كافكا، تشيخوف، هايدغر، يتسللون إلى عناوين الروايات العربية!

ليست غاية المقالة الاحتجاج على خيارات الأدباء في دَمغ عنوان كتاب أدبي باسم أعجمي، لكنها تزعم أنّ الأمر في العمق ينطوي على استلاب من نوع ما، وانسحاب علني من موروث ثقافي ثري لمصلحة ثقافة أخرى.

هل دَمغُ عنوان كتاب أدبي باسم أعجمي يمنح الكتاب علامة إضافية في التلقي؟ ثم كيف انتهى المطاف بروائي أو قصّاص أو شاعر إلى اختيار هذا الاسم دون سواه، كي يكون عنوانًا لكتابه؟

هناك ما يشبه الظاهرة العربية في توطين عناوين من هذا الطراز. ففي إحصائية عشوائية، وقعتُ على نحو 50 عنوانًا تحمل أسماء مثل كافكا و فرويد وتشيخوف وحتى هايدغر، لأكتشف لاحقًا أن لدى الروائي إسلام أبو شكير قائمة بعناوين أخرى من الصنف ذاته، تتقاطع هنا وهناك، مع ما وجدته في قيد النفوس الأدبي. وللأسف، لم أصدف في الطريق من يُلقي تحية عابرة للمعرّي أو الجاحظ أو التوحيدي أو نجيب محفوظ!

لسنا هنا بصدد محاكمة هؤلاء الأدباء أو الاحتجاج على خياراتهم في العَنونة، لكن الأمر في العمق ينطوي على استلاب من نوع ما، وانسحاب علني من موروث ثقافي ثري لمصلحة ثقافة أخرى، مركزية، أزاحت الأصل نحو الهامش بجرعات زائدة.

بالطبع، لم أقرأ محتويات هذه العناوين كلها ولا فككت محتواها، لكنها مثيرة للانتباه حقًا لجهة النزوح إلى ثقافة الآخر والاشتباك معها تخييليًا على حساب المتون الأصلية. إذ يصعب أن نقع على رواية أجنبية تستنجد بعناوين الآخر، إلا كنوع من التناص مع متون أخرى، والتفاعل معها كضرورة تخييلية، كما فعل الأفغاني عتيق رحيمي في "ملعون دستويفسكي" باقتراحه نسخة أفغانية من رواية "الجريمة والعقاب"، أو الإيرانية أذر نفيسي في "أن تقرأ لوليتا في طهران"، في إحالة إلى رواية فلاديمير نابوكوف "لوليتا" التي كانت ممنوعة في بلادها.

استعارت الرواية العربية صورة الديكتاتور من مخالب رواية أميركا اللاتينية، فيما كان الطغاة المحليون ينكشون أسنانهم بمذابح متنقّلة

والآن، في حال تأملنا بعض العناوين العربية، سنكتشف أن أصحابها عملوا بضراوة على إكساء الجسد المستعار بما يلزمه من مجازات: "كلب كافكا"، "أشباح هوميروس"، "فرقة بيرانديلو"، "شبح أنطون تشيخوف"، "عمتي وأنطون تشيخوف"، "على فراش فرويد"، "قبعة بيتهوفن"، "ماذا نفعل بدون كالفينو"، "لعنة ماركيز"، "النمر الذي يدعي أنه بورخيس"، "كافكا في طنجة"، "الحرب التي أحرقت تولستوي"، "ابتسامة بوذا"، "ثوب على ذوق بيكاسو"، "هايدغر في المشفى"...

ونظرًا لصعوبة الإلمام بهذه العناوين من الداخل، كنت أفكّر هل كان سرير فرويد مجاورًا لسرير هايدغر، في المستشفى نفسه، وهل كان كافكا وحيدًا في طنجة أم برفقة كلبه، ومن الذي ترجم أحاديث تشيخوف للعمّة؟

أسئلة أرقتني طوال أشهر، وأنا أخزّن هذه العناوين وسواها في ملفٍ خاص، كان ينمو كلما اصطدت عنوانًا إضافيًا يستنجد برنين اسم أحد مشاهير القارات الأخرى، عناوين أوقعتني في حيرة طويلة، محاذرًا في الوقت نفسه، السخرية من أصحابها واتهامهم بالتعالي المعرفي أو نبذ صنيعهم، خصوصًا أن بعضهم في قائمة أصدقائي، وهم معروفون في الساحة الإبداعية.

