على كرسيٍّ مريح
في عيادة الطبيب النفسي غرب أمستردام
سألني أن أسمّي ما أشعر به
فعجزت
ثم أسميته هكذا:
"ثقل من هلام يعربش على صدري
ويمدّ أذرع أخطبوط لزجة تطوّق خاصرتي
وذراعيّ
بحيث أنك يا سيدي الطبيب، لو طلبت مني أن أقوم
فأفتح هذا الباب
لاستغرقني وقتًا في افتكاك جسدي أولًا
ثم النهوض
قال: هذا حزن
فعرفته.
* رنوة العمصي[1]
يوصف الاكتئاب، بحسب مدرسة فرويد في التحليل النفسي، بأنه عنف موجّه إلى الذات. فحين يتعرض الإنسان لقهر من مصدر خارجي، ويعجز عن ردّ هذا القهر والعنف الموجهين إليه ويمنع نفسه من المقاومة، يستدخل هذا الشخص طاقة القهر إلى نفسه.
"يجب أن تذهبي إلى طبيب نفسي"، تقول منسّقتي المسؤولة ــــ coordinator ــــ وقد رأت إحدى سورات حزني وهلعي.
كانت المرة الأولى التي أُبدي فيها هلعي أمام شخص غريب. اعتدتُ على فعل ذلك أمام أصدقائي. وفي السنوات الأخيرة لإقامتي في اللاذقية، كنت أمشي وأمشي، كلما هاجمني الاكتئاب، على غرار "فورست غامب". أركض وأركض لأهرب من شبحه الذي طاردني فترات طويلة.
لم أشأ أن أحدثها عن تجربتي مع عديد من الأطباء النفسيين في سوريا، وأنَّ أحدهم نصحني بالإيمان بقضاء الله وقدره حين أخبرته بخوفي من الفقد والموت، فما كان مني إلا أن أجبته: "لو كنتُ متدينة بما يكفي لما زرتُ عيادتك".
أخذت أبحث عن طبيب آخر بمساعدة صديقتي الراحلة الدكتورة هالة سعيد. وبالفعل، حظيتُ بطبيب رائع ومستمع جيد. أخبرته بأنّي لا أقوى على شراء أدوية أجنبية، فوصف لي أدوية سورية.
كان يدوّن كل كلمة أقولها. وفي نهاية الجلسة، أذكر أنه احتضنني وقال: لا بأس، أرى أنك قوية برغم كلّ ما مررتِ به من خسارات. وأتبع: الاكتئاب ليس علامة ضعف، بل هو إشارة لمحاولتك أن تكوني قوية لفترة طويلة جدًا!
قلت له: هذا ما يقوله فرويد. فضحك وقال: حسنٌ، بما أنك قارئة جيدة، تستطيعين مساعدة نفسك. فأنت تعرفين ما أنت مصابة به!
لم يكن يتوانى عن الردّ على هواتفي في أي وقت. ولم يمض وقت طويل حتى أُصيب باحتشاء أقعده عن العمل. حزنتُ، وقلت في نفسي: ليس لطبيب بمثل هذه الحساسية أن يكون معالجًا نفسيًا.
هكذا بدأتُ دورة جديدة في البحث عن طبيب، ووجدت واحدًا. قيل لي إنه مشهور، وإنه لا يأتي إلى مدينتي سوى يومين في الأسبوع، وعليّ الانتظار طويلًا حتى أحظى بموعد معه.
ذهبتُ إلى عيادته وانتظرتُ إلى أن أزف موعدي. وحين بدأتُ بسرد حكايتي، بدأ بمحاكمتي أخلاقيًا وكأنّي أقف أمام واعظ ديني. قال إنّي مصابة باكتئاب حاد، ووصف لي أدوية كثيرة، منها ما هو أجنبي، اضطررتُ لشرائها. لا أعرف لماذا تذكرت عبارة فرويد: "قبل أن تقرر أنك مصاب بالاكتئاب والإحباط، تأكد أولًا أنك لست محاطًا بالحمقى".
نستغرب، عندما تنهار دفاعاتنا، هذا الالتباس: كيف أننا نمرض ثم نحمّل كل هذا للطبيب النفسيّ، ونقول له: هاكَ، أصلِح
بعد سنة من تناول الأدوية، غدوتُ شخصًا آخر. حركتي بطيئة، أنام هامدة من دون أحلام، أستلقي في السرير ساعات طويلة وأنا أحدّق في السقف، لا حزن ولا فرح ولا بكاء، تكاد تنعدم ردود أفعالي إزاء أي تصرف مهما بلغت قسوته. ليس لديّ القدرة على إتمام أيّ فعل حتى القراءة والكتابة. الآن، حين أستعيد تلك اللحظات، أكره نفسي.
عدتُ إلى زيارة الطبيب، وصادف مقعدي بجانب شابة يكاد صوتها لا يخرج. مشت تجاه الحمام تكاد لا تقوى على جرّ قدميها. وحين عادت، بادرتُ بسؤالها: لماذا أنت هنا؟ فأجابتني: أُعاني من الاكتئاب منذ استشهاد زوجي. أتعالج لدى الطبيب منذ أكثر من عامين.
لا أعرف لماذا رأيت في عينيها انطفاء الحياة. ولا أُنكر خوفي من أن أتحول إلى كائن مُطفأ. غادرتُ العيادة وأقسمتُ أنّي سأتخلص من الأدوية جميعها خلال شهرين وسأحارب شياطيني بنفسي.
كان ذلك في أوائل شهر أيلول/سبتمبر 2022. ولم يمضِ سوى شهر واحد حتى تمكنتُ من ترك الأدوية جميعًا، وعاودتُ الحياة، أحزن وأبكي وأفرح وإن كانت لحظات الفرح معدودة. لا أنكر أنّي أمضيت أسبوعين لم أستطع النوم فيهما، ولم أغادر سريري إلا لفترات قصيرة. كانت رحلة شاقة بالفعل!
في شهر تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام، أُبلغت بقبولي في منحة للكتابة. وكان عليّ أن أرتب للسفر بسرعة. مزيج من الفرح والحزن والتوتر رافق ذلك الترتيب، لكنّي استبشرتُ ببداية جديدة في الكتابة والحياة بعد أن قضيت أربع سنوات من دون أن أكتب شيئًا مهمًّا.
"نحن نسعى لأن نتجنب الألم أكثر من سعينا لأن نجد السعادة"، يقول فرويد.
هل هذا صحيح؟ أشرد وأنا أكتب المقالة: لم يمضِ على وصولي إلى برلين سوى شهرين حتى وقع الزلزال في سوريا، وفقدتُ أغلى شخصين على قلبي. هكذا عاد الاكتئاب يحفر عميقًا في داخلي. أي سعادة يمكن أن أبحث عنها! كأن الطبيعة تعاقبني على كلّ لحظة سعادة!
أتصل بصديقتي في أمستردام بعد أربعة أشهر على وقوع الزلزال، فتنصحني برؤية طبيب نفسي قائلة: "اثنتي عشرة سنة حرب وسفر ومدينة جديدة وزلزال وفقد لأغلى الأصدقاء. كيف يمكن أن تكوني طبيعية؟ من غير المعقول ألا تكوني مكتئبة!".
أطلب من المنسقة أن تبحث لي عن طبيب نفسي عربي، فاللغة مهمة كثيرًا في العلاج النفسي. كيف بوسعي أن أجد مفردات تعبر عما أعانيه في اللغة الانكليزية؟ تجد طبيبًا وتحجز موعدًا بعد شهرين!
أضحك حين تخبرني بالموعد، وأقول لها: عليّ الانتظار شهرين، إلامَ ستؤول حالتي؟ أزور الطبيب في مشفى شاريته في الموعد، أفاجأ بعيادة ضيقة. لا أدري لم تخيلت إن كرسيًا مريحًا بانتظاري، لكن الأمر لم يكن يشبه ذلك. شعرت أنَّ الطبيب تمثال شمعيّ، لا يُبدي أي ارتكاس لأي كلمة أقولها، ولا يسألني أيّ سؤال، بل يتركني أتكلم كأنّي أمام مرآة. ينهي الجلسة قائلًا: أنت بحاجة إلى تغيير سلوكي!
لا أفهم ما يقصد.
أعود من العيادة وأقول، لن أزور طبيبًا نفسيًا مرة أخرى!
هكذا بدأتُ أتعلّم الألمانية، وشغلت نفسي بالكتابة. غير أنّ أمراضًا عضوية بدأت تداهمني. ولأن قائمة انتظار المواعيد هنا تمتد لشهور، وكذلك التشخيص، فإن فترة التعافي تطول أيضًا وتوقِعُك فريسة أوهام لا حصر لها.
ماذا يحدث؟ لماذا لا أشفى؟ عاد الاكتئاب يفعل فعله ولم أعد أنام جيدًا، وبدأ وزني يتناقص بسرعة، لكني قررتُ البحث عن طبيب آخر.
في عالم الرأسمالية الجشع، كل دقيقة محسوبة: لك وقت مخصص، وفي هذا الوقت عليك أن تركز وتحكي ما يُعتبر مهمًا فقط
تقول صديقتي هي الوحدة في الغربة. لو كان لديك حبيب أو صديق، لكانت الأمور أهون. أضحك من التفسير، لقناعتي بأن جزءًا من هذا الاكتئاب سببه الحب. أتذكر تشخيص فرويد لانتحار فان غوخ: "ربما كان فان غوخ سيعيش مدة أطول لو نجح في الحب"، ويُرجع فرويد معاناته طوال حياته إلى "غياب الحب وتعرّضه للرفض وفشله في أن يجد رفيق درب يحتمي به من الوحدة والاكتئاب".
ثم أفكر ما هي الوصفة المثالية للحب؟ ولماذا يكون الحب، على الدوام، سببًا لآلام لا تنتهي.
في البلاد التي تبكي من اليمين إلى اليسار
لا تسير الأمور على هذا النحو
هناك، نتجالس كثارًا
نبعثر حصصنا من الدمع بعثرة مثل ورق اللعب
ونعيد توزيعها بيننا حسب الهوى
نحكي ونضحك حتى نبكي
ثم نبكي
ثم نغادر خفافًا لا نميّز حزنًا من فرح
ولا نسمي الحزن باسمه
فلا نعرفه ولا يعثر علينا.
في أمستردام، لا تسير الأمور على هذا النحو
في أمستردام، نختار حزمًا تأمينية جيدة ونعاود الطبيب النفسي
نبكي هناك
بكاء مجدولًا بشكل مسبق في الأجندة الأسبوعية!
* رنوة العمصي
تقول لي المنسقة: هل ما زلت تذهبين إلى الطبيب النفسي؟ أجيبها بالنفي وأقول لها: أعرف طبيبًا سوريًا جيدًا هنا. لكنّ ثمنَ المعاينة مرتفع ومواعيده مزدحمة، فتجيب: "لا تقلقي، سوف نجد شركة تأمين جيدة وحينها تستطيعين الدفع". وما هي إلا فترة قليلة حتى أجد حزمة تأمينية جيدة، فأحجز موعدًا وأذهب إلى ذلك الطبيب السوري.
لا أنكر أنه ذكي ومريح إلى حد بعيد. تركني أتحدث على سجيتي في أول موعد، وكان مهتمًا بتسجيل كل ملاحظة ويقف عند أدق التفاصيل. لكن المواعيد التالية كانت قصيرة ولا تتجاوز 45 دقيقة. ذُهلت لقصر المدة وطول الزمن بين الزيارات. كنت أخرج من العيادة مرات كثيرة تائهة وفي مرات أخرى بحالة جيدة. لكن الأمر كان يشبه اقتراب الوصول إلى النشوة، وما إن تقترب حتى يقول لك: انتهى الوقت، أراك بعد أسبوعين!
ندفع للطبيب النفسي مقابل أن تتعرى أرواحنا أمامه 45 دقيقة كل أسبوعين! ثم لماذا عليّ أن أتعالج؟ من المسؤول عن مآزقي النفسية التي أمرّ بها؟ من الذي تجب معالجته: المجتمع، الظروف، الأسرة؟ كيف يمكن أن نكون أصحاء في عالم يدهسنا كل يوم؟ ما الخط الفاصل بين المرض النفسي والعقل؟ في عالم الرأسمالية الجشع، كل دقيقة محسوبة. لك وقت مخصص، وفي هذا الوقت عليك أن تركز وتحكي ما هو مهم، وتتجاهل ما يُعتبر غير ذلك.
لكن المشكلة تكمن هنا: ما هو المهم؟ أليس نمط الحياة الضاغط هنا سببًا في الاكتئاب؟ ليس الأمر مقتصرًا على المهاجرين واللاجئين بل حتى على الأوروبيين. هكذا أفكر، يدفعوننا بسياساتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إلى الجنون، ثم يعالجوننا كي نعود إلى ماكينة العمل.
تتصل بي صديقتي وتخبرني بأنها كانت على وشك الانتحار وتبحث عن طبيب نفسي، إلا أن معاينته تفوق المئة والثلاثين يورو، وتأمينها لا يغطي جلسات العلاج النفسي، وتلعن البلاد واللجوء. أشرد ولا أعرف ماذا أقول.
نعاني من عطب جماعي، ونحاول أن نصنع من السمّ ترياقًا. ونستغرب هذا الالتباس عندما تنهار دفاعاتنا. كيف أننا نمرض ثم نحمّل كل هذا للطبيب النفسيّ، ونقول له: هاكَ، أصلِح.
في البلاد التي تكتب من اليسار إلى اليمين، سوف تكون شخصًا غير طبيعي إذا لم يكن لديك معالج نفسي. في البلاد التي تراكم الألم النفسي، يغدو عسيرًا أن تكون طبيعيًا.
[1] شاعرة وروائية فلسطينية تعيش في أمستردام.