"أعطني أدويتي، أطلق يديّ"
منذ أسبوعين وأنا ألجأ إلى الصيدليات محاولاً إيجاد أدويتي التي عليّ أن أتناولها يومياً مدى الحياة، والقيام بذلك هذه الأيام أشبه بالبحث عن جملٍ في الإسكيمو.
منذ أسبوعين وأنا ألجأ إلى الصيدليات محاولاً إيجاد أدويتي التي عليّ أن أتناولها يومياً مدى الحياة، والقيام بذلك هذه الأيام أشبه بالبحث عن جملٍ في الإسكيمو.
بينما أدفع ثمن الدواء، اختلستُ نظرةً إلى الخزانة الخشبية: كانت علب عدّة من العقاقير نفسها مستلقية داخلها كسبائك من ذهبصار المشي واكتشاف صيدليات جديدة عادةً يومية. أعلم أنّي لن أجد طلبي، لكنّي كحال ضائعٍ في الصحراء، لا جدوى من توقفي. قررت أن أسير حتى أسقط. ورحت أفكر في الطريق بكبار السن من المرضى؛ أدوية الضغط، أدوية السكري أو القلب... هل يحصلون عليها؟ ما حالهم؟ ثم تحوّل المشوار اليومي إلى نوع من التسلية، فمرةً أتخيل في طريقي أنّي سأسطو على مستودع للأدوية لأوزعها على الفقراء والمرضى مجاناً، أتحوّل إلى روبن هود مختص بالأدوية، ومرةً قررت أن أستغلَّ الأمر وأحوّله إلى نوع من الرياضة، فرحتُ أمشي كما لو كُنت مهرولاً، ووجدتُ نفسي أغنّي بصوت عالٍ طوال الطريق؛ "أعطني أدويتي، أطلق يديَّ". في الدروب إلى الصيدليات أتذكر أنّي سمعتُ، أو قرأت على "فيسبوك"، أن إحداهن أصيبت بفايروس كورونا وأوصاها الطبيب بتناول قرص "بنادول" كل أربع أو ست ساعات، لكن حين ذهبتْ إلى الصيدلية، أخبرها الصيدلي أنه لا يستطيع أن يعطيها أكثر من علبة واحدة. تساءلتْ بطرافة حينها صاحبة الحادثة، أو هكذا تخيلتُ أنا، هل عليها أن تُشفى قبل أن تنتهي أقراص الباندول؟ هل سيستلقي جسدها المريض مراقباً سباقاً بين الفايروس والباندول؟ بعد أسبوع من جولاتي اليومية على الصيدليات، حدث أمرٌ جلل لم يكن في الحسبان. كنت قد خرجتُ من المنزل كالعادة باليأس ذاته، يأس المريض المتمسك بوصفة أدوية، لكنه يأسٌ يشعرك بالسلام الغامض ويدفعك للتفاؤل في الوقت عينه، وهذا من ميزات بلداننا. المهم أني، في ذلك اليوم، دخلتُ إحدى الصيدليات، وكالعادة باستحياء وشعور بالذنب، سلمت الوصفة للصيدلانية منتظراً الرد المعتاد. لكن الصيدلانية هذه المرة تصرفت بشكل طبيعي وكأنّها من زمن سابق. توجهتْ دون تفكير إلى خزانة خشبية وجلبت الأدوية ببساطة ومنحتني إياها: تفضل. ارتبكتُ للحظة، ولم أعرف ماذا أفعل، هل آخذها؟ أمسكتها بيدي وقلّبتها لأتأكد منها، ومن شدة لهفتي شعرتُ بأن ابتسامة كبيرة ارتسمت فوق الكمامة. سألتُها بتردد: "فيني أخدن يعني"؟ ضحكتْ وقالت لي: "أكيد مسيو". رغبتُ لو احتضن مخلصتي تلك، ولولا الكورونا والخوف من سوء الفهم لفعلتُ ذلك، وبينما أدفع لها ثمن الدواء اختلستُ نظرةً إلى الخزانة الخشبية. كانت علب عدّة من العقاقير نفسها مستلقية داخلها كسبائك من ذهب. فكرتُ للحظة أن أطلب علبة أخرى، لكن ما تبقى في داخلي من ضمير همس لي: "أحد أسباب انقطاع الأدوية تخزين المواطنين لها، خذ حاجتك واترك الباقي لغيرك". حاولتُ أن أسكته وأقنع نفسي بأن حاجتي لا متناهية، فالعلبة ستنتهي قريباً وسأحتاج إلى أخرى. حينها من المتوقع أن أعود إلى البحث مرة أخرى. تصارعت مع بقايا ضميري للحظات، ثم خرجت بعلبة واحدة من كل دواء. أخذتُ الأدوية بسرعة إلى الخارج، وأنا أقفز وأردد بكلمات مثل: .Oh my Gosh. Oh my God. Yes, yeees. كنتُ أضحك فرحاً وأنا أقوم بذلك، كما لو أنّي نجحتُ بسرقة أحد البنوك. انتبهتُ في تلك اللحظة إلى أن تأثير الأفلام عليّ كان واضحاً في هذا المشهد، الأمر الذي زاد من ضحكي. عدتُّ إلى البيت وتناولت كل حبّة دواء كما لو أنها أول سيجارة بعد صيام طويل، وأحسست بطمأنينة مصدرها فترة الراحة القادمة، الراحة المؤقتة، من البحث مجدداً عن الأدوية. ومن حينها أضع الأدوية أمامي ولا تغيب عن ناظري. أراقبها كصديقة عزيزة بعد غياب. وفي الليل تستلقي بجانبي في السرير مثل أحذية الأعياد في طفولتنا. وأفكر قبل النوم بينما أتأملها، هل أمتنع عن تناول أدويتي بشكل يومي، وأوزعها على الأيام بشكل أقل، وبهذا أحافظ عليها لفترة أطول، أم أتناولها دفعةً واحدة؟