مغامرة العلاج النفسي
المواقف التي نتعرّض لها مع بعض المعالجين النفسيين غريبة أحيانًا، وقد تكون مضحكة، لكنّها دون شكّ تترك فينا أثرًا يعيدنا إلى الوراء في مسيرة العلاج النفسي. هذه أمثلة عن بعض الحالات:
المواقف التي نتعرّض لها مع بعض المعالجين النفسيين غريبة أحيانًا، وقد تكون مضحكة، لكنّها دون شكّ تترك فينا أثرًا يعيدنا إلى الوراء في مسيرة العلاج النفسي. هذه أمثلة عن بعض الحالات:
"أنتِ غير مستقرّة نفسيَّا. لذا، عليّ التوقّف عن متابعة علاجك".
هذا ما قالته المعالجة لي بنظرات توحي باليأس، وبصوت دافئ لاعتقادها أنّ كلماتها تلك سيكون لها وقع سحرّي عليّ، يدفعني إلى التراجع عن قراري بالتوقّف عن أخذ أدوية مضادّة للاكتئاب.
بدَأت رحلتي مع الأطباء النفسيين منذ خمس سنوات، وكنتُ يومذاك عاطلة عن العمل. لذلك لم أكن قادرة على دفع تكاليف الجلسات التي أخذت ترتفع مع تفشّي الأزمة الاقتصاديّة في لبنان. وكان انهياري النفسّي في ذروته، إذ كنت عاجزة عن النهوض من السرير ومتابعة أي نشاط بشكل طبيعي، فلجأت إلى إحدى الجمعيّات التي تُعنى بتقديم خدمات مجانيّة.
لم يكن قد مضى أكثر من نصف ساعة من الجلسة الأولى حين قالت لي الطبيبة النفسيّة: "أنتِ تعانين من الاكتئاب"، ووصفت لي دواء مضّادًا له ودواء آخر لمساعدتي على النوم. وهنا بدأتُ مشوارًا من "التسطيل". وكانت الآثار الجانبيّة للدواء قاسية إلى حدّ ضاعف من أزمتي النفسيّة. وحين راجعتُ الطبيبة، أصرّت على استمراري في أخذ الأدوية. لاحقًا، علمتُ أنّ صديقتي التي أرشدتني إلى الجمعيّة شخّصَت حالتَها طبيبةٌ أخرى تعمل في الجمعيّة عينها، وأبلغتها أنّها تعاني من اضطراب ثنائي القطب، ووصفت لها الدواء نفسه الذي وُصف لي!
"كان محور الحديث عنها تقريبًا، كانت تخبرني عن علاقتها بشريكها وكيف تعرّفت عليه، وكذلك عن إنجازاتها"
كنت أزور المعالجة النفسيّة مرّة في الأسبوع. وكان الأمر مضحكًا: أجلس أمامها لنحو خمسين دقيقة، أبكي، أنهار، أحكي دون توقّف، وأمامي سيّدة تنظر إليّ فقط، وتهّز برأسها، وأحيانًا تتثاءب ولا تنبس بأي كلمة، باستثناء عبارة "أراكِ الأسبوع المقبل"!
مضت سنتان، بل أكثر، وأنا أتابع تلك الجلسات معها ببساطة لأنها مجانيّة، ولأن لا خيار آخر لديّ، حتّى بتّ أعتقد أنّ لا حل لمشكلتي، إلى أن مللت من أحاديثي مع "جارتي" الصامتة التي أشكو لها ولا أجد منها أي ردّ فعل أو مساعدة.
يُعدّ ارتفاع كلفة جلسات العلاج النفسي سببًا أساسيًا لتوقّف كثيرين عن متابعة العلاج، برغم حاجة الكثير من اللبنانيين المتزايدة إلى هذه الجلسات. إذ يبلغ الحد الأدنى لكلفة الجلسة الواحدة 20 دولارًا، علمًا أنه في بعض الأحيان يتجاوز الـ100 دولار، وهذا مبلغ كبير لذوي الدخل المحدود وتعجيزي بالنسبة للعاطلين عن العمل. أمّا بالنسبة للجمعيّات التي تقدّم خدمات مجانيّة، فقد يضطّر المريض للانتظار شهورًا كي يحصل على موعد.
المواقف التي نتعرّض لها مع بعض المعالجين غريبة أحيانًا، وقد تكون مضحكة، لكنّها دون شكّ تترك فينا أثرًا يعيدنا إلى الوراء في مسيرة العلاج النفسي، ويخلق لدينا ترددًا حيال فكرة إعادة الكَرّة، ما يدفعنا إلى محاولة معالجة الأمور وحدنا دون طلب المساعدة. وقد قال العديد ممن تواصلت معهم إن سلوك المعالجين النفسيين يضيف ثقلًا آخر إلى مجموعة الأعباء النفسية التي يواجهونها.
كان الدواء يلائمني لأسبوعين فأشعر بالتحسّن، ثم سرعان ما تظهر أعراضه الجانبية، وبقيت لسنتين كالجثّة المتحركة
تروي لي نور تجربتها مع المعالجة التي تتحدّث عن نفسها أكثر مما تصغي إليها. "كان محور الحديث عنها تقريبًا، كانت تخبرني عن علاقتها بشريكها وكيف تعرّفت عليه، وكذلك عن إنجازاتها"، تقول نور. وتضيف أن المعالجة قامت بمتابعة حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي، وراحت تلجأ إليها كلّما أرادت أن تكتب منشورًا. "كنت أجهد لإعادة بوصلة الحديث إليّ"، تقول نور، مضيفة: "لمَ عليّ أن أدفع لأستمع أنا لها؟".
لسارة تجربة مختلفة. فعلاقتها بالمعالجة باتت أقرب إلى "علاقة ابنة بأمها". "كانت تحاول إملاء ما عليّ القيام به، وحين أبلغتُها برغبتي بالتوقّف عن متابعة الجلسات، حاولَت ثنيي عن ذلك وإقناعي بأنّ هذا الوقت هو أكثر وقت أحتاج فيه للعلاج".
بدأت مرام فترة علاجها في العام 2021، إثر تشخيصها باضطراب ثنائي القطب بعد محاولة انتحار. تقول مرام: "زرت أكثر من طبيب، وكان تشخيصهم لحالتي موحّدًا؛ أنّي مصابة باضطراب ثنائي القطب. لكنّهم لم يُجمعوا على الدواء المناسب لي. وفي كل مرّة كنت أتناول دواءً جديدًا، كان الأخير يلائمني لفترة أسبوعين فأشعر بالتحسّن، ثم سرعان ما تظهر أعراضه الجانبية. بقيت لمدّة سنتين كالجثّة المتحركة".
كان أثر الأدوية قاسيًا على مرام، فبرغم تلاشي "الأفكار السوداويّة المتعلقة بالانتحار" مع الأدوية، إلا أنها أصبحت عاجزة عن القيام بشيء."لم أعد قادرة على التفكير بالحياة"، تقول. "لم يكن لديّ ما يكفي من الطاقة لذلك".
أقلعت مرام عن أخذ الأدوية تدريجيًا. ومن ثمّ قرّرت التوقّف عن العلاج بعد استشارة عدد من الأطباء النفسيين الذين لم تحصل منهم على جواب واضح حول احتمالات تقليص الأعراض، بل إنّ البعض أنكر أن الأدوية هي السبب. "عادي، في ألف دوا. فينا نضّل نجرّب!"، قالت لها إحدى الطبيبات مرّة.
مسلّمات العلاج عند المعالج النفسي هي "السريّة المطلقة، والأمان، وحريّة التعبير بالطريقة التي يراها المريض مناسبة"
بسبب عدم قدرة مرام على دفع كلفة الجلسات في عيادة خاصّة، لجأت إلى إحدى الجمعيّات التي حددّت لها عشر جلسات مجانيّة. لكنّ الأمر لم يقتصر على تحديد عدد الجلسات فحسب، بل اشترطت الجمعية أيضًا تحديد موضوع واحد فقط للحديث عنه مع المعالجة خلال هذه الجلسات. هنا، وُضِعت مرام أمام خيار مساعدة نفسها بنفسها.
"أعلم أن الحلّ ينطوي على التوقّف عن أخذ الأدوية. وفي الوقت نفسه، أدرك أنّ التوقّف عن زيارة المعالج النفسي ليس حلّا مثاليًا، لكنّه الخيار الوحيد الذي في جعبتي اليوم. اخترتُ أنّ أتعامل مع أعراض اضطرابي التي بإمكاني السيطرة عليها، بدل أن أعاني من الأعراض الجانبيّة للأدوية التي أعجز عن التحكّم بها وتتملّك جسدي، وأحتاج إلى وقت للتعافي منها"، تقول.
في مقابلة مع المعالج النفسي د. محمد حمد، يقول الأخير إنّ "السنوات الخمس الأخيرة شهدت ارتفاعًا في حالات القلق والاكتئاب، وكذلك حالات الإدمان. وقد انعكس ذلك حضورًا أكبر في العيادات". ويشير حمد إلى تزايد حدّة الأعراض أيضًا، موضحًا في الوقت عينه أنّ المعلومات هذه غير مبنيّة على إحصاءات، بل على ما يُشاع في الأوساط العياديّة. كما أن مبدأ السريّة الذي يمنع مشاركة أي معلومة عن المرضى لأي جهة بهدف حمايتهم وحماية خصوصيّتهم، يصعّب عمليّة الحصول على بيانات دقيقة.
ويذكر حمد أنّه، توازيًا مع ارتفاع الطلب على أدوية مضادّات الاكتئاب وغيرها من الأدوية المعالجة، ثمّة زيادة ملحوظة في الإقبال على الموّاد المخدّرة بحجّة تخفيف أعراض القلق والاكتئاب، بغّض النظر عن الارتدادات ونتائج هذا الأمر.
أمّا فيما يتعلّق بالمساحات العلاجيّة، فيشير حمد إلى أنّها تنطوي على "مساحة أمان للمريض من الحكم المسبق عليه، وعدم إكراهه على القيام بأي أمر، بما في ذلك التحفيز إلى الحدّ الذي لا يتحملّه المريض أو لا يتلاءم مع وتيرته العلاجيّة والهدف الذي ينشده من العلاج النفسي".
كما أنّ مسلّمات العلاج هي "السريّة المطلقة، والأمان، وحريّة التعبير بالطريقة التي يراها المريض مناسبة، ويفترض أن تكون هذه المساحة واضحة للطرفين. وإذا ما شعر المريض أنه تمّ التعدّي عليها، بإمكانه التوجّه مباشرة للمعالج وإبلاغه. أمّا في حال لم يتمكّن المريض من ذلك، فبإمكانه التوجّه للنقابة لتحصيل حقّه المكرّس من خلال القسم الذي يؤدّيه الأطبّاء جميعًا".