"سألت أختي عن مكان ابنتها لتجيب بأن أحد الجيران يأخذها أحيانًا ليلاعبها، وبأنه غالبًا ما يشتري لها التسالي أيضًا. وإذ شعرتُ ببعض القلق حيال هذا الكلام، تفاجأنا بها تدخل المنزل بعد ما يزيد عن ساعة مباعدة ساقيها ومشيرة إلى المنطقة بينهما كمن يوحي بألم أو إحساس غريب. أسرعنا نحوها، وكانت صدمتنا كبيرة عندما وجدنا بقايا سائل منوي في ملابسها الداخلية".
هكذا تتذكر نايا (اسم مستعار) ما حدث أثناء أحد زياراتها لأختها والدة الطفلة آية (اسم مستعار) البالغة اليوم من العمر 13 عامًا والمصابة بـ"متلازمة داون". وتضيف نايا: "حدثت القصة منذ خمس سنوات، حينها طلبتُ من أختي أن تتوجه مباشرة إلى طبيبة نسائية للاطمئنان، وعندما سألتها في ما بعد عن النتيجة، أجابت أن ابنتها تعرضت إلى نصف اغتصاب". يعني هذا أن آية تعرضت لتحرش جنسي، ولكن من دون حدوث عملية إيلاج كاملة.
تُعرّف "يونيسف" في تقرير لها صدر عام 2020 "العنف الجنسي ضد الأطفال" على أنه "مشكلة عالمية"، وتقدّر تعرض طفل من كل ثمانية أطفال للإساءة الجنسية قبل بلوغ سن 18 عامًا. كما تؤكد دراسة قامت بها "الشبكة الوطنية للاغتصاب والتحرش والسفاح Rape, Abuse, and Incest National Network)" في الولايات المتحدة أن التحرش الجنسي بالأطفال على يد بالغين ظاهرة واسعة الانتشار. وبحسب الدراسة فإن مرتكبي هذا الجرم يكونون بنسبة 93% من أقرباء أو معارف الطفل الضحية.
تعمل والدة آية يوميًا، ولا تستطيع اصطحابها معها إلى مكان العمل، وتقول: "ابنتي محبوبة من جميع الجيران ومعتادة عليهم، لذلك أتركها وأذهب لعملي وأنا مطمئنة"، تتنهد وتتابع "لاحظت مرات عدّة تصرفات غريبة على ابنتي"، وتتذكر الجار المتحرش وهو رجل أربعيني طيب السمعة، حسب وصفها، وتضيف: "كانت بمثابة صدمة لي".
إحصاءات وأرقام
ما يغيب عن التقارير المذكورة أعلاه، وكثير غيرها، تخصيص دراساتٍ تتناول وقائع وإحصائيات تعرّض الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة إلى شكلٍ من أشكال العنف الجنسي. يؤكّد "مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC)" أن الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة هم "عرضة على نحو خاص" لحوادث التحرش والاعتداء الجنسي. وبحسب الأخصائي النفسي، أنس بدّور، فإن ذوي الاحتياجات الخاصة يتعرضون أكثر من غيرهم للتحرش بنسبة أربعة أضعاف، والسبب يعود لاستسهال المتحرِّش لضحيته وضمان سكوتها من جهة، وعدم إدراك الضحية للتحرش كفعلٍ أحيانًا في حال كانت الإعاقة ذهنية من جهة أخرى.
تقول نايا: "لا تدرك آية ما حصل لها وتظن أنها كانت تلعب فقط، وتؤكد لنا هذا عندما نسألها "ماذا فعل لك عمو؟". ولكنها أيضًا تضيف: "أصبح لديها رد فعل تجاه الرجال، فبرغم مرور وقت طويل على الحادثة، إلا أنها كانت تقوم بسلوكيات تؤكد أن أثر الحادثة لازال موجودًا".
