قليلٌ بين شيئين

قليلًا من مسارات القسوة وترف الخيارات كانت الرقصة التي شاهدتها. بين شيئين كانت. بين حريق وجليد. ودفعتني إلى التفكير بالنار والجليد منذ عام 2011 في سوريا.

لقد شاهدتهم يرقصون. وكنتُ سعيدة. وكنتُ حزينة.

"أولئك الذين لا تصلهم أصوات الموسيقا، يحسبون من يرَونهم يرقصون مجانين." (فريدريك نيتشه)

حضرت قبل شهر تقريبًا عرض كوريغرافيا. شعرت أنّي ـــ كما لو كنت وحيدة بين جموع الحاضرين ـــ تحت سطوة الجسد. كما لو كان يخاطبني دون سواي، مستثمرًا، وبشكل مدهش، في الخطوط الهندسية التي تنكسر وتستقيم ثم تنحني وتستدير. وكلما حاولتُ التسلل خارج هذه المصيدة، جاءت حكاية ما على شكل إيماءة ارتقاء أو سقوط، أو قسوة أو متعة، أو رغبة أو حاجة، وأعادتني إلى دواخلها... على إيقاعٍ كائنٍ بين رجل وامرأة!

في الأثناء كانت عواطف، وذكرى، بل سيل من الذكريات، تنهش قلبي.

وفي الخلفية كان تدفق وليونة وموسيقا، واسترجاع للحركة، بل اختراع لها. فـ"المسرح فعلٌ قبل أن يكون اسمًا" (مارثا غراهام، راقصة ومصمّمة رقص أميركيّة).

إنه الرقص!

الرقصة الأولى، القصة الأولى

قليلًا من مسارات القسوة وترف الخيارات كانت الرقصة الأولى. بين شيئين كانت. بين حريق وجليد.

فكّرت بالنار والجليد منذ عام 2011 في سوريا.

وفكّرت بأنّي بعيدة عن سوريا، عن دمشق تحديدًا، مسافة أكثر من 3,000 كلم. لكنّي كنت أشعر، برغم ذلك، أنّي في قلب النار والجليد.

الرقصة التي أدّاها رجل وامرأة مستوحاة من قصيدة روبرت فروست "النار والجليد".

"يقول الناس إن العالم سينتهي بالنار، بينما يقول آخرون سينتهي في الجليد.

ما أعرفه عن الرغبة، تجعلني أتبع أولئك الذين هم في النار.

ولكن إذا كان العالم لابد أن يذوي مرّتين، فأعتقد أنّي رأيت ما يكفي من الكراهية لأتمكّن من القول إن الجليد مذهل وكاف للتدمير."

روبرت فروست

في الحقيقة، لقد رأيت كمًا كبيرًا من الكراهية. الجليد ذو أثر مذهل ولا شكّ كافٍ للتدمير.

لقد وصلنا في 2011 إلى نهاية مسار، وكان علينا جميعًا أن نختار، وقد اخترنا النار والجليد.

الرقصة الثانية، الساراباندا

كان من الممكن أن يكون الحبّ بلا أنياب،

بأكتاف عريضة،

ورجل يجري في قلب امرأته،

وشمس تدور حول الأرض،

ونحل يغطّي سقف الربيع،

وعلبة ضمادات لجروح سريعة التعافي.

لحظات صراخ زوجة أخي، التي لم تتجاوز الثواني، علّمتني معنى الفقد، فقد الأبناء

الساراباندا هي رقصة بطيئة يُقال إنها ظهرت بداية في إسبانيا، ذات جذور أندلسيّة أو مستمدّ من مستعمرات إسبانيا في أميركا الوسطى، ثمّ انتقلت من هناك إلى فرنسا ولاحقًا إلى أنحاء أخرى من العالم.

غالبًا ما تتشكل الرقصة المتدرّجة من زوج من الراقصين ـــ رجل وامرأة ـــ يرقصان ببطء شديد، تلي ذلك قفزة خاطفة يرتفعان بها عاليًا. يرقصان بوفرة من الحزن ووفرة الفرح.

الرقصة قديمة، تصاحبها موسيقا تحمل الاسم ذاته. وحتى تلك اللحظة، لم أكن أعرف أنّ القطعة الموسيقية المعروفة تلك تُسمى ساراباندا، وأنها من تأليف الموسيقي الإنكليزي ذي الأصول الألمانية هاندل.

يصعب على المرء أن يصدّق بأن الإسبان المفعمين بالحركة ابتدعوا هذا النوع من الرقص؛ رقص بخط مستقيم، بتريّث!

خطوة خطوة، على مهل. تجرّ قلبك خلفك، ثمّ يُستعاد إيقاع أوراق الشجر مع كلّ حركة.

هكذا يشيّع الآباء أبناءهم!

رجل وامرأة في ثياب النوم. عناق، عناق، في لحظة موت.

فقدُ الأبناء!

رضوض الفقد، الطوفان الذي يأتي، الموج الذي بلع الأطفال، الندم لأننا ـــ كآباء وأمهات ـــ لم ننقذهم.

كلّنا نسينا صراخنا في الماء.

الضجيج الهادر لألم الموت!

يسحب الراقص شريكته، ويدور بها. يطيران، يلحقان بالطفل الذي سبقهما.

كيف يمكن لشخصين مليئين بالثقوب أن يرمّما نفسيهما!

أب وأم يرقصان ببطء، يتعانقان، ينغمسان ببعضهما.

في فجر يوم من صيف 2012، سقطت قذيفة أو صاروخ ـــ لا أدري ـــ على المنزل المجاور لبيت أهلي. كنتُ أنام محتضنة طفلي الذي لم يتجاوز عمره الستة أشهر، وإلى جواري تنام زوجة أخي، تحتضن هي الأخرى طفلها الرضيع. استفقت على هول الصوت وزحفتُ أرضًا من دون أن أتبيّن الطريق أمامي، وأنا أحضن طفلي، إلى أن بلغت عتبة الغرفة. ثمّ سمعت صوتًا يشق المكان حولنا. كانت زوجة أخي تركض خارج الغرفة، تصرخ وتنادي باسم ولدها الذي نسيته وراءها، والذي كان نائمًا بجواري.

لحظات الصراخ تلك، التي لم تتجاوز الثواني، علّمتني معنى الفقد. فقد الأبناء.

لم يصب الطفل بأذى، لكنّ أمّه الخائفة ظنّت أنها فقدته.

"المعجزة الحقيقية لكلّ زوجين هي ولادة طفل.

والمأساة الحقيقية للزوجين هي فقد الأطفال.

في تلك اللحظة ينهار العالم كله.

وبالحب الحقيقي والدعم المتبادل فقط، يمكن أن يتغلّبا على الخسارة."

في بروشور العمل الذي كان بيدي طوال الوقت، وَرَدت هذه العبارات بالألمانيّة. 

قرأتها منه ورحت ألوّح به أمام وجهي، وأدفع عنّي الرغبة بالبكاء.

المفاتيح السوداء

يصرخ فيّ المهرب بأن عليّ أن أسكت صغيرتي، وإلا فسيتوجّب عليّ أن أعود أدراجي. الأخلاق، بحسب ما يرى، تعني..

بشرى البشوات
القبطان الجيّد ليست لديه عائلة

أحاول أن أبحث عن بدائل للعائلة في بلد اللجوء. أُسقط الأسماء على الجيران. أحتال على عواطفي الشخصية. لكنّ..

بشرى البشوات

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة