زار سيد درويش الشام مرتين. كانت الأولى عام 1908 واستمرت 9 أشهر، ولم يُكتب لها النجاح لظروف مالية. أما الثانية فاستغرقت عامين (1912 ــــ 1914)، وكانت رحلة جوهرية رسم خلالها الخطوط الأولى للوحته الخاصة بعالم الموسيقى، وكان يقظًا حيال ما وجده هناك من ظواهر موسيقية، لا سيما القدود الحلبية والموشّحات. وكانت الرحلتان مع فرقة "سليم عطاالله".
كان سيد درويش، قبل توجهه إلى الشام، شابًا يحبّ الغناء. وصادف، أثناء عمله كبنّاء، أن لفت بموهبته انتباه صاحب العمل، فطلب منه أن يتوقف عن العمل ويكتفي بالغناء لبقية العمال، الذين كانوا يُبدون حماسًا إضافيًا عند سماعهم صوته.
ظلّ سيد على هذا المنوال، يغني للعمال ويأخذ أجره كاملًا، كما لو كان يشاركهم حمل الحجارة والرمل، إلى أن سمعه سليم عطا الله في أحد الأيام أثناء وجوده في قهوة قرب المكان الذي يعمل به، وطلب منه الانضمام إلى فرقته والتوجه معها إلى الشام في نهاية 1908.
وقد ساهمت الزيارة الأولى إلى الشام، بأشهرها التسعة، في ترسيخ التفكير الموسيقي في عقل سيد درويش، من دون الابتعاد بصورة كاملة عن النمط التقليدي، مع التعرّف في الوقت ذاته على المستوى الموسيقي الموجود هناك، من موشحات وأغاني شعبية سائدة.
وبعد عودته إلى الاسكندرية، رجع درويش إلى نمط حياته المعتاد. وراح يزاول أعمالًا مختلفة، إلى أن حان موعد السفر إلى الشام من جديد. وهنا بدأت حكايته كأستاذ في صناعة الموسيقى، حيث تعرّف خلال عامين على الواقع الموسيقي وعلى كبار أساتذة الموسيقى العربية، واكتشف الأسلوب المتّبع في تلحين الموشحات في سوريا.
خلّص سيد درويش الدور الموسيقي من النمط السائد، حيث لم يترك للمغني مجالًا كبيرًا للارتجال
عاد سيد درويش بعد ذلك إلى الاسكندرية حاملًا معه طرائقه الخاصة في تلحين الموشّحات والأدوار. وكان قد اطلّع عليها في السابق، قبل زيارته بلاد الشام، حين استقدم الموسيقي السوري شاكر الدمشقي فرقة أبو خليل القباني عام 1884 إلى مصر. إذ حملت الفرقة معها عددًا غير قليل من الموشّحات التي أفاد منها كثر، بينهم درويش.
وبعد أن وطّد أساساته، واكتشف ما ينبغي تغييره لإحداث قفزة نوعية في عالم الموسيقى العربية، حزم حقائبه وترك مدينته الاسكندرية قاصدًا القاهرة، حيث دخل المنافسة مع كثير من الفرق المسرحية التي كانت تعج بها المدينة، أمثال أولاد عكاشة ونجيب الريحاني.
ضخ سيد درويش في مدينة القاهرة إنتاجه الغزير. وبدأ رحلته مع المسرح الغنائي بمسرحية "فيروز شاه"، بعد أن طلب منه تلحينها عميد الفن المسرحي الدرامي جورج أبيض، وتتالت عليه بعدها المسرحيات التي بلغت نحو 30، ومن أبرزها "العشرة الطيبة" و"شهرزاد".
ونوّع سيد في الأنماط الموسيقية التي طالت أنامله تفاصيلها، فقام بتحديث الأدوار الموسيقية، وأزاح سيطرة المغني عنها. وبذلك خلّص الدور الموسيقي من النمط السائد، وأخذ به في اتجاه جديد تمامًا، حيث لم يترك للمغني مجالًا كبيرًا للارتجال، بل صار الأخير يؤدي ما هو مطلوب منه فحسب، وفق ما يناسب الأغنية أكثر ما يناسبها.
تحوّلت أغاني ابن "كوم الدكة" يومذاك إلى هتافات تتردد في المسيرات الأهلية خلال ثورة 1919 المصرية
ويُلاحظ في الأدوار التي لحّنها درويش ميله للابتعاد عن النغمات المتداولة، كالرصد والبيات، واللجوء للنادر منها، كما فعل في دور "أنا عشقت" الذي قدمه على نغمة حجاز كار غير المتداولة في ذلك الوقت، واعتماده مقام النكريز الذي لحّن به دور "يلي قوامك يعجبني"، والعجم في دور "يا فؤادي ليه بتعشق".
وتعرّف درويش خلال تلك المرحلة على شعراء الزجل كبديع خيري وبيرم التونسي وأمين صدقي، وجرى الاتفاق بينهم على استحضار المشاعر الوطنية في أغانيهم، في ظل الاستعمار الانكليزي الجاثم على أرض بلادهم آنذاك. وتمكن هؤلاء من صياغة نتاجاتهم الفنية بطريقة طرحوا عبرها ما يعجّ به الشارع المصري من هموم وأفكار، وشمل ذلك أحوال الفلاحين والنساء في المجتمع، الأمر الذي لم يكن مألوفًا في أغاني تلك المرحلة. ومن بين الأمثلة على ذلك طقطوقة "بنت مصر"، من كلمات بديع خيري وأداء حياة صبري.
وأثار درويش حماسة الشعب المصري خلال ثورة 1919، فقدّم ألحانًا تعدّدت مواضيعها وغذّت روح المقاومة والمطالبة بالاستقلال وعودة الزعيم سعد زغلول من منفاه. وتحوّلت أغاني ابن "كوم الدكة" يومذاك إلى هتافات تتردد في المسيرات الأهلية. وكان في أيام الثورة تلك أن أطلق درويش ما سيغدو النشيد الوطني المصري "بلادي بلادي".
غير أنَّ مؤلّف ذاك اللحن لم يُكتب له الاحتفال به بعد عودة سعد زغلول من منفاه، فقد توفي ذات يوم من أيلول/سبتمبر عام 1923. وجرى تقديم اللحن أمام زغلول من دون صاحبه الذي غادر الحياة قبل أن يبلغ الثانية والثلاثين من عمره، تاركًا خلفه إرثًا يصعب الإتيان بمثله.