ينسب بدّور تلك العوارض إلى اضطراب يسمى "زوال التثبيط الجنسي"، يصبح فيه التحكم بالغرائز والسلوك الجنسي أقل بسبب عدم الوعي للجنس، ويكون هذا السلوك بمثابة رد فعل نفسي مرضي، لا تعي فيه الضحية معنى السلوك الذي تقوم به، وتلجأ لتفريغ التوتر من خلال سلوكيات جنسية أو أفعال غريبة أخرى، وذلك يحتاج لعلاج طويل الأمد.
ترفض نايا تضمين تلك السلوكيات التي حكت عنها في سياق المقالة لحساسيتها، ولكن مجرّد قبولها سرد قصة آية يعد شجاعة في مجتمع يحترف الصمت والخوف من جهة ويفتقد آليات الإحصاء الدقيق والمتابعة اللازمة من جهة أخرى.
يبلغ عدد الحاصلين على "بطاقة إعاقة" في سوريا 145,598 شخصًا بحسب إحصائية لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بين عامي 2011 و2022، ولكن تؤكد فرح التل أن الأرقام أكثر بكثير. ترجّح التل التي تعمل كمترجمة للغة الإشارة في "جمعية رعاية الصم بدمشق" أن سبب عدم دقة الأرقام يعود لعدم إحصاء جميع من يولدون بإعاقة، أو تحدث لهم في ما بعد، وإنما تشمل الإحصائيات الوزارية أولئك الذين يتقدمون بطلب الحصول على بطاقة إعاقة فقط.
التحرش حاضر في القانون السوري لكنه مغيّب اصطلاحًا تحت مسمى "اللمس أو المداعبة بصورة منافية للحشمة"
يتعرض البالغون من ذوي الاحتياجات الخاصة، الحسية كما الحركية، لحوادث التحرش أيضًا على اختلافها. تقول التل: "نستقبل الصم والبكم في الجمعية من الأعمار كافة... ونقدم لهم جلسات توعوية ونشاطات خاصة، وفي الآونة الأخيرة افتتحنا عيادة نفسية بالتعاون مع الفريق الطبي السوري التابع لجمعية تنظيم الأسرة السورية، لتقديم جلسات الدعم النفسي، وقد لاحظت من خلال الجلسات وجود الكثير من حالات التحرش بالصم والبكم."
يرفض قاسم عوّاد، رئيس الفريق الطبي السوري، التحدث مع "أوان" عن أي حالات محددة وذلك حفاظًا على الخصوصية من جهة، ومن جهة أخرى، حفاظًا على استدامة الثقة التي بناها الفريق في المجتمعات التي يعمل معها.
رواية قصة عبر وسيط
تصف التل مجتمع الصم والبكم على أنه أقرب إلى "العشيرة"، حيث يوجد لكل مجموعة في المحافظات السورية "قائد"، ورغم أنهم فئة هشة في المجتمع لكنهم أقوياء بين بعضهم. "لا وجود للأسرار في مجتمع الصم والبكم" تقول التل، فالأخبار والأحداث تنتشر بينهم بسبب تلاحمهم، وقد تنتشر أحيانًا خارج سوريا إثر تواصلهم بإشارات عالمية يفهمها الصم والبكم من جنسيات مختلفة. لهذا يخاف البعض منهم الإفصاح عمّا يتعرض له خوفًا من ذويهم أو خشية الفضيحة، فإذا نُبذ الواحد منهم لأي سبب من مجتمعه ستصبح حياته كريهة بحسب التل.
دارى محروس (اسم مستعار) قصته طويلًا، ولكنه اقتنع أخيرًا بمشاركتها علنًا، ولكن مع أقصى درجات الحذر لجهة المحافظة على خصوصيته وإخفائه هويته الحقيقية. إذًا، القصة ستُروَى لـ"أوان" عبر اتصال فيديو. يجلس محروس، البالغ من العمر 24 عامًا، في غرفته بعيدًا عن كاميرا الهاتف مع صديقه المقرب حسن، وهو من الصم البكم أيضًا، يقص حكايته بلغة الإشارة. ينقل حسن، الجالس أمام الكاميرا، إشارات محروس التي تتلقاها بدورها مايا ميدة، مترجمة لغة الإشارة، عند طرف الاتصال الآخر وتترجمها لي.
"تعرضت للتحرش منذ سنتين بسبب شكلي الأقرب للفتيات... كنت في طريقي إلى المنزل وقررت أن استقلّ سيارة تكسي، فحاول السائق لمس يدي عدة مرات بطريقة غريبة مبررًا ذلك بمحاولته التواصل معي بلغة الإشارة". تتابع ميدة ترجمة القصة: "فوجئت بتغيير السائق مساره وتوجهه إلى مكان مقطوع، شعرت بالخوف ولم أستطع الصراخ... وعندما بدأت بالبكاء وحاولت استعطافه، حاول لمسي مرة أخرى وضربني واستولى على نقودي ثم دفعني على الأرض وذهب مسرعًا".
أخفى محروس الأمر عن الجميع حتى والديه، واكتفى بإخبار صديقه المقرب حسن الذي حاول دعمه وإخراجه من حالة الاكتئاب التي عانى منها. "كنت آخذه للتنزه أو للقيام بنشاطات مختلفة كي ينسى ما مرّ به، بعدما أصبح أكثر عصبية وانعزل عن الجميع لأيام" يقول حسن. يؤكد محروس حالته هذه بقوله: " كنت أبكي عندما أكون لوحدي، وتناولت الأدوية المهدئة، وحتى الآن أخشى ركوب التكسي وحدي خوفًا من تكرار الحادثة".
اضطرابات نفسية
إن الاضطراب النفسي الذي يرافق التحرش بعمر المراهقة، يتعلق بالوعي لدى الضحية تجاه الشيء الذي حصل وفهم الآلية الجنسية، وهذا ينعكس بقلق واضطرابات مزاجية كما في حالة محروس بحسب بدّور.
تقدّر فرح التل، بسبب احتكاكها اليومي مع الصم والبكم، نسبة الذين يتعرضون لشكلٍ ما من التحرش الجنسي بأكثر من 80%. تتذكر التل حالة فتاة بكماء تمامًا تعيش مع جدتها التي تمنعها من الخروج من المنزل والاختلاط مع الآخرين. وحدها صديقة الفتاة، وهي من ذوات الاحتياجات الخاصة أيضًا، تزورها صحبة والدتها بين الحين والآخر، وهي من عرف منها أن ابن خالتها يتحرش بها.
قليلة هي قضايا التحرش التي تُرفع أمام المحاكم بسبب التخوف من الفضيحة، فغالبًا ما يكون المتحرش أحد أفراد العائلة
إثر إصرار صديقة الفتاة خلال زياراتها لها اقتنعت الجدة أخيرًا باصطحاب حفيدتها إلى الجمعية. "حاولنا جاهدين أخذ الفتاة إلى غرفة الداعمة النفسية دون مرافقة جدتها لها بحجة أنها جلسة صبايا، وبصعوبة تمكنا من استخلاص الكلام منها" تقول التل التي تؤكد على الآثار النفسية القاصمة التي تعانيها الفتاة والتي تنعكس عليها بشتى الأفكار الانتحارية.
تندرج هذه الأعراض النفسية ضمن سياق الاكتئاب المرافق لاضطراب الشدة ما بعد الصدمة النفسية (Post-Traumatic Stress Disorder) بحسب بدّور الذي يشدد على أن هذا الاضطراب "يرافق معظم ضحايا التحرش... حيث تصبح أي ذكرى مرتبطة بهذا الحدث كافية لتفعيل ردود فعل نفسية سلبية جدًا، وأحيانًا يكون هناك نوبات غضب عنيفة نتيجة تذكر الضحية للحدث أو ربط المكان التي هي فيه بحادثة التحرش، أو رؤية الشخص المعتدي أو شخص يقرب له".
مجتمع لا يحمي
يتفاقم خوف المجتمع وصمته من جهة، والجهل بالإجراءات القانونية وتعقيداتها من جهة أخرى كي تشكل جميعها نوعًا من الحماية للمتحرش في غالب الأحيان. تقول والدة الطفلة آية أنها لم تلجأ للقضاء بعد حادثة ابنتها، وذلك ظناً منها أن الأمر لن يؤخذ بعين الاعتبار واكتفت بالصمت، ولم يستطع محروس التقدم بشكوى سرقة حتى لعدم رؤيته لرقم السيارة.
ولكن تستغرب فرح التل عدم تقديم أي شكوى من قِبل باقي أفراد جمعية رعاية الصم الذين تعرضوا للتحرش وتقول: "إنهم يخافون من سلطة المجتمع، حتى أن الكثير من الحالات تحدث في ما بينهم، لكنهم لا يلجأون إلى القانون بل يختارون الحلول السلمية، وفي حال إبلاغ إدارة الجمعية يكتفي الإداريون بطرد المتحرش".
تعمل التل أيضًا كخبيرة لغة إشارة معتمدة في المحاكم، وتشهد العديد من القضايا وتقول "قليلة هي قضايا التحرش التي تُرفع أمام المحاكم بسبب التخوف من الشكوى والفضيحة فغالبًا ما يكون المتحرش أحد أفراد العائلة". وهي ترى أن القضاء يكون متساهلًا أحيانًا، ويطيل الإجراءات والمدّة بين أوقات الجلسات، وفي الغالب تكون مدة الحكم غير عادلة، عدا عن معاملة ذوي الإعاقة من الصم والبكم كأشخاص سامعين متكلمين أحيانًا.
لا يتفق المحامي عدي قدور مع التل حيال استهداف الصم والبكم بطول مدة الإجراءات فهو يراها مشكلة عامة تمس جميع المتقاضين في المحاكم السورية. كما يقول قدور أن التحرش حاضر في القانون السوري لكنه مغيّب اصطلاحًا تحت مسمى "اللمس أو المداعبة بصورة منافية للحشمة" في نص قانون العقوبات العام السوري الذي يقر أحكامًا تُدْرِج ذوي الاحتياجات الخاصة مع من هم ناقصي الأهلية أو عديميها أو ذوي "علة" في أجسادهم.
تختلف إجراءات تقديم الشكوى باختلاف نوع الاحتياج الخاص بحسب قدور، "فمن كانت حاجته جسدية وهو بكامل قواه الذهنية يعامل معاملة عامة ولا يحتاج لأي مرافق، أما في حالات معينة كالمصابين بضرر ذهني أو متلازمة داون، فأولئك يمثلهم أحد أفراد عائلتهم أو من هو مسؤول عنهم بحكم القانون". ويخصص القانون المدني السوري المادة 118 منه لإقرار أحكام تقاضي ذوي الاحتياجات الحسيّة الخاصة.
يعترف قدور بأنه يقابل في مكتبه العديد من قضايا التحرش ذوي الاحتياجات الخاصة، "ولكنها لا تمثّل الكم الحقيقي لهذه الجريمة على أرض الواقع". وهو ينهي كلامه مؤكدًا: "للأسف تفتقد مجتمعاتنا لثقافة الشكوى إما ليأسها من نيل حقها، وإما خوفاً من الفضيحة، وإما لعدم بوح الضحية، لذلك نحن بحاجة لحملات توعية كبيرة لنشر ثقافة الشكوى على هكذا جرائم". فيما ختمت التل شهادتها على نحو أكثر تشاؤماً بقولها: "لقد فقدنا الأمل من القانون الذي لا يأخذ حق الصم والبكم".
* أنجزت هذه المادة في إطار برنامج تدريب يضم صحافيات وصحافيين من سوريا من تنظيم "أوان" وبدعم من منظمة "دعم الإعلام الدولي International Media Support".