هناك أصوات لا تملّ الأذن من سماعها، لقدرتها على بثّ نوع من الطمأنينة الصادقة والارتياح الوجداني العميم. ولأنّ جرسها يجمع بين حَزْم الكلمة وحَنان النغمة، فإنها تصنع أفقًا رحبًا للمعنى والمغنى معًا.
صوت إيلي شويري أحد تلك الأصوات، إذ يسحرك بنبرته في الكلام والغناء على حد سواء. تشعر أنه بَلَّل حبال حنجرته وأوتار عوده بخلطة نورانية تخصُّه وحده، تاركًا في كل مكان من الذاكرة شِعرًا، ولكلّ شعور لحنًا، يتغلغل في الوجدان من دون استئذان.
لكن، بالتَّمعُّن في ما تركه إيلي شويري من مئات الأغنيات والأناشيد والألحان وعشرات الأشعار، سنعلم أن استثنائيته كانت مبنية على "فلسفة ثورية" لا تستكين في الدِّفاع عن الحب والحلم والجَمال والوطن. فأنَّى التفتّ في البلاد التي أنشأها بفنِّه، ستلقاها "معمرة بقلوب مليانة ومزيّنة بزهور وغناني". وإن رفعت رأسك إلى سمائها، سترى اسمها مكتوبًا "ع الشمس الما بتغيب". وإن تذكرت الحرب، فستسمعه ينادي "صف العسكر رايح يسهر". وإذا أخذك الحنين، سيداعبك وتر "مين إلنا غيرك يسأل علينا". وإن زاد جروح الهوى تراه يُسائل الزمن "قول يا زمن مين فيهم مين؟ مين المظلوم والظالم مين؟". وفي حال ساءك ما وصلت إليه أحوال الأغنية، ستسمع انتقاداته عن "زمن الطرشان"، وعن أولئك الناس الذين "كلما علي صوتن زادوا ضجيج"، وفي مقابلهم "ناس قالوا الحِكَمْ هنّي وساكتين".
مع ذلك، لا تكتمل ثورة شويري إلا بالدعوة للحرية، لتجده مُدافعًا عن المقهورين، وكأنه حارس أمين أكثر ما يخشاه أن "يتكسَّر نوم المساكين". ولأنه لا علاج لكل مآزق الوجود أكثر من الحب، فقد جعل من صوته مسيحًا وهو ينادي "يا ناس حبوا الناس.. الله موصّي بالحب.. الحب فرح الناس ويا ويله الما بيحب".
وعلى اختلاف الأصوات التي تعامل معها شويري، كان كل منها يوحي له بالرسالة التي يقدر على نقلها، لذلك كان يرفض التعامل مع من يمتلك صوتًا "لا يصلح حتى في الانتخابات". وهو، مُذ تعقَّم فنيًا بالمسرح الرحباني، بقي على عهده في الأصالة والمُغايرة والتَّمرُّس في الخصوصية، جاعلًا من صوته زهر الشوارع، وطرحة العروس، ومواسم الألفة، وسياج البلاد، وجروح الموال.
في أغنية "وصلوا الحلوين" التي لحنها وكتبها له الأخوان رحباني صوت شديد العذوبة، ينبعث منه عبق أزقّة وشواطئ بيروت
وفي حديث عن خصوصية صوت إيلي شويري، يقول الناقد الموسيقي السوري جمال عواد لـ"أوان": عرفته في الطفولة المبكرة من خلال مسلسل "من يوم ليوم" للأخوين رحباني، وقد تمحورت خيالاتي الطفولية آنذاك حول دوره في أداء شخصية اللص "خفيف"، مدفوعًا بجاذبية خفة حركاته وصوته أثناء الحديث والغناء على حد سواء. لكن تعويذة سحره الأقوى بالنسبة لي، كانت أغنية "وصلوا الحلوين" التي لحنها وكتبها له الأخوان رحباني. صوت شديد العذوبة، ينبعث منه عبق أزقّة وشواطئ بيروت.
يضيف: لافتٌ ذلك الانسجام بين حديث شويري وغنائه، ففي الاثنين يمكنك أن تشعر بتلك الانحناءات الرقيقة والتنويعات في قوة الصوت وطبقته. في الغناء، كان يفضل كثيرًا الانزلاق السلس حتى بين النوتات المتقاربة (الكريشاندو)، مع تزيين الأداء بالعُرْبات والتيكات والنيمات (مسافات صوتية صغيرة لتزيين الغناء) في أماكن معينة يختارها بفطرة فذة.
ولصوته أيضًا قابلية عبقرية للتمازج مع الأصوات الأخرى (البوليفون)، إذ يضيف نكهة تُغْني وترفع كثيرًا من القيمة الجمالية للعمل، وهذا ما لا يمكن للأذن إغفاله في حواريات كثيرة جدًا مثل حواريته مع هدى حداد "خلص الزرع الشتي جايي" من مسرحية "المحطة"، أو مع جوزيف ناصيف في حوارية "قدام شباكك يللي كله زهور"، أو مع فيروز في حوار الأب مع ابنته في مسرحية "لولو". وهي حواريات كرسته أيضًا كممثل لا غنى للأخوين رحباني عنه.
يقول عواد: أما إيلي شويري الملحن، فهو نسخة من سماته الشخصية. فإيلي ملتزم دينيًا وأخلاقيًا، يقدس الأسرة، ويختار أصدقاءه المقربين بعناية شديدة. لذلك، من الطبيعي أن ينتمي كملحن إلى المدرسة الكلاسيكية التي نشأ عليها، حيث الإيقاعات الشرقية الأصيلة والتحويلات المقامية التقليدية مع إضافات مستمدة من داخل الخصوصية الشرقية العربية.
المغني والباحث الموسيقي اللبناني غابرييل عبد النور تحدث لـ"أوان" عن خصوصية صوت إيلي شويري بالقول: صوته فريد بقماشته وخامته التي تميزه عن الجميع. له فرادة وخصوصية واضحة جدًا، إذ لم يأتِ من عباءة أصوات عملاقة أخرى كعبد الوهاب ووديع الصافي التي ميزت العصر الذهبي للأغنية العربية وكثر تأثروا بها. خامة صوت شويري فريدة، وأداؤه فريد يشبه ذاته. ففي الغناء تراه مخمرًا بالآذان وبالمقامات الشرقية للكنيسة البيزنطية التي ينتمي لها، إلى جانب سماعه لكبار المطربين وللموسيقى الكلاسيكية أيضًا. كان يخزِّن بدماغه الجمل الموسيقية من دون أن يشعر.
إيلي شويري نهل من كل شيء سمعه، من المسرح الرحباني، ومن الأصوات التي سبقته، من دون أن يقلدها
يتابع عبد النور: كان لي الحظ أن أراه يلحن تلك الألحان العظيمة. لم يكن يدوّن الموسيقى. كان يدخل بأدق تفاصيل المقدمة الموسيقية واللوازم للكوبليه والفواصل. وعندما يقتنع بلحن ويعزفه مع إيقاعه، كان يسجله حتى لا ينساه. وأحيانًا، ترى فيضًا من النغمات في رأسه وفيضًا من الإيقاعات، كمن يحمل دلوًا ويريد أن يلتقط المطر فيه.
يقول: برغم أن كثرًا لحنوا الأناشيد بطريقة ممتازة، إلا أنهم ظلوا في إطار الماجور أو المينور. أما شويري، فجعل الأناشيد ذات أبعاد شرقية بحتة بمقامات كثيرة، أبرزها الراست والبياتي وغيرهما. وهذه إضافة تحسب له. لذلك لا تستطيع إلا أن تشعر بالثورة داخل أناشيده، وكذلك بالبعد الشرقي الطالع من النغمات.
يشرح المغني اللبناني: خمسُ ألحان لنصوص جبران خليل جبران، من كتب "البدائع والطرائف"، "دمعة وابتسامة"، و"العواصف"، وطَّنَها شويري بألحانه بعدما دخل في عمق في كلّ نص، واضطر أحيانًا أن يجري بعض التعديلات لتناسب وزنًا معينًا، إذ لم يكن تلحين النصوص النثرية سهلًا... كنا نجرب أحيانًا، خصوصًا في ظل ميلي لاستخدام الطبقات العالية في الغناء، وكان هو يستوعبني، فيضع شرقيته وإحساسه، وفي الوقت ذاته يتركني أجود بالمدى الواسع للصوت، وهذه تجربة كلانا خاف منها. لكننا كسبنا الرهان، وكتبت الصحافة حينذاك عن التوليفة التي صنعها شويري بين الشرقي والأوبرالي، وشيّد عبرها ألحانًا عمودية تبتهل كالبخور، وتعطي كلمات جبران حقها كما كتبت مي منسّى في جريدة "النهار".
ولدى سؤالنا: هل مسرحة الصوت وإشباعه بالدراما كانت هي من حدد خصوصية فن شويري؟ أجابنا عبد النور: إيلي شويري نهل من كل شيء سمعه، من المسرح الرحباني، ومن الأصوات التي سبقته، من دون أن يقلدها. لقد كان شويري حساسًا تجاه الأرض، والورد، والمطر، والخالق. كان يصف كلًا من هذه الأمور بصورة مذهلة. لا أعرف كيف تُعجن الكلمات النورانية في فمه حتى تشعر معه أنّك محاط بالموسيقى، وبمكان ما بالحزن. تشعر أنك أمام لوحة من الجمال لا تنتهي.
يضيف: تنبع أهمية أعمال شويري واستمراريتها في الزمن في أنها تحمل عناصر الكلمة والإحساس والعمق والبساطة، وفي أنها قادرة تصيب هدفها. فالطفل يرقص مع ألحان شويري في أغنيات "لكم لبنانكم ولي لبناني، بكتب اسمك يا بلادي، تعلى وتتعمر يا دار". ونخبة المستمعين تطرب معه في "وحده الزمن" و"يا ناس حبوا الناس"... شعبيته هذه، تساهم في خلود أعماله.