ثم سأبرر تكتيكيًا هذه الظاهرة إلى عولمة الأدب والجغرافيا السائلة التي أطاحت الحدود بين الثقافات. ألم تعصف موجة الواقعية السحرية قبلًا بالرواية العربية طوال عقدين كاملين؟ حتى أن بعض الروائيين انخرط بطعم ثمار الموز المقلية والجوّافة وروث الديكتاتوريات، كما لو أنه يعيش على ضفاف الكاريبي، وليس في قرية مهملة بالكاد توقد المخيلة بفكرة واحدة.

بلى، لقد استعارت الرواية العربية صورة الديكتاتور من مخالب رواية أميركا اللاتينية في وضح النهار، فيما كان الطغاة المحليون ينكشون أسنانهم بمذابح متنقّلة، من دون أن تلفت انتباهنا روائيًا بالشراسة ذاتها لولا أعمال استورياس وماركيز ويوسا وسواهم!

هل العنوان فخُّ لاصطياد القارئ الضال، أم أنه استراتيجية كبرى، بقصد العبور إلى الجوهر؟

ولكن، مهلًا، هناك من استدرك خطورة عناوين كهذه، ولجأ إلى بيئة عربية صرفة في توطين عناوينه، مثلما فعل عبد الفتاح كيليطو في "من شرفة ابن رشد"، وبن سالم حميش في "العلّامة" متتبعًا أثر ابن خلدون، كما سيعيد أمبرتو إيكو في "اسم الوردة" الاعتبار إلى إسهامات ابن رشد في الثقافة الأوربية، وكذلك فعل بورخيس في "البحث عن ابن رشد"، وسلمان رشدي في "سنتان وثمانية شهور وثمان وعشرون ليلة"، ودانتي في "الكوميديا الإلهية".

سنستثني رواية علي بدر "بابا سارتر" من هذه الموجة لانصرافها نحو مقاصد جمالية صريحة في إماطة اللثام عن أولئك الوجوديين المزيفين الذين انتشروا في ستينيات شوارع بغداد، كما لو أنهم ولدوا في باريس الحي اللاتيني، وليس في إحدى الحارات الشعبية. حتى أن بطل الرواية، عبدالرحمن، كان يحسد بائع الخضار لأنه أعور مثل سارتر، فيما لم يمنحه القدر عينًا زجاجية هو أحوج ما يكون إليها، وتاليًا لا يمكن أن نتخيّل مثل هذه الشخصية من دون مظلة سارتر، أو النظر إليها كاستعارة خارجية أو قشرًا للمحتوى. فههنا بيضة صلبة لا يمكن كسرها بمطرقة عنوان آخر.

سنتساءل، ونحن نقلّب هذه الكتب المتراكمة على الرفوف: هل العنوان فخُّ لاصطياد القارئ الضال، أم أنه استراتيجية كبرى، وهويّة أنطولوجية للنصّ، بقصد العبور إلى الجوهر؟

ما بين توريط المتلقّي بعنوانٍ مخادع، وحيرة الكاتب في اختيار عنوان كتابه بما يوائم تصوراته النهائية لنصّه، تتفاوت الآراء، أو كما يقول سليم بركات "كلّنا يقلّب جملةً من مفاتيحه على باب النصّ".

يتعانق العنوان مع المحتوى إذًا، بوصفه علامة مركزية في الإرسال والتلقي بحسب نظريات البنيويين، لكننا سنتفق مؤقتًا، على أن الكتاب يُقرأ من عنوانه، بصرف النظر عن وعورة تضاريس بعض العناوين أو ابتعادها عن المتن السردي أو الجمالي للنصّ.

والحال، فإن "العناوين/ الأفكار"، باقتباس من الجاحظ، "مطروحة في الطريق، وإنما الشأن في تخيّر اللفظ، وصحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك".

الوصفة الأبديّة لصناعة البهجة

قضى خالد خليفة سنواته الأخيرة بين دمشق واللاذقية بما يشبه ترحال الغجري الجوّال، إذ أغرته مناخات المدينة..

خليل صويلح
سوريون يستعيدون خريطة الغناء المغيّبة

تراكمت فاتورة الخسائر الباهظة في تحطيم السلّم الموسيقي في سوريا، واقتحم مغنو الأعراس الشاشات، وباتت..

خليل صويلح
كُلّ هذا الهراء!

في تعريف التفاهة لغويًا "نقص في الأصالة أو الإبداع أو القيمة". وإذا بالمعادلة تذهب إلى عكسها اليوم: إذا..

خليل صويلح

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة