يوجد في الشرق الأوسط، بحسب البيانات المتوافرة، نحو 250 محطة لإعادة تدوير البلاستيك، يتركز معظمها في تركيا والإمارات وإيران والسعودية. أما سوريا، فليس فيها قطاع منظم وفاعل في مجال إعادة تدوير النفايات بشكل عام والبلاستيك بشكل خاص.
وكثيرًا ما يعتمد السوريون على إعادة استخدام المنتجات، حتى تلك المعدة للاستخدام لمرة واحدة كعبوات المياه أو الطعام. لكن مع زيادة الإنتاج وشيوع التقاليد الاستهلاكية أكثر فأكثر، شهدت المدن السورية والأرياف، على حد سواء، تكاثرًا في أكوام النفايات، خصوصًا البلاستيكية منها.
وهناك نسبة لا بأس بها من النفايات القابلة لإعادة التدوير، تكون من نصيب النباشين ومن يجندهم من أصحاب الورش الصغيرة والمعامل التي تشتري ما يستخرجونه دون اعتماد آليات معينة للفرز. محمد المحمد، مدير مؤسسة "البهاء" لإعادة تصنيع الأدوات الزراعية وتكريرها، يعتمد على ورشات صغيرة تجمع المواد البلاستيكية التالفة لتكريرها خمس أو ست مرات، ومن ثم إعادة تشكيلها وإنتاج قطع جديدة صالحة للاستخدام مرة أخرى.
مكبّ نفايات في الدانا في محافظة إدلب، سوريا - AAREF WATAD / AFP
يؤكد هذا الأمر لـ"أوان" محمد بكر، المدير التنفيذي لشركة "الاتحاد للبلاستيك"، الذي يقول إن مبدأ إعادة التدوير غير موجود اليوم في سوريا، فهو يحتاج إلى منظومة متكاملة لجمع المواد المراد تدويرها وفرزها، وهذه عملية مكلفة جدًا وتحتاج إلى تضافر جهود البلديات والقطاع الخاص. لذلك، يرى البكر أن العديد من المعامل الصغيرة يعتمد للحصول على النفايات الصلبة القابلة لإعادة التدوير على الأطفال والعاطلين عن العمل الذين يبحثون عن تلك المواد في حاويات القمامة ومكبات النفايات.
تفرض وزارات البيئة في كثير من الدول معايير عالمية تحدد من خلالها نسبة انبعاثات الغازات الدفيئة والكربون التي تجعل عملية التصنيع غير ضارة للبيئة، وفي حال وجود نسبة كبيرة من التلوث، قد تُفرض على المعامل غرامات مالية. أما في سوريا، فيُطلب من المعامل قيد الإنشاء وضع مخطط بيئي. وعلى هذا المخطط أن يتضمن موقع المعمل ونوعه، وما إذا كان يوجد مكب نفايات قريب منه، وما إذا كانت الآلات مطابقة لمعايير الجودة فقط.
وبحسب الكيميائية فتحية محمد، تقوم "دائرة سلامة الهواء والغلاف الجوي" التابعة لمديرية السلامة البيئية بمتابعة ما يتعلق بمعايير نظافة الهواء والمساهمات في التغيرات المناخية. وتؤكد محمد أن هناك التزام بتلك المعايير من قبل أصحاب المنشآت وأن المخالفات يتم رصدها. لكن معدة هذا التقرير لم تستطع التأكد من هذه المعلومات بسبب غياب بيانات وأرقام توضح نسب انبعاثات الغازات الدفيئة والتلوث في سوريا.
عالميًا، هناك توجه اليوم لفرض حظر على بعض أنواع البلاستيك ذات الاستخدام الواحد، التي تبقى في البيئة لعشرات السنين دون تحلل. كان هذا واحدًا من أهداف مفاوضات باريس، علمًا بأن غاية المفاوضات التوصل إلى معاهدة ملزمة عالميًا بشأن البلاستيك بحلول نهاية العام 2024.
لذلك، تتجه بعض الدول اليوم إلى إحلال بدائل صديقة للبيئة مكان البلاستيك في بعض أوجه الاستخدامات الحياتية. هناك دول عربية، مثل المغرب ومصر والإمارات، ستبدأ بتطبيق قرار حظر بعض منتجات الاستخدام الواحد في مطلع العام 2024. أما سوريا، فما زالت على هامش ما يجري من اتفاقيات متعلقة بتغيّر المناخ والتلوث البيئي.