الرعاية الصحيّة لكبار السنّ في لبنان: العجز في النظام لا في العمر

همّ التأمين الصحّيّ يكون مضاعفًا لدى فئة كبار السّنّ، ليس فقط لحرج أوضاعهم الصحيّة، إنّما لأنّ الجزء الأكبر منهم لا يتقاضى أيّ راتب باعتباره خارج القوى العاملة في المجتمع. ما هو حال هذه الفئة بعد أكثر من ثلاثة أعوام على الانهيار الاقتصادي في لبنان؟

أكثر من خمسين سنة متواصلة من العمل لم تكن كافية لتمنع موت مصطفى في ظروف صحّيّة ومعيشيّة مأساويّة دامت لسنوات. قد تواجه ذلك، للأسف، نسبة مرتفعة من كبار السنّ المقيمين في لبنان اليوم إذا ما أصابهم أيّ عارضٍ صحّيّ. توفيّ مصطفى في حين كان أفراد أسرته يتوسّلون أحد المصارف اللبنانيّة ليحصّلوا بعضًا من أموال يشاهدون انهيار قيمتها يوميًّا.

46.7% من كبار السنّ في لبنان محرومون من أيّ نوع من أنواع الضمان الصحّيّ أو الحماية الاجتماعيّة بحسب مسح القوى العاملة في لبنان لعام 2022 الذي أجرته إدارة "الإحصاء المركزي" و"منظمة العمل الدوليّة". في الوقت نفسه، لا يستطيع معظم المستفيدين منهم الوصول إلى الرعاية المناسبة والضروريّة، في ظل واقعٍ كارثيّ يسيطر على مؤسّسات الضمان والرعاية ما زال يتعاظم مع تفاقم الأزمة الاقتصاديّة التي يعيشها لبنان. 

يتحدّث جلال بحسرة عن أيّام والده الأخيرة، فيقول إنّ "تقاطع الظروف السيّئة شاء أن يُصاب والدي بجلطة دماغيّة أفقدته الحركة ونسبة كبيرة من وعيه قبل أشهرٍ من اشتداد الأزمة الاقتصاديّة ووضع المصارف قيودًا تعسّفيّة على الودائع في أواخر العام 2019". تسبّب مرضه بصرفه من وظيفته في المدرسة التي كان مستمرًّا في العمل فيها برغم بلوغه السنّ القانونيّة للتقاعد، فخسر بذلك انتسابه إلى فرع ضمان المرض والأمومة في الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ.

سمحت محكمة الأحوال الشخصيّة الشرعيّة لعائلة مصطفى، المحجورعليه لفقدانه الإدراك، بسحب مبلغ مليون ومئتي ليرة لبنانيّة فقط شهريًا من حسابه المصرفيّ البالغة قيمته الإجماليّة آنذاك 80 مليون ليرة لبنانيّة. كان هذا المبلغ مناسبًا لتغطية نفقات علاجه قبل انهيار قيمة العملة، إلّا أنّ قيمة الأموال باتت تتآكل شيئًا فشيئًا حتى بات المبلغ المرصود لا يكفي لشراء "حفاضات" تكفي شهرًا واحدًا فقط.

لا شكّ أن حالة مصطفى وأسرته ليست فريدة من نوعها، بل من المرجّح أن تكون الأسرة قد صادفت على باب المستشفى أو المصرف الكثير من الحالات المشابهة المتعلّقة بفئة كبار السنّ الذين تجاوزوا الستّين من العمر، والذين يشكّلون 15% من إجماليّ عدد السكان في لبنان، وقد ازدادت نسبتهم بعد اشتداد الأزمة الاقتصاديّة، بعد أن كانت تبلغ 12% تقريبًا في العام 2017 وفقًا لتقرير التوقعات السكّانيّة في العالم لعام 2022، الصادر عن إدارة الشؤون الاقتصاديّة والاجتماعيّة للأمم المتحدة.

تعود هذه الزيادة، التي جعلت من رأس الهرم السّكانيّ اللبنانيّ أكثر اتّساعًا، إلى عوامل عديدة، بعضها تسبّبت بها الأزمة بشكل مباشر، مثل انخفاض عدد الولادات الناتج من ارتفاع تكاليف المعيشة وانخفاض نسب الزواج بالإضافة إلى الهجرة المتزايدة لفئة الشباب، كحال جلال الذي اضطرّ للهجرة والعمل خارج لبنان للمساهمة في إعالة العائلة. يقول جلال: "اضطررت إلى العمل خارج لبنان في ظروف صعبة من أجل تأمين نفقات عائلتي بعد عجز والدي، وبعد أن أرهقتنا تكاليف علاجه، خصوصًا بعد أن انعكست الآية في الضمان الاجتماعيّ، حيث سجّلنا والدي في الفرع الاختياريّ منه بعد صرفه من العمل. فبعد أن كان يغطّي 90% من قيمة فاتورة الاستشفاء والأدوية، أصبح يغطّي أقلّ من 10%". ويضيف أنّ هذه المبالغ لا تستحقّ ما تعانيه والدته من مشقّة وما تتعرّض إليه من إذلال في المصرف وفي مكاتب الضمان لتحصيل ما باتت قيمته تساوي عشرة دولارات تقريبًا.

وفي وقتٍ أصبح فيه الحق في الضمان الصحّيّ، حلمًا يراود المقيمين في لبنان، وهمًّا شاغلًا يؤرقهم، يفتقر أكثر من نصفهم (51%) إلى أيّ نوعٍ من الضمان الاجتماعيّ أو التأمين الصّحيّ بحسب مسح القوى العاملة في لبنان لعام 2022 الذي أجرته "إدارة الإحصاء المركزي" و"منظمة العمل الدّوليّة".

أمّا المستفيدون ممّن يتجاوز عمرهم الـ60 عامًا، فإنّ الغالبية العظمى منهم مسجّلون في الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ (45.9%) الذي لم يعد يُغطّي إلا نسبة لا تتجاوز الـ10% من قيمة الفاتورة الصّحيّة للمضمونين، في الوقت الذي انهارت فيه قيمة التعويضات التي يصرفها، الأمر الذي يخبرنا به جلال الذي يشير إلى عدم كفاية كامل المبلغ الذي قبضه والده من تعويض نهاية الخدمة من الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ في العام 2016 ثم أودعه في أحد المصارف، لتغطية نفقات شهرٍ واحد من علاجه في أيامه الأخيرة.

وبطبيعة الحال، فإنّ همّ التأمين الصحّيّ يكون مضاعفًا لدى فئة كبار السّنّ، ليس فقط لحرج أوضاعهم الصحيّة وحالتهم البدنيّة والنفسيّة، إنّما لأنّ الجزء الأكبر منهم لا يتقاضى أيّ راتب أو أجر باعتباره خارج القوى العاملة في المجتمع. فبحسب أرقام المسح المذكور آنفًا، إنّ 94.9% من سكّان لبنان الذين تجاوز عمرهم السبعين هم خارج القوى العاملة، ممّا يجعلهم أكثر عرضةً للخطر وفي حالة اعتمادٍ مطلق على أفراد عائلتهم في ظلّ انهيار قيمة معاشاتهم أو تعويضاتهم التقاعديّة إن وُجدت، سواءً كانوا موظّفين أم أصحاب مهن حرّة. 

انطلاقًا من هذا الواقع المأزوم، لجأ بعض كبار السّنّ إلى مراكز الرعاية الصّحيّة ودور العجزة. برغم سواد ثقافةٍ تصِم العائلة التي تأوي أحد أفرادها من كبار السّن في هذه المراكز بالعار، إلا أنّ وطأة الأزمة الاقتصاديّة وتداعياتها كانت أكبر على العائلات من هذه المحرّمات الاجتماعيّة، حتى بات الدخول إلى أحد هذه المراكز حلمًا بالنسبة إلى بعض الأشخاص، نظرًا لحجم الإقبال الكثيف عليها، مقابل النقص الكبير في مواردها. 

تلفت عبير قبرصلي، مديرة مستشفى "دار السلام للرعاية الاجتماعيّة" التابعة لجمعيّة جامع البحر الخيريّة في صيدا، لـ"أوان" إلى أنّ عدد الرّاغبين بالانضمام إلى المستشفى المتخصّص برعاية كبار السّنّ ازداد بشكلٍ كبيرٍ بعد الأزمة الاقتصاديّة. تعزو تعاظم الإقبال هذا إلى أسباب عدّة فصّلتها على الشكل التالي: "تُفضّل بعض العائلات أن تأوي كبار السّنّ من أفرادها في المركز نظرًا لارتفاع كلفة العناية بكبير السّنّ في المنزل، حيث تتكبّد العائلة مصاريف الطبابة والدّواء والاستشفاء والكهرباء والمساعد/ة المنزليّة أو الممرض/ة الخاصّ، بالإضافة إلى هجرة الكثير من الأبناء الذين يضطرّون لإيواء ذويهم في المركز لغياب من يرعاهم في لبنان".

يُعاني المركز الذي وصل إلى طاقته الاستيعابيّة القصوى التي تبلغ بين 75 و80 نزيلًا مقيمًا من أزمة حقيقيّةٍ، خصوصًا مع اعتماد ميزانيّته بشكل أساسيّ على بعض المساعدات غير المنتظمة التي أدّت إلى انخفاض هذه الميزانيّة بشكلٍ ملحوظ في السنوات الأخيرة. بالإضافة إلى ذلك، أدّى هذا الواقع إلى نقصٍ في الكادر البشريّ، وبشكلٍ خاصّ في فئة الممرّضين/ات الذي بات معظمهم يسعى إلى الهجرة نظرًا بحثًا عن فرص عمل أفضل ورواتب أعلى في الخارج. وتُردف قبرصلي إلى أنّ معدّل تكلفة العناية بالشخص الواحد من كبار السنّ تبلغ حوالي خمسمئة دولار أميركيّ شهريًّا، وتضيف: "تدفع وزارة الصّحّة عن اليوم الواحد 52,700 ليرة لبنانية للنزيل الواحد، في حين تدفع وزارة الشؤون الاجتماعية 34,000 ليرة لبنانية فقط، مع العلم أنّ الدّفع قد يتأخر في بعض الأحيان إلى سنتين أو أكثر، في حين تتآكل قيمة الليرة اللبنانية يومًا بعد يوم".

هذا الواقع يؤكّده علي طه، مدير مركز دار الكرامة في منطقة البقاع، فيقول لـ"أوان" إنّ المركز يعاني بشكلٍ كبير من أجل تأمين الموارد اللازمة لرعاية المسنّين الثلاثين الذين يأويهم، ويُشير إلى أنّ "وزارة الصحّة كانت تساهم في تغطية 75% من مصاريف الرعاية، لكنها اليوم تساهم بنسبة 10% تقريبًا فقط، حتّى أنّنا قمنا بمبادرات ذاتيّة في المركز لتأمين بعض الموارد مثل مشروع المزرعة، حيث قمنا بزراعة بعض الأنواع من الخضروات وتربية الماشية من أجل تأمين جزء من حاجات المسنّين الغذائيّة".

وعن الجانب النفسيّ من صحّتهم، تتحدّث إحدى العاملات في أحد المراكز الصحية التي تقدم الرعاية لكبار السنّ، فتلفت إلى حاجتهم لمعاملة خاصّة ومراعاة لواقعهم النّفسيّ، إذ يلازم الكثير منهم الشعور بالوحدة والانعزال والإكتئاب الناتج عن الشّعور بالثّقل تجاه الآخرين وتغيّر نمط الحياة وفقدان الأصدقاء والأقارب، بالإضافة إلى حرمانهم من القدرة على ممارسة الهوايات البسيطة، أو قضاء فترة التقاعد بهدوءٍ دون الالتفات إلى الهمّ الماديّ المعيشيّ والعلاجيّ.

"أشعر أنّني أعيش في سجنٍ حقيقيًّ"، هذا ما يقوله جميل، الرجل الثمانينيّ الذي كان يقضي فترة تقاعده بهدوءٍ في قريته حيث يُمارس الزراعة كهواية، إلى أن أجبرته الظروف الصّعبة المتمثّلة بعجزه عن تأمين مصاريف الكهرباء والغذاء والتدفئة في الشتاء، على ترك بيته القرويّ للسكن مع ابنه في منزله في بيروت. ويروي جميل عن معاناته النفسيّة قائلًا: "ْكنت معتادًا على الحركة وكنت أقضي معظم النهار خارج البيت، في حقلي الصغير. ولكن مع انتقالي إلى منزل ولدي الذي يسكن في الطابق الثامن، ومع دوام انقطاع التيار الكهربائيّ وعدم قدرتي على صعود الدرج لمعاناتي من أمراضٍ في القلب، أبقى في بعض الأحيان أسابيع طويلة دون الخروج من البيت. مثلًا، كانت المرّة الأخيرة التي خرجت فيها منذ ثلاثة أشهر، وكانت لإجراء بعض الفحوصات الطبيّة في المستشفى، وقد بلغت قيمة هذه الفحوصات والصّور ستين مليون ليرة لبنانية، برغم أنّني مضمونٌ على اسم ولدي، لكن الضمان لم يعد يُغطّي شيئًا في هذه الأيّام". سبّب هذا الواقع ضررًا نفسيًّا كبيرًا لجميل، حتى وصل به الأمر إلى البقاء حبيس سريره وغرفته لأيامٍ طويلة دون حديث مع أحد.

يعدّ لبنان من بين الدول القليلة في العالم التي لم تضع نظامًا للتقاعد، وهذا يشكّل تهديدًا حقيقيًّا على حياة النسبة الأكبر من فئة كبار السنّ. فبالنظر إلى عدد الوفيات في لبنان السنوات السابقة للأزمة ومقارنتها مع السنوات التي تلتها، يلاحظ الارتفاع في هذا العدد، الذي بلغ 25,300 حالة في العام 2017 ليصل في العام 2022 إلى 29,455، بحسب إحصاءات المديريّة العامة للأحوال الشخصيّة في لبنان.

يُشكّل كبار السن بطبيعة الحال الحصّة الأوفر من الوفيّات وفقا لتقرير التوقعات السكانيّة في العالم لعام 2022 الصادر عن إدارة الشؤون الاقتصاديّة والاجتماعيّة للأمم المتحدة، وسيبقى هؤلاء متروكين لمواجهة صعوبات الحياة بدون موارد، إذا لم تُطبّق حلول فعالة في مجال الحماية الاجتماعيّة والرعاية الصحيّة في لبنان، وقد يكون مصير الواحد منهم، كمصير الكثيرين ممّن لم يتمكّنوا من الوصول إلى الرعاية الصحّيّة المناسبة لهم، فلم تصمد أجسادهم أمام مضاعفات المرض.

 

* أُنجز هذا التقرير بدعم من "صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية” UNDEF ومنظمة “صحافيون من أجل حقوق الإنسان" Journalists for Human Rights.

الهجرة من لبنان: هروب من مجهول إلى آخر؟

يخرج معظم المقيمين في لبنان منه قسرًا وهربًا من واقعه الاقتصاديّ الكارثيّ، وإن كانت نسبة منهم تسافر..

ماهر الخشن
إعادة توطين السوريّين في ألمانيا: رحلة لجوء و"اندماج" عابرة للدول

"بس تطلع بالطيّارة، ما عاد حدا بيعرف عنّك شي"؛ هذا تعبير غازي عن بداية رحلة لجوئه وحيدًا من لبنان إلى..

ماهر الخشن
لبنان: عينُ الرقابة على المحامين

أصبح قرار منع المحامين من الظهور إعلاميًّا دون أخذ إذن النقيب موضوعَ رأي عام عن قمع الحرّيّات في لبنان،..

ماهر الخشن

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة