"الفمّا حاجة" السوريّة

الجماهير السورية، بعد سنوات كثيرة من الخسائر، أصبحت مدمنة على الألم. لكن "فمّا حاجة" في هذا المنتخب تدفعني ــــ فيما أنتقد واقعه السيء ــــ إلى متابعة أخباره ومبارياته المُحبطة.

الدقيقة 120. المنتخب السوري خاسرٌ بهدفين مقابل هدف في إياب مباريات الملحق الآسيوي المؤهل لكأس العالم.

المباراة الأولى التي لعبها المنتخب السوري في ماليزيا ـــ الأرض البديلة للمنتخب المحروم من اللعب على أرضه ـــ انتهت بالتعادل بهدف لمثله أمام أستراليا.

الدقيقة 120. لاعبو المنتخب السوري المتأخر بهدف، الذي خسر جناحَه النشيط محمود المواس بعدما تعرّض للطرد، يقفون أمام مرمى المنتخب الأسترالي. عمر السومة يراقب الكرة الثابتة التي سيقوم بتسديدها. الجمهور الأسترالي كالصف المرصوص. يقف أفراده على أقدامهم في الملعب المكتظ. متابعو المنتخب السوري، في المقابل، يقفون في المقاهي والشوارع. يتقدم السومة ويسدد الكرة بقدمه اليمنى، فتتجاوز الحائط الدفاعي الأسترالي، وتصطدم بالقائم الأيسر للمرمى.

تخسر سوريا اللقاء، وتكمل أستراليا مشوارها لملاقاة الهندوراس، قبل أن تصل إلى مونديال روسيا 2018.

ما سبق، هو أعظم إنجاز للمنتخب السوري في مشوار التصفيات المؤهلة لكأس العالم. نعم، أفضل ما حققه المنتخب هو عارضة السومة. العارضة التي ستتحول في ما بعد إلى لحظة انتصار في ذاكرة الجماهير السورية التي بحثت، وما زالت، عن تشكيلة سورية ما تدفعها إلى التخلي عن تشجيع منتخب آخر في المونديال. تشكيلة تزيل أعلام البرازيل والأرجنتين وإسبانيا وألمانيا وإيطاليا (إذا ما وصلت إلى المونديال) وتضع مكانها العلم السوري.

منذ مباراة أستراليا وعارضة السومة حتى الآن، أقال القائمون على المنتخب السوري عددًا يصعُب تذكره من المدربين المحليين والأجانب. أقاموا عشراتِ المعسكرات للمنتخبات السورية بفئاتها العمريّة المختلفة. ونجحت تشكيلات المنتخب كافة في تكريس الألم ذاته، في ما يُشبه "لعبة طرابيش" التي اعتدنا عليها؛ ينتقل الفشل من مكان إلى آخر، ويُكرّم.

ما الذي يدفعنا ـــ نحن الجماهير السوريّة ـــ إلى الدوران في الحلقة المفرغة ذاتها؟

في بطولة "كأس العرب" المحبّبة للسوريين، والتي حلّ فيها المنتخب السوري وصيفًا في ثلاث نسخ، خاض الأخير مغامرة أخرى. فاستهل مشواره في البطولة التي استضافتها قطر العام 2021 بالخسارة أمام الإمارات، قبل أن يفجر مفاجأة بالفوز على المنتخب التونسي القوي بهدفين مقابل لا شيء. وهو فوز أحيا آمال السوريين بـ "فما حاجة"، قبل أن يتذوّق المنتخب جرعة الألم المعتادة بخسارته أمام موريتانيا في المباراة الثالثة، ويودّع البطولة.

والـ "فمّا حاجة" هي "ترند" انتشر بعد انتصار ريال مدريد على مانشستر سيتي في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا، العام الماضي (2022)، بعدما قلب تأخّره بهدف إلى انتصار مثير في الدقائق الأخيرة. كان التونسي عصام الشوالي يعلّق على المباراة على قناة BeIN Sports، وكان أداء الفريق الإنكليزي أفضل من أداء منافسه بكثير. لكنّ الشوالي، برغم ذلك، أصرّ بلهجته التونسية المحبّبة على القول "فمّا حاجة منعرفش"، أي أن أمرًا مجهولًا ما قد يحدث، وهو ما حصل فعلًا. حتى اشتهرت هذه العبارة وأصبحت لفرط استخدامها تعبيرًا يمكن إسقاطه على أشياء كثيرة، من بينها مثلًا حال المشجع السوري المصرّ على التعلّق بمنتخبه، لسبب ما لا يمكن تحديده.

يدور المنتخب في دائرة مغلقة من الفشل. وخلفه تدور الجماهير التي تحمل الطبول في كل مرة، وتستعد للغناء "دقّوا ع الخشب يا حبايب دقوا ع الخشب.. فاز المنتخب يا حبايب فاز المنتخب". لكن لا الجماهير دقت على الخشب، ولا المنتخب الذي يبدو تكثيفًا لواقع سوري كالح، فاز.

الجماهير في سوريا، لمن لا يعرف، محرومة من متابعة منتخبها على أرضها، ومحرومة من مشاهدته على التلفزيون. إذ تُنقل معظم المباريات عبر قنوات غير سوريّة يحتاج من يرغب بمتابعها أن يدير "الستلايت" بحثًا عن قمر اصطناعي ما، تبثّ عبره قناة ما، يُحتمل أن تنقل مباراة للمنتخب، أو أن يتنقل بين روابط ومواقع عدة ويجول في "عوالم القرصنة" أملًا بلحظة سعادة، قبل أن يخسر المنتخب المباراة ــــ كعادته ــــ وتستحيل اللحظة المنشودة انكسارًا جديدًا.

الجماهير السورية، بعد سنوات كثيرة من الخسائر، أصبحت مدمنة على الألم. تشبه مازوشيًا يلهث وراء سادي سايكوباتي، ويرجوه أن يجلده. وإلا فما الذي يدفعنا ـــ نحن الجماهير السوريّة ـــ إلى الدوران في الحلقة المفرغة ذاتها.

لكن "فمّا حاجة" في هذا المنتخب تدفعني ــــ فيما أنتقد واقعه السيئ ــــ إلى متابعة أخباره ومبارياته المُحبطة، وآخرها الخسارة أمام فيتنام، والأداء المأساوي في دورة الألعاب الأولمبية العربية في الجزائر.

نحن، جمهور المنتخب السوري، لسنا مازوشيين. نحن جماعة تعيش ما يشبه الحياة، ونبحث وسط الظلام عن شبه ضوء، وكثيرًا ما نتمسك بالسراب، برغم يقيننا أنه كذلك.

"الفما حاجة"، بالنسبة لنا، هي استمرار التمسك بالأمل، حدّ استمتاعنا بالألم المرافق له. ولعلّها أكثر حقيقة من "ريمونتادا" ريال مدريد العظيمة، ومن تتويج الأرجنتين بكأس العالم بعد مباراتها الماراثونية مع فرنسا. بل لعلّها أكثر حقيقة من "يد الله" يا مارادونا!

نحن من مُتنا واقفين يا باجيو. لا أنت!