أثناء تصفح مواقع التواصل الاجتماعي في ساعات الملل، لا بد أن تصطدم بمقطع فيديو لـ Food Blogger، أو مدوّن مختص بالطعام. ومرة بعد مرة، قد تجد نفسك منساقًا لمتابعة الأداء المتواصل، والمتزايد، لعشرات المدوّنين "المؤثرين". حتى تبدو السوشال ميديا كما لو أنها استحالت، فجأة، دائرة من الأداء الأبدي لعدد من البلوغرز، الذين يسعى كل منهم إلى استقطاب المتابعين وتحقيق الاعتراف، من خلال جذب انتباهنا نحن العالقين خلف الشاشات.
يمكن القول إن هدف البلوغر وكل "مؤثر اجتماعي"، بغض النظر عن أدائه وما يقدم لجمهوره، يتمثل بتحقيق الاعتراف، والشهرة، ورأس مال رمزي يراكمه في إطار ما يُعرف بـ"اقتصاد الاهتمام". والاقتصاد هذا، بحسب المتخصص في دراسات الإعلام ريمي ريفيل[1]، قائم على رضى المتابعين بما يقدمه صاحب المحتوى ودوام متابعتهم له. وترتبط عملية الاستهلاك هذه بمبدأ بسيط: كلما كانت شبكة المستهلكين لقناة ما أوسع، كان للقناة فرصة أكبر للوصول لمستهلكين جدد.
من هنا، بتنا نرى مؤثرين منخرطين في سباق يوميّ للنشر والإكثار من المحتوى، مجربين طرقًا شتّى في عالم يعجّ بهم. إذ عليهم أن يُظهروا فرادتهم وتمايز محتواهم، بهدف جذب الانتباه الذي بات نادرًا بحكم وفرة المحتوى على الإنترنت، ومعه كثرة أعداد المؤثرين.
الأداء الأبدي
الأدائية هي عملية إخراج المحتوى للعلن. وهي ما يحاول بلوغرز الطعام تطويره ليكون لكل منهم عبرها شخصية خاصة، تمتلك سمات حركية أو لفظية متمايزة يسهُل على الجمهور حفظها وتداولها. هذا ما صنعه المؤثر اللبناني اليوناني جوي تاسيدس على سبيل المثال، الذي أطلق صفحة على كل من "إنستغرام" و"تيك توك"، موجّهتين بشكل خاص لشريحة الأثرياء في المجتمع اللبناني. فهو يزور أفخم المطاعم والمنتجعات السياحية، ويُعلِم متابعيه بالأسعار التي دفعها خلال زياراته، والتي قد تصل إلى حد 300$ دولار مقابل وجبة غداء على البحر في منطقة عين المريسة ببيروت!
يطلق عالم الاجتماع سيغموند باومان وصف "أهل الصيد" على المجتمع المعاصر، حيث أنّ أيّ توقف عن الأداء يعني ببساطة الموت
وبرغم أن البعض يصف المحتوى بالمستفز بسبب تسليطه الضوء على الوجبات المكلفة، فإن الأداء الخاص بجوي يُكثر من متابعيه. إذ إنّ فيديوهاته التي يجمع فيها بين اللغتين العربية والفرنسية، مفتتحًا إياها بلازمة "بونجور، بونجور"، أصبحت رائجة، بل كثر التداول بـ"بونجوره" بغرض السخرية حتّى.
غير أن جوي لا يكترث بطبيعة التفاعل. إذ سواء كان التفاعل مادحًا أم ساخرًا، فالمهمّ أن يزداد عدد متابعيه. وفي حين أن محتواه يعني فئة صغيرة من المجتمع اللبناني، فإن جوي بالنسبة لآخرين يمثل فرصة للتلصص على هذا النمط من العيش. فمع جوي، نحن نرى، في ظل انهماكنا اليومي، أن منتجعًا جديدًا في منطقة البترون بات يقدم خدمة التدليك ـــــ المساج ــــ بـ 150$ "فقط".
إلا أنّ الأمر يغدو أصعب حين يكون المحتوى أكثر "تقنية"، كما في الفيديوهات التي يقدمها طهاة الطعام، الذين انتشروا بكثرة وتكرّرت مع انتشارهم الوصفات ذاتها. ومع ثبات مكوّنات الأطباق المعروفة ومحدودية التنويع فيها، يبقى ما يميّز المحتوى عن الآخر... هو أداء "الشيف" فحسب.
وقد لاقت برامج الطبخ رواجًا على التلفزيون في السابق، حيثُ أُطلقت قنوات خاصة بالطبخ مثل قناة "فتافيت". لكنّ الأمر على السوشال ميديا يختلف، وتقييم المنتج لا يأتي من المتخصصين والنقاد، بل من المتابعين أنفسهم. إذ إن السوشال ميديا قلبت آليات الاعتراف، لتصبح من أسفل إلى أعلى. والأدائية باتت سلاح "المؤثرين" الأكثر فعالية والأمضى.
هذه اللعبة الصعبة أجادها بعض الطهاة واشتهروا نتيجتها، بينهم "الشيف عمر"، وهو شيف سوري أطلق قناة تعرض طبخات سورية، مستخدمًا أثناء طهيه عبارات أصبحت موسومة مثل "الله يباركلو". أما الشيف "أبو جوليا" الذي يبث من لندن، فاشتهر بلهجته الفلسطينية وأسلوبه الكوميدي في تحضير الوجبة وتناولها حتى.
ومع ازدياد عدد الطهاة، تبدأ بملاحظة الوافدين الجدد بينهم إلى اللعبة، أمثال الشيف "بلال عمر"، الذي يحاول اكتساب شخصيّة خاصة به. و"الشيف عمر" يقدّم نفسه كـ"محترف" في مهنة الطهي، فيراعي أدق التفاصيل أثناء تحضير وجبته، مستعيرًا في الوقت عينه من الطهاة الآخرين بعض العبارات. لكن مقاطعه ما زالت طويلة، وهي، في النهاية، تظهر كما لو كانت مزيجًا يجمع بين حرفية الطبخ وتجارب التمثيل للمبتدئين.
الاعتراف بـ"البلوغرز" يأتي من المتابعين وحدهم، والأدائية هي سلاح "البلوغرز" الأكثر فعالية والأمضى
هناك أيضًا طهاة "يتمايزون" عن غيرهم لناحية الإفراط. "الشيف شامي"، مثلًا، الذي يُبرز لهجته ومعها زيّه الدمشقي التقليدي، يبالغ في المقادير المستخدمة. إذ غالبًا ما يطهو وجبات دسمة وهائلة الحجم، مستخدمًا كميات كبيرة من اللحم والسمن، فيضع رأس ماله كله في خانة واحدة، هي تلك المخصصة لمحبي الطعام الدسم. وفي الوقت نفسه، يوظّف "الشيف سامي" حجمه في عمليّة صناعة هويته البصرية، فهو رجل ممتلئ القوام، يبدو كما لو كان مع ما يقدمه كتلة واحدة. وهي هوية يعبّر عنها بجملته الشهيرة التي كثيرًا ما يطلقها مع ابتسامة عريضة ولطيفة؛ "مو مشان شي، مشان صحتك ياغالي".
اللعب المتواصل: خوف الخروج من الرحلة
يطلق عالم الاجتماع سيغموند باومان[2] وصف "أهل الصيد" على المجتمع المعاصر. هذا المجتمع اللاهث خلف كلّ جديد محاولًا البقاء ضمن لعبة البحث. لكنّ جوهر مهنة الصيد هذه، كما سماها باومان، هي أنها لا تنتهي. فهي قائمة على الديمومة لأجل غير مسمى. وكلّ عملية صيد ترافقها حالة من الهوس؛ ففي اللحظة التي يحقق فيها الصياد مراده، يبدأ في البحث عن صيد جديد. فالسعادة، أو اليوتوبيا في هذا المجتمع، هي في الرحلة لا في الغنيمة. والآمال المصاحبة لعملية الصيد، هي أمتع ما فيها. في المقابل، فإن الاستكانة في هذا العالم تبعث على الخوف. إذ إنّ أي سكون أو توقف عن الأداء، يعني ببساطة الموت.
هذا ما يسعى إليه، مثلًا، "دكتور فود" وزوجته "سن شاين". فمقاطع الاثنين تنتشر على المنصات الرقمية كافة. ولا يمرّ يوم من دون أن ينشر الاثنان مقاطع فيديو يشاركان فيها حياتهما مع المتابعين. فحياة البلوغرز مكشوفة وعارية، لا مجال معها للخصوصية. أو، فلنقل، إنها خصوصية منتقاة.
في بداية مشوارهما، كان "دكتور فود" مؤثرًا مختصًا بالطعام يقوم بجولات تقييم للمطاعم وبعض المحال البسيطة. أما "سن شاين"، أو شروق، فهي "تيك توكر" تقدم محتوى يتعلق بالجمال والموضة. وقد تزوج الاثنان ليقدما سويًا مقاطع مشتركة، بدأت بمقطع يظهر حفل زفافهما الذي قدّما فيه طبقًا من الفاصوليا البيضاء قاما بطهيه. لاحقًا، تنوعت مقطاعهما المشتركة، من تقييم الطعام وإعداده، وصولًا إلى التسويق لمنتجات "دكتور فود" الذي افتتح معملًا لإنتاج بعض أصناف الطعام الجاهز.
ومع الزواج "الناجح" على السوشال ميديا، ارتفعت نسبة مشاهدة "سن شاين" و"دكتور فود". وبرغم غياب أيّ ثيمة محددة للمقاطع التي ينشرانها تباعًا، ثمة شخصية / كاراكتير، أو هيئة واضحة لما يرغبان بالظهور عليه؛ في البداية كنا نرى "سن شاين" تشتكي من علّة جسدية أو نفسية ما، يكون حلها دومًا على يدي "دكتور فود" الذي يغريها بوجبة طعام أو دعوة إلى مطعم ما، ولاحقًا بدأت "سن شاين" تحضّر لزوجها ــــ المتعب أو المستيقظ من النوم ــــ وجبات خفيفة، وتعرض لمتابعيهما كيفية إعداد الوجبة. هكذا، يظهر الرضى عليها أو عليه بعد "الحلول" التي يقدمها أحدهما للآخر (أي الطعام)، ليبدو معها الواحد منهما طبيبًا أبديًا لشريكه.
رحلة زيادة عدد المشاهدات تلك لا تنتهي ولا يحدّها سقفٌ ولا اكتفاء. فعمل البلوغرز قائم على الاستمرارية، إذ لا وجود لخط نهاية في حياة "أهل الصيد"، وما من لحظة يمكن فيها القول إن المهمة انتهت. بل الأكيد أن نهاية الرحلة مخيفة، فهي إعلان للحظة فشل شخصي. هكذا، يضحي الهوس "طبيعيًا" وفق معايير "أهل الصيد"، ويصبح اللهاث خلف المزيد من التفاعل ـــ مهما كان شكله ـــ مطلوبًا.. على الدوام.
[1] ريفيل، ريمي- تر: سعيد بلمبخوت- عالم المعرفة- الكويت- العدد 462- الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟
[2] باومان،سيغموند- تر: حجاج أبو جبر- الشبكة العربية للأبحاث والنشر- الثقافة السائلة.