للمرة الأولى منذ ثلاثة عشر عامًا، أغادر سوريا وأتوجّه إلى مصر. ومنذ وصولي إلى القاهرة التي لم أزرها من قبل، بدأت تتكشَّف لي أوهام الحدود وغوايات الأمكنة.
بصراحة، لم أعتقد أني قادر على الوقوع في حب مدينة أخرى غير دمشق التي أسرتني لأكثر من عشرين عامًا بلا انقطاع، وجعلتني لا أطيق السُّكنى خارجها.
لكن لأبرر لنفسي "خيانتي البريئة"، قرَّرْتُ أن أوقظ فيّ عينَ السَّائح النَّهم، وتركت المصادفات تقودني. إذ لا حاجة لي إلى دليل بالمعنى الفعلي للكلمة، ولا حتى إلى خرائط "غوغل". كلّ ما أحتاجه هو بوصلة القلب للوصول إلى روح المدينة، وكي أطلّ على تفاصيل عيشها والتحامها بأرواح ساكنيها الذين أصبحتُ فجأةً واحدًا منهم.
وصلتُ ليلًا، واستغربتُ كيف أنّ سائق الحافلة التي تُقلُّني لا يستمع إلى عبد الوهاب أو سيد درويش أو أم كلثوم أو الشيخ إمام. فصرتُ أُدَنْدِن في بال نفسي "الليل وسماه.. نجومه وقمره.. قمره وسهره.. وانت وأنا"! وما إن وضعتُ حقائبي في غرفة الفندق حتى اصطحبني صديقي مصطفى الكيلاني إلى مقهى Le Grillion، وهناك تذوّقت بيرة "ستيلا" التي أعادتني إلى بيرة "الشرق" الحلبية وبيرة "بردى" الدمشقية، اللتين جاءت الحرب على مَعمَليهما.
لم أرغب سوى بالامتلاء بالجديد، ولم أكن في وارد أن أخطو في المكان ذاته مرَّتين، مهما داهمني التَّعب. ولجأت إلى لعبة سرديّة يحاور فيها الراوي مدينته الجديدة، فحوَّلتُ القاهرة إلى نديمي الذي أسامره وأُسِرُّ له، أحكي لها عن افتتاني بجسورها وشوارعها العريضة، وبزحمة الحياة التي تضج طيلة ساعات اليوم. أحدِّثها عن نفسها بلغة مسحورٍ بأحابيل أنفاق المترو وبالأنوار المتلألئة على وجه النيل العظيم، عن موسيقى الليل ومقامات الخُطى التائهة في مساحتها الشاسعة، وعن السَّهر في باراتها المفعمة بالصخب وسحر الابتسامات. ورحت أُسائلها عن الألفة التي يصنعها سائقو التكاسي وبائعو بسطات الكُتُب ونادلو المطاعم والبارات وروّاد المسرح والسينما...
مشيت كما لو كنت ثملًا بالأمكنة والوجوه، أتبع أحيانًا النصيحة المكتوبة على بوابة مطعم؛ "إرضاء البطن أفضل من إرضاء الناس"
بَدت أرواح البشر في القاهرة كما لو أنها صُنِعَت بسحر من تهدُّجات النيل والرطوبة التي يمنحها لكل ما حوله. حتى دخاني العربي القادم من جبال اللاذقية استعاد روحه من جديد وبات مذاقه أطيب.
قلتُ في نفسي: لماذا لا أكون تجريبيًا، على منوال ممثلي ومخرجي وسينوغرافيي "مهرجان القاهرة الدولي" للمسرح التجريبي، الذي أتاح لي فرصة لقاء المدينة وأهلها؟ فأحالني هذا في بعض المواقف إلى ممثِّل في مسرح شارع، أتفاعل مع المارّة وأنفعل. فمرَّةً أغني مع سائق التاكسي "كان لك معاي أجمل حكاية في العمر كله"، ومرّة يظنني بائع الجلديات في سوق المُسكي أجنبيًا، فأندغم في الدور وأسأله Is it natural leather؟ وإذ يشعل ولّاعته ويمررها على حزام الجلد ليثبت صدقه، أكلِّمه بلهجتي السورية معتذرًا عن تمثيلي الذي لا أعرف ما إذا كان مُقنعًا. ثمّ أسأله: كيف حَسِبتني أجنبيًا من الأساس؟ ليجيبني "من لون بشرِتَك".
أحتاج إلى تفادي ما يفضحني إذًا، أنا الراغب بالاندغام حدَّ التماهي بمصريّتي المستحدثة. لكن هذا يستوجب تمرينًا أكثر واجتهادًا أكبر في الحلول الدرامية. ولعل الموقف الذي لازمني فيه أحد بائعي الحلي في خان الخليلي عارضًا عليَّ منتجاته بأسعار بخسة، أعطاني ما كنت أريده. إذ طلبتُ منه أن "يفكّني"، أي أن يتركني وشأني، فقال لي "هقولّك فين تلاقي مقهى نجيب محفوظ"، لأجيبه: "من قال لك إني بحاجة إلى من يدلّني... أكثر ما أريده الآن أن أضيع". ثمّ رفعت صوتي بلهجة مصرية: "أنا عاوز أضيع يا باشا"!
الضياع، على سهولته في مدينة شاسعة كالقاهرة، ليس يسيرًا مع ذاكرتي الانفعالية الغنيّة بكل ما يتعلَّق بدمشق. ومع ذلك، اندفعت بشغف للضياع بين كتب سوق العَتَبة، وفي أروقة مجمع الأديان، لدرجة شعرت معها أني معلَّقٌ كالكنيسة المعلّقة، واسعٌ كجامع عمر بن العاص، وممتلئ بالتفاصيل كالمتحف القبطي.
مشيتُ كما لو كنت ثملًا بالأمكنة والوجوه، أتبع أحيانًا النصيحة المكتوبة على بوابة مطعم شارع الحمرا المجاور لميدان طلعت حرب؛ "إرضاء البطن أفضل من إرضاء الناس"، وأتوجه إلى منطقة الحسين لتناول الكِبدة والسُّجق وأتحلَّى بالساكالانس (القشطة مع الحلاوة) لأطفئ المذاق الحار. ثم أدخل إلى مسجد الحاكم بأمر الله، فأستغرب شكل مئذنتيه قبل أن يُعلمني موظف السياحة أنهما مِبخَرَتين، لا مئذنتين، يتم تشغيلهما يومي الاثنين والجمعة من كل أسبوع، لينتشر البخور على أكبر مساحة من القاهرة.
رغبتي بالضياع هي هروب من الألم السوري المديد، ومحاولة لإيجاد ملجأ قريب من القلب
هذه الطقوس باتت موغلة في وجدان أهل القاهرة، من دون أن تمنع اجتماع البخور برائحة النبيذ المعتّق في البارات القريبة.
لكن لماذا أريد هذا الضياع كلّه؟
ألوذ بنفسي فتُراودني الإجابة وأنا في حديقة الحرية مع صديقي وليد أبو السعود. ألتقط صورًا تذكارية بجانب تماثيل أحمد شوقي وغاندي وغيرهما.
أنا بحاجة لأن أتحرّر من دمشق وأفيض مع النيل. بحاجة لأن أستريح من ذاكرتي البعيدة وأصنع أخرى طازجة هنا. لهذا شربت العرق برفقة صديقَيّ فراس نعنع ومجد سعود في بار "إيستوريل"، وتذوَّقت الجمبري في مطعم نادي الحرس الذي يطفو على النيل، وطلبت مع صديقي محمد السيد الطناوي الفول والطعمية والبيض المقلي من عربة قديمة، وتبادلت الأنخاب والسجائر مع أشخاص لا أعرفهم في Cup D’or، وحضرت عروضًا مسرحية من ليتوانيا وألمانيا والكونغو إلى جانب العروض العربية من تونس ومصر والعراق، وتعرّفت على أكلات أسمع بها للمرة الأولى كالحواوشي والمومبار، وتحلَّيت بـ"أم علي" وسمعت قصة "سي الذوق" الذي لم يخرج من مصر، وزرت "مؤسسة الأهرام" وأطلعني صديقي سيد محمود على مطبوعاتها وصورها الأرشيفية الملفتة وأدخلني إلى غرفة التحرير...
رغبتي بالضياع هي هروب من الألم السوري المديد، ومحاولة لإيجاد ملجأ قريب من القلب، وفيه من الحميمية الكثير. وكي لا أُتعب ذهني في حسابات الحنين المضني والغيابات الحاصلة والمؤجلة، أوجدت معادلة ذهنية خاصة، وأقنعت نفسي بأنني الآن، في وسط القاهرة، أعيش كما لو أنّي في دمشق قبل عام 2011.
هكذا كسبت مرتين: مرّةً لأنّي برّرت خيانتي بوقوعي في حبّ مدينة أخرى، وثانية لأنّي لم أعد مضطرًا لاستخدام الآلة الحاسبة لمقارنة الأسعار بين العاصمتين. ورحت أستغرق في الخيال والفرح الطفولي، وفي الرغبة بإسدال الستار على 13 عامًا من الحرب، التي لا أريدها أن تستمر أبدًا في إرهاق ذاكرتي.