هل يمكن إنهاء الحرب السوريّة على أنقاض عقدٍ اجتماعي متوّهم؟
ظلّ العقد الاجتماعي السوري مستقرّاً قرابة ثلاثين عاماً، قبل أن يدخل مع بدء الألفية الجديدة في سلسلة تحولات جوهرية لا تزال مستمرةً، ومفتوحة على المجهول.
ظلّ العقد الاجتماعي السوري مستقرّاً قرابة ثلاثين عاماً، قبل أن يدخل مع بدء الألفية الجديدة في سلسلة تحولات جوهرية لا تزال مستمرةً، ومفتوحة على المجهول.
Image Credit: Muhammed Said/Anadolu Agency via Getty Images
ظلّ العقد الاجتماعي السوري مستقرّاً قرابة ثلاثين عاماً، قبل أن يدخل مع بدء الألفية الجديدة في سلسلة تحولات جوهرية لا تزال مستمرةً، ومفتوحة على المجهول. للوهلة الأولى، ستبدو الخلخلة الهائلة التي لحقت بهذا "العقد" أمراً طبيعياً وسط تسارعٍ دراماتيكي للأحداث طبع المشهد السوري برمّته في عشريّة الحرب، على أن التحوّلات التي شهدتها عشرية ما قبل الحرب ربما كانت الأهم، والأشد تأثيراً، وصولاً إلى السنة المفصلية، 2011، التي بيّنت بوضوح وجوب إعادة التفكير وبشكلٍ عاجل وملحّ بكل تفاصيل العقد الاجتماعي (أمرٌ ينطبق على المنطقة العربيّة بأكملها).
إيجازٌ – غيرُ كافٍ – لما مضى
ثمّة رؤى متباينة حول أهم ما يجب أن تضطلع به سُلطة ما في إطار "العقد الاجتماعي"، لكن بشكل عام يمكن تبنيد ثلاثة التزامات أساسية: الحماية (أو فرض الأمن)، والخدمات، وضمان حدّ ما من المشاركة السياسية. (حتى عند توماس هوبز الذي رأى وجوب تنازل الشعب لصالح سلطة الحاكم المطلقة، فإن هذا التنازل في حد ذاته هو نوع من أنواع المشاركة السياسية، لأنه طوعي، في مقابل تجنب انجراف مجتمع ما إلى "الحالة الطبيعية" التي تعني "حرب الكل ضد الكل"). یقود الفشل في توفیر أي، أو بعض من تلك الالتزامات إلى الاستیاء المجتمعي، وعدم الاستقرار السیاسي، الأمر الذي یعرف بـ"هشاشة الدولة". من هذه الزاوية، يغدو مشروعاً التساؤل: هل كان تصاعد الاحتجاجات الشعبية في الشهور الأولى من العام 2011 باباً إلى تخلخل العقد الاجتماعي السوري؟ أم أنه كان تعبيراً عن تخلخل قائم بالفعل؟ أيّاً يكن، فالثابت أن الحدث السوري الذي انزلق سريعاً إلى دوامة العنف أحدث ثلماً شديد الوضوح في واحدة من أساسيات "منطق الدولة" وفقاً لرؤية ماكس فيبر، من حيث كونها "التجمع السياسي الوحيد الذي يحتكر امتلاك وسائل القوة، والحق في ممارسة العنف"، وبدأت تمظهرات انهيار العقد الاجتماعي تتجلى بوضوحٍ شديد على نحو متسارعٍ مع غياب الخدمات، وعجز الدولة عن توفيرها لا في المناطق التي خرجت عن سيطرتها فحسب، بل وفي سائر المناطق الأخرى. اللافت؛ أن الجهات التي سيطرت على المناطق الخارجة عن سلطة الدولة – بمختلف انتماءاتها – عدّت نفسها وريثة الدولة في "حق احتكار العنف" فحسب، ولم تعطِ بالاً إلى مسألة توفير الخدمات، أو محاولة ذلك على الأقل، حتى ليمكن القول إن معظم تلك المناطق مع خروجها عن سيطرة دمشق خرجت من عباءة عقد اجتماعي مليء بالعيوب والنواقص، إلى "المرحلة الطبيعية" التي حذّر منها هوبز. أما المفارقة الأقسى، فخلاصتها أنّ أشدّ الكيانات اهتماماً بمسألة "العقد الاجتماعي" في سوريا بين عامي 2011 و2015 كان تنظيم "داعش" المتطرف! ليست هذه مبالغة، ولا نكتة، بل هي خلاصة أمر واقع جدير بالدراسة طويلاً، فمن يعرف كيف بنى "داعش" سلطته (منذ ما قبل الانفصال الشهير بينه وبين جبهة النصرة) يدرك تماماً أن التنظيم استغلّ الخلل الهائل في العقد الاجتماعي، وسدّ الفراغ ببراعة، خاصة من حيث "توزيع الموارد"، و"ضبط الأمن"، ووضع حدّ لكثير من المظلوميات (التقليدية)، ففرض قبضته الحديدية أوّل الأمر على بقايا الجماعات التي انتزع منها السيطرة على مناطق انتشاره. (أبرز الأمثلة في هذا السياق إعدام التنظيم لزعيم "لواء أحفاد المرسلين" حسن جزرة، في الأتارب، ريف حلب الشمالي، أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2013)، وحصل ذلك بتزامنٍ مع الحرص على توفير الخدمات، ولا سيما الأساسيات (ظل الخبز شهوراً طويلة يوزع بانتظام وبوسائل شديدة الدقة في كثير من مناطق سيطرة التنظيم، حتى إنه كان يصل إلى بيوت الأرامل والعجائز). يمكن القول بثقة إن "داعش" لم يلعب في فضاءٍ يواليه أيديولوجياً بالمطلق، بل اكتسب "بيئة حاضنة" لأسلوب إدارته في بواكير السيطرة، قبل أن تتحول هذه الإدارة مع الوقت إلى "تغلّب" دموي الطابع، متطرف العقيدة، وحشي الأدوات. لن يتسع المجال هنا للتفصيل في هذا الإطار، لكن الخلاصة المؤكدة أنّ "داعش" لم يكن ليسيطر بسلاسة على كثير من المناطق التي "حكمها" لو لم يُجِد في بدايات سيطرته سدّ الثغرات العَقْدية بين المحكوم والحاكم.
يغدو البحث في أي أمر يتصل بالحريات، والمشاركة السياسية ضرباً من الترف الفكري في الحالة السورية
نظرة راهنة
ما هو حال العقد الاجتماعي السوري في المناطق الحكومية اليوم؟ قد يغدو البحث في أي أمر يتصل بالحريات، والمشاركة السياسية ضرباً من الترف الفكري في الحالة السورية، أو بالأحرى: الحالتين السوريتين، الراهنة، والتي سبقتها ومهدت لها. لكن، هل سيختلف الحال إذا تجاوزنا هذه المفصل – رغم أهميته القصوى – نحو المفصلين الآخرين (الحماية، وتقديم الخدمات)؟ لا يكاد يمر شهر من دون أن نسمع عن جريمة، أو حادثة، أو تهديد منبعه غياب مظلة "حماية الدولة" عن مختلف المحافظات، من دون أن يُحدث فارقاً كون بعضها لم يخرج أصلاً عن سيطرة الدولة السورية. قد يرى البعض في أنباء القبض على بعض (أو حتى كثير من) مرتكبي تلك الخروقات دليلاً على تنفيذ الدولة لما يُلزمها به العقد الاجتماعي من تقديم للحماية، غير أن هذه النتيجة مغلوطة في الواقع. فمفهوم "الحماية" لا يقتصر على القبض على مجرم هنا، وملاحقة عصابة هناك، هذه تُسمى "استجابات"، وهي – على أهميتها – لا تكفي للقول إن الحماية قائمة. سيحاجج البعض بأنّ هذه الاستجابات كفيلة بإعادة تفعيل مفهوم "الردع" الذي طبعت معادلته البلاد بطابعها لعقود، غير أن النقاش يجب أن يوَجّه بالضبط إلى هذه النقطة: من قال إن "الردع" يساوي الحماية؟ لفرض الحماية، أنت في حاجة إلى ما هو أكبر بكثير من مطاردة بعض المجرمين عقب اقتراف جرائمهم، أنت في حاجة أول الأمر إلى الحد من سلطة المافيات، والجماعات، والزعامات التي مُنحت سلطات غير محدودة لسنوات طويلة، من يعرف حلب مثلاً ويتابع ما يحصل فيها من تغوّل لهذه الأصناف يعلم تماماً أنّ مفهوم "الحماية" معطّل بشكل شبه كليّ. الأنكى، أن بعض المجتمعات المحلية طولبت بدفع غرامات لأن الدولة عجزت عن تقديم الحماية لها، ونأخذ حلب مثالاً مرة أخرى: معظم من عادوا من سكان الأحياء الشرقية إليها بعد عودتها إلى سيطرة الحكومة وجدوا عدادات المياه والكهرباء مسروقة من بيوتهم، ولاحقاً طولبوا بدفع غرامات عن العدادات المسروقة، وأثماناً لعدادات جديدة. (المثال هنا يقود إلى تساؤل بديهي: نحن طرفان في عقد اجتماعي تحميني الدولة بموجبه، وتفرض علي التزامات في المقابل، كيف أُطالب بدفع ثمن إخلال الطرف الآخر بهذا العقد)؟! أضف إلى ما تقدم أن إحساس الفرد / المجتمع بأنه محمي يختلف جذريّاً عن أمله في أن الشرطة قد تنجح في القبض على مجرمٍ ما بعد اقتراف جريمته. الإحساس بالحماية يتسع مثلاً ليشمل الحماية الاقتصادية، والإنسانية، وللمفارقة هذا النوع من الحماية تنتهكه طريقة تقديم الخدمات بشكل يومي تقريباً (حين يتم تقديمها). وهذا سيفضي بنا بطريقة أوتوماتيكية إلى الحديث عن البند الثالث من التزامات أي سلطة بموجب عقد اجتماعي ما: تقديم الخدمات. في الواقع كان مخططاً لهذا المقال أن يخوض في هذه الجزئية دون سواها، وأن يبحث عن جواب لسؤال محدد: كيف تُدار الأزمات في سوريا؟ ولأن الإجابة بدت مستعصية، فكرت في تضييق السؤال ليصبح: كيف تُدار الأزمات الخدمية؟ غير أن الأمر لم يفلح، وظلت الإجابة مستعصية! بدلاً من ذلك توالدت أسئلة أخرى: هل تُدار الأزمات بالفعل؟ كيف تُمكن إدارة أزمة لا يُعترف بوجودها أصلاً؟ وهل هناك من يعتقد أن التقنين مثلاً هو إدارة لأزمة نقص حوامل الطاقة، والسلع الاستراتيجية؟ (إجراء كهذا يحتاج أمناء مستودعات مثلاً، لا حكومات ووزارات بأكملها!) أو هل هناك من يظن أن التحول إلى علاقة جبائية بحتة مع الأفراد هو إدارة لأزمة نقص الموارد؟ طيّب، كيف يمكن في ظل كل هذه المعطيات أن يظل الطرف الأضعف مُطالباً بتنفيذ "أهمّ" التزاماته بموجب "العقد الاجتماعي" والمقصود هنا "التنازل لصالح السلطة، والتخلي عن وهم الحرية المطلقة، والقبول باحتكار الدولة للعنف – المقونن بطبيعة الحال – من دون مقابل أو شبه مُقابل؟ أيضاً يبدو أن هناك حاجة ماسة لإعادة التذكير ببديهيات: الخنوع مختلفٌ عن الخضوع، وكلاهما يختلف عن التزام القانون تنفيذاً لموجبات العقد الاجتماعي! طيّب، ماذا عمن هم حتى اليوم في مناطق خارجة عن سيطرة الدولة، فيما تعلن الدولة عن عزمها باستمرار على استعادة تلك المناطق؟ أو عمّن هم خارج البلاد، وتعلن السلطات دائماً حرصها على عودتهم؟ بأيّ عقدٍ اجتماعي هم موعودون بالضبط؟
ماذا عن الغد؟
قيل الكثير عن مسارات الحلول المحتملة في سوريا، ما بين الحل الأمني، فالعسكري، ثم الحل السياسي، والحل الاقتصادي، والحلول المركبة، ولم يلتفت أحد إلى البحث في فرص "حلّ اجتماعي". تقوم الفرضية هنا على إصلاح، أو بشكل أدق صوغ عقد اجتماعي يكون أساساً صالحاً لعبور البلاد من الحرب إلى السلم. ماذا لو لم يحصل ذلك؟ قد نجد جواباً شافياً عند الباحث الجزائري بلدي عثمان عبد المجيد، الذي يخلص استناداً إلى ماكس هوبز إلى أنه من الممكن "إيقاظُ حربٍ نائمة في أي وقت، يعود ذلك إلى عدم قدرة الحكّام على فرض سيطرتهم، الأمر الذي يؤدي إلى دفاع المحكومين عن آرائهم ولو باستخدام السلاح، ما يفضي إلى ديمومة الحرب حتى وان لم تكن معلنة"، لأن الاستقرار في مثل هذه الحالة "لا يقوم على أساس السلام، وإنما على أساس تعليق استخدام السلاح. فيصبح الجميع في حالة استعداد دائم للحرب".