هل أنت سعيد بجهازك الذكي؟ إسرائيل أيضًا! (2)

في الجزء الأول من هذه المادة، يعالج الكاتب إشكالية التعامل مع الأدوات الرقمية، وتناقل الصور والفيديوهات الخاصة بحدث أمني عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فضلًا عن استسهال إتاحة أجهزة رسمية داتا المعلومات الخاصة بالمواطنين لشركات خاصة وأجنبية، ويتساءل إن كان اللبنانيون يقدّمون معلومات قيّمة تصلُح للاستخدام الأمني ضدّهم من دون أن يدروا. هذا جزء ثانٍ يقدّم بعض الاقتراحات للحيلولة دون ذلك.

يمكن الاطلاع على الجزء الأول من هذه المادة هنا

 

ليست الغاية من هذه المقالة اقتراحَ خطة عمل أو آليات تحول دون تسرّب معلومات تسهّل عملية الاستهداف الأمني للمجتمع اللبناني أو خلافه من المجتمعات العربية المحيطة بإسرائيل، خصوصًا في ظل الحرب القائمة حاليًا. إذ لا أزعم القدرة على ذلك، وأدرك أن الأمر قد يتجاوز قدرة بلدٍ منهك كلبنان، مؤسساتُه الحكومية إما مترهّلة آيلة للانهيار، أو مخصّخصة لأفراد يُفترض أنهم موظفون. لكن سأوجز ما يمكن أن يشكّل نقطة انطلاق لاستخلاص دروس من الحرب الراهنة، تتيح وضع سياسة وطنية أو محلية تخفف من الثقوب التي يتسلّل منها العدو.

1. التشريع البرلماني: إن مجموعة القوانين التي يجب تحديثها أو استحداثها لتنظيم استخدام الإنترنت في لبنان وحماية هذا الاستخدام مسؤوليةٌ تقع على عاتق النواب اللبنانيين. وهذه مسؤولية نواب الخط الأمامي المواجه لإسرائيل، أي نواب دوائر الجنوب الثلاث بالدرجة الأساس: ما الذي أخّركم منذ تسعينيات القرن الماضي عن إطلاق ورشة كهذه؟ هذا واجب تشريعي، ويجب أن يفهم الناس أهميته. ونواب البرلمان اللبناني معنيون بأمن المواطن وسلامته وسيادته على بلاده، بما في ذلك السيادة على المعلومات الخاصة والعامة. أشك في وجود نائب واحد من الموجودين اليوم قادر على المشاركة في نقاش تقني أو قانوني بحت في ملف سلامة الاتصالات الرقمية وجودة الأمن الرقمي للمؤسسات الحكومية في لبنان.

2. السلطة البلدية: فلننتقل إلى جنوب لبنان، بل المنطقة الحدودية منه تحديدًا؛ تقع هذه المنطقة بشكل كلّي تقريبًا تحت سلطة بلديات أو اتحادات بلدية مقربة من "حزب الله" وحلفائه أو محسوبة عليه. وتتّسم المنطقة بطبيعة الحال بحساسية أمنية منذ تحرير الجنوب عام 2000 ثم حرب تموز عام 2006. يُضاف إلى ذلك تبني الدولة اللبنانية موقف عداء رسمي معلن تجاه الاحتلال الإسرائيلي. نسأل، بناء عليه، عن دور هذه البلديات ومسؤوليتها، وكيفية تغاضيها عن فوضى تركيب الأفراد والمؤسسات كاميرات ذكية متصلة بشبكات إنترنت غير آمنة، مسلطة على المساحات الخاصة والعامة على حد سواء! بإمكان أي منا أن يتخيل كمية الداتا الخاصة بالأماكن والأفراد والآليات التي أمّنتها هذه الكاميرات لأي مقرصن معلومات، حتى لو كان شابًا هاويًا، فكيف بكيان أمني عسكري كإسرائيل!

3. مادة "ثقافة الإنترنت" المدرسية: قبل سنوات، أعددت مقترحًا لتجربة مدرسية تقوم على وضع مادة اختيارية في الصفوف المتوسطة والثانوية، تعنى بـ"ثقافة استعمال الانترنت". وهي، بعكس مادة المعلوماتية التقليدية، لا تتناول الجانب التقني بشكل مباشر، بل بثقافة الأمن الذاتي والوطني في التعامل مع الإنترنت، وصولًا إلى آليات البحث والتدقيق في المعلومة والخبر والحسابات والتطبيقات، ثم المخاطر التي تشكلها مشاركة المعلومات الحساسة الخاصة بالفتية والفتيات وعائلاتهم وشوارعهم على التطبيقات والألعاب الإلكترونية. لم تسمح الظروف بتطوير هذا الاقتراح. غير أني ما زلت أعتقد أن المدرسة هي الجهاز الأمتن في يد الدولة (وطوائفها على حد سواء)، من أجل بناء شخصية مستخدم إنترنت يعرف المخاطر على الأقل، قبل أن يقع فيها.

ينبغي أيضًا الانتباه من مئات آلاف الحسابات العربية على منصة X وخلافها، التي تشغلها إسرائيل

4. الأسرة: يمكن القول إن الأسرة هي مصنع الأفراد الأول في بلادنا. يضاعف هذا من أهمية الاهتمام بالتنشئة المنزلية، أولًا لجهة تأجيل وصول الطفل إلى الإنترنت وفرض رقابة شديدة على مشاركة المعلومات أو تحميل التطبيقات، خصوصًا أن تطبيقات الألعاب أو الرياضة هي الأكثر فيروسية لناحية الانتشار وجمع المعلومات العشوائية، وثانيًا لجهة استيعاب الأسرة مخاطر مشاركة الصور، سواء الشخصية للأطفال أو تلك الخاصة بالأماكن والمعلومات الحساسة، أو بحركة الأسرة وتنقلاتها بكثافة وعشوائية، في ظل نمو معدلات الجرائم الإلكترونية. ومن المفيد هنا الانتباه إلى استعمال القاصرين للأجهزة الذكية وحجم المعلومات التي يشاركونها مع تطبيقاتها ونوعها. ونذكّر دائمًا بأن أي تطبيق تنزّله، سيطلب منك غالبًا إذنًا (permission) يتيح الوصول إلى غالبية المعلومات على هاتفك.

5. قيام الأجهزة الأمنية بمهامها: قبل أسابيع، صوّر أحد المواطنين صاروخًا مضادًا للدروع أطلقته المقاومة وسقط في أراض لبنانية بسبب عطل فيه، وشارك هذه الصورة على مجموعة "واتساب" قبل أن تنتشر ويظهر بوضوح الرقم التسلسلي للصاروخ، وهو ما سهّل تعقب مصدره وخط نقله والمسؤولين عن ذلك. بعدها بأيام، اعتدى الطيران الاسرائيلي على قرية لبنانية، مدمرًا نقطة أمنية. هرع مواطن آخر بهاتفه ليصوّر وينقل بالفيديو انتشال الجثامين ورفع الأنقاض، ما ساعد على تحديد حركة بعض الأفراد المراقبين والعناصر المطاردة. تكرّر هذا بشكل أكثر فجاجة، كما ذكرنا في الجزء الأول من المقالة، في التعامل مع مسرح جريمة اغتيال العاروري ورفاقه في الضاحية الجنوبية لبيروت. تدل هذه الأحداث كلها على غياب أي آلية أمنية للتعامل مع هذه الممارسات التي تهدد حياة الأفراد وسلامة المنشآت والبلدات. ويبدو أن بعض عناصر الأجهزة اللبنانية والحزبية المعنية، يتورطون عن جهلٍ أو قلة اكتراث بنقل الأخبار والبيانات المصورة لأفراد مدنيين ثم إلى العالم كله! إن منع التصوير وتجريم نقل الأخبار الأمنية، خصوصًا داخل الجسم الأمني، هو الممارسة الطبيعية خصوصًا في أوقات الحرب، بل في أوقات السلم أيضًا. لكنّ التعامل الأمني مع هذه الأحداث خلال الأشهر الماضية، كان ممارسة تتراوح بين المأساة المبكية والملهاة المضحكة.

6. سلوك الأفراد: كل هذا غير مجدٍ إذا لم يقتنع المستخدم العادي (أو غير العادي) بجدوى الرقابة الذاتية على علاقته بالأجهزة المتصلة بالإنترنت. ومن المهم أن نذكّر هنا بأن الهاتف الذكي ليس صديقنا، وأن السوشال ميديا والتطبيقات الهاتفية ليست جمعيات خيرية ولا تقدم خدماتها مجانًا، بل إننا ندفع لها من خصوصيتنا ومن معلوماتنا الشخصية وبياتنا التي كثيرًا ما تتم مشاركتها مع طرف ثالث يدفع السعر المناسب مقابلها (راجع فضيحة كامبريدج أناليتيكا). على الأفراد إذًا أن يفكروا قبل الحصول على هاتف ذكي أو تلفزيون ذكي أو تركيب كاميرا ذكية: ما هي معايير الأمن التي أعرفها وسأراعيها؟ وهل أنا بحاجة فعلًا إلى هذا الغرض أو ذاك التطبيق، أو إلى إعطائه الأذونات الضرورية للدخول إلى ما يحتويه الهاتف من معلومات؟ وينبغي أيضًا الانتباه من مئات آلاف الحسابات العربية على منصة X وخلافها، التي تشغلها إسرائيل. ولعل الحديث هنا يسمح بالاعتبار من جريمة اغتيال مهندس الطيران التونسي محمد الزواري، التي جنّد فيها "الموساد" تحت غطاء "فرص عمل على الإنترنت" تونسيين للمشاركة في التحضير للعملية وتنفيذها دون علمهم، وظنًا منهم أنهم يعملون لمصلحة شركة قائمة في النمسا!

إن هذه النقاط هي مجرّد أفكار عابرة، الغاية منها الدعوة إلى إطلاق ورشة عمل ونقاش جدي حول كيفية تدارك الثقوب الأمنية التي ظهرت خلال الأشهر الماضية، من أجل وضع سياسة وطنية سليمة قادرة على حماية مستخدم الإنترنت في لبنان من شرور كثيرة، تبدأ من القرصنة والاحتيال والاستغلال الجرمي، ولا تنتهي بالتجسس والتجنيد والاختراق من قبل الأعداء.

هل أنت سعيد بجهازك الذكي؟ إسرائيل أيضًا! (1)

كيف يقدّم اللبنانيون معلