تفجير التليل - عكّار في ذكراه الثانية: جرحٌ لم يلتئم

في 14 آب 2021، صادر الجيش اللبناني آلاف اللترات من البنزين المعدّ للتهريب في عزّ الأزمة الاقتصادية اللبنانية وندرة الوقود. بعد يوم دوّى انفجار رهيب أوقع عشرات الضحايا. قصّة تفجير التليل تكاد تكون منسيّة اليوم، تمامًا كمنطقة عكّار التي تقع فيها.

"الاهتمام بالمنطقة صفر، في شهداء تركوا وراهن ولاد، ومصابين عندن إعاقات مدى الحياة، ومجموعة مهرّبين عملوا ملايين الدولارات وطلَّعوهن من القصّة".

قد تكون هذه الجملة على لسان أحد الجرحى ملخّص "القصّة" في ذكراها الثانية (15/8/2023). والقصّة هي تفجير خزّان البنزين في بلدة التليل في منطقة عكّار (شمال لبنان) الذي قَتل 36 شخصًا وأصاب عشرات ما زال عدد منهم يعاني حتّى اليوم.

عكّار الأفقر قبل الانفجار وبعده

لم تكن حادثة الانفجار ونتائجه بعيدة عن الوضع الاجتماعيّ لمنطقة عكّار منذ ما قبل الأزمة الاقتصاديّة الماليّة التي يشهدها لبنان.

قبل الأزمة، كانت محافظة عكّار تُعتبر (إلى جانب البقاع) الأكثر فقرًا بحسب دراسة لـ"إدارة الإحصاء المركزي" صدرت عام 2019. في ذاك العام، كانت %58.3 من الأسر في المحافظة تعتبر نفسها "متوسّطة الدخل أو متوسّطة إلى فقيرة"، فيما %38.4 منها تصنّف نفسها "فقيرة أو معدومة".

ويذكر مسح "القوى العاملة والأحوال المعيشيّة للأسر في عكّار 2018 ــــ 2019"، الصادر عن المصدر نفسه، أنّ %20.4 من الشباب كانوا عاطلين عن العمل، وأنّ %41.8 من العاملين في المنطقة منخرطون في العمل غير المنظّم الذي لا يوفّر لهم الحماية القانونيّة والاجتماعيّة.

الأكيد أنّ الأزمة الاقتصاديّة وما نتج منها زادت من هذه النسب.

التليل

أمّا منطقة الانفجار، التليل، فتقع على بعد كيلومترات قليلة من الحدود السوريّة الشماليّة، حيث تنشط عمليّات التهريب من لبنان إلى سوريا أو العكس، خصوصًا تهريب مادّتي البنزين والمازوت. وقد ازداد التهريب خلال أزمة الوقود التي عانى منها اللبنانيون في العام 2021 بسبب الاحتكارات وعمليّات التهريب، تحديدًا في عكّار على اعتبارها منطقة حدوديّة. 

قام المدّعى عليه بإشعال ولّاعة  قرب البنزين السائل، فانفجر الخزان

يعتاش المواطنون في المنطقة من الزراعة أو التجارات الصغيرة، أو العمل في الصناعات والحرف البسيطة. وتنخرط نسبة كبيرة من شباب المنطقة في المؤسّسة العسكريّة، ولعلّ هذا ما يفسّر سقوط 12 عسكريّا في الانفجار، عدا عن 20 مصابًا آخرين كانوا من بين الأهالي الذين سارعوا إلى تأمين غالون واحد من البنزين. وهو يفسّر أيضًا ما تذكره الدراسة المذكورة آنفًا حول اعتبار الجيش اللبنانيّ وقوى الأمن الداخليّ المصدر الرئيسيّ للتأمين الصحّيّ في عكّار.

قصّة التفجير: من الاحتكار إلى القتل

في 14 آب/أغسطس 2021، صادر الجيش اللبنانيّ ومخابرات الجيش آلاف اللترات من مادّة البنزين المعدّة للتهريب، في أرض تابعة لأحد المهرّبين في عكّار، حيث وقع الانفجار. اتُخذ قرار بتوزيع جزء من الكميّة المصادرة على الأهالي، فانتشر الخبر بين السكان وهرع عدد كبير منهم في التليل والقرى المجاورة إلى المكان بغية الحصول على "غالون" من البنزين المقطوع من السوق، والذي يباع في السوق السوداء بأضعاف السعر الرسميّ.

كان التعويض الوحيد، ولمرّة واحدة، عبارة عن 30 مليون ليرة لبنانيّة لكلّ عائلة

شمل القرار الاتّهامي الصادر في 25 تمّوز/يونيو 2022 عن القاضي العدليّ 8 أشخاص (بعضهم ما زال غير موقوف) و4 أظنّاء، تنوّعت تهمهم بين الأعمال الإرهابيّة والقتل المتعمّد وغير المتعمّد والاحتكار والتهريب وغيرها.

ويذكر القرار أنّ عدد المتظاهرين حول خزّان/كميون البنزين بلغ نحو ألف بحسب الشهود، ولم يكن الجيش قادرًا على ضبط الوضع. فقام المدّعى عليه جرجي ابراهيم بإشعال ولّاعة  قرب البنزين السائل على الطريق من الخزّان (وبأمر من ريتشارد ابراهيم الذي كان يهدّد بإشعال الخزّان بهدف إبعاد الناس الذين يأخذون البنزين مجانّا). وقد أدّى الاشتعال إلى انفجار الخزّان، فقذفت قوّته العشرات، قُتل منهم 36، وحُرق وشوّه آخرون.

غياب الدولة... كأنّ تفجيرًا لم يحصل

فقدت عشرات العائلات المعيل والأب والزوج والأخ، وكان التعويض الوحيد، ولمرّة واحدة، عبارة عن 30 مليون ليرة لبنانيّة لكلّ عائلة من قبل "الهيئة العليا للإغاثة". ولم يتلقّ أحد أيّ مساعدات رسميّة أخرى. وفي الأشهر القليلة اللاحقة للانفجار، قدّمت بعض الدول مساعدات للجرحى، فنُقل بعضهم إلى الكويت والإمارات وتركيا.

مورست ضغوط على عائلات الضحايا تمثّلت بعرض مبالغ ماليّة حتّى تسقط دعواها الشخصيّة

اختفت وزارة الصحّة اللبنانيّة واقتصر حضورها على إجراء بعض العمليّات لعدد من المصابين. وسرعان ما توقّف دعمها بعد أشهر قليلة، في حين ما زال حتّى اليوم ـــ بعد سنتين ـــ يعاني أكثر من 20 مصابًا من حروق عميقة وأوجاع وإصابات في الأطراف، ويحاولون الحصول على علاج على نفقتهم الخاصّة برغم الوضع الماديّ السيّئ.

وثمة بينهم من لا يزال يبحث عن مصادر لتمويل جزء من رحلة علاجه التي تبدو طويلة، فيحاول الاتّصال ببعض جمعيّات غير الحكوميّة للحصول على أيّ نوع من المساعدات، وغالبًا ما يفشل. وهناك من يحاول تأمين أدوية من سوريا أو تركيا على اعتبار أنها غير متوفّرة في لبنان، أو متوفّرة بأسعار مرتفعة. غير أن بعض هذه الأدوية ليست سوى بديل عن الدواء المطلوب، ما يعني تأخّرًا في الامتثال للشفاء. 

لا تراجع عن طلب العدالة

يطالب الأهالي اليوم (ومنذ اليوم الأوّل) بالعدالة التي تشمل محاسبة المجرمين وتغريمهم والتعويض للمصابين وعائلات الضحايا. وما زال هؤلاء يتابعون جلسات التحقيق في المجلس العدليّ، وهم بانتظار الجلسة الرابعة في 29 أيلول/سبتمبر القادم. وثمة بينهم من يستنكر نفي القضاء أيّ مسؤوليّة عن دوريّة الجيش اللبنانيّ التي كانت تستلم مهمّة نقل البنزين ومن ثم تنفيذ قرار التوزيع من دون إجراءات حماية أو أمنيّة جيّدة.

"ردّولي جسمي وحياتي"، كان جوابه للمتهمّين حين عرضوا عليه المال

مورست ضغوط كبيرة على عائلات الضحايا والجرحى، قبل 7 أشهر تقريبًا، تمثّلت بعرض مبالغ ماليّة حتّى تسقط دعواها الشخصيّة بحقّ المدّعى عليهم: صاحب الأرض حيث حصل التفجير وخُزّن الوقود، والمحرّض على إشعال البنزين ومنفّذه. رفض معظم الأهالي عروض المدّعى عليهم، أمّا العدد القليل الذي أسقط حقّه (وهم 20 مدعيًّا تقريبًا من أصل 69)، ففعل ذلك تحت الضغط، في ظلّ المعطيات الصحّيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة المذكورة.   

قصّة الجرح غير الملتئم

جرحُ نضال سعود، 21 عامًا، لم يلتئم "ورح يضلّ العمر كلّه". يريد نضال من تصريحه لـ"أوان" أن يعرف الناس أنّ في عكار "جرحى موجوعين ومش مبسوطين بحياتن".

 بعد سنتين من العلاج، لم تختف الحروق من قدميْ نضال وظهره ويديْه اللتين لا يستطيع تحريكهما بشكل كامل. أمّا كتفه الذي خُلع بسبب ضغط الانفجار الذي قذفه بعيدًا، فلمّا يعد إلى مكانه الطبيعيّ. ولا تمرّ فترات الحرّ الصيفيّة مرور الكرام عند نضال، إذ يشعر بها في جلده وجسده المحروق. يدفعه وجعه الجسديّ والنفسيّ للقول: "مالي نفس أوقف قدّام المراية اطّلع على إيديّي. إذا بدّي إتحمّم وشفت الحروق على جسمي، بيرجع بينفتح الجرح". 

أجرى نضال عمليّته الأولى بعد الانفجار في بيروت على نفقة وزارة الصحّة التي توقّفت عن دفع نفقات العلاج بعد ثلاثة أشهر، لينتقل إلى مستشفى السلام في طرابلس العام الماضي على نفقته الخاصّة وبمساعدة من إحدى الجمعيّات. لم تنجح محاولاته في تلقّي أيّ مساعدة رسميّة من الدولة لمتابعة العلاج، ولم يشتر "المراهم" اللازمة للحروق بعد عمليّة زرع الجلد بسبب أسعارها العالية، ممّا سيطيل أمد العلاج.

ذهب نضال في ذلك اليوم ليأتي بالقليل من البنزين لعائلته التي يعيلها، فخسر عمله في "الألمينيوم" والزراعة وقيادة الـ"بيك أب" وتخصّصه في "الكهرباء" في معهد تقنيّ. "ردّولي جسمي وحياتي"، كان جوابه للمتهمّين في التفجير حين عرضوا عليه المال لإسقاط الدعوى الشخصيّة ضدّهم. 

قصّة نضال وجرحه جزءٌ من معاناة العشرات في المناطق الأكثر فقرًا وملخّصٌ عنها، ريثما تعود حياتهم وأجسادهم، ويُحاسب المسؤولون.

لبنان: عينُ الرقابة على المحامين

أصبح قرار منع المحامين من الظهور إعلاميًّا دون أخذ إذن النقيب موضوعَ رأي عام عن قمع الحرّيّات في لبنان،..

ماهر الخشن
إعادة توطين السوريّين في ألمانيا: رحلة لجوء و"اندماج" عابرة للدول

"بس تطلع بالطيّارة، ما عاد حدا بيعرف عنّك شي"؛ هذا تعبير غازي عن بداية رحلة لجوئه وحيدًا من لبنان إلى..

ماهر الخشن
الرعاية الصحيّة لكبار السنّ في لبنان: العجز في النظام لا في العمر

همّ التأمين الصحّيّ يكون مضاعفًا لدى فئة كبار السّنّ، ليس فقط لحرج أوضاعهم الصحيّة، إنّما لأنّ الجزء..

ماهر الخشن

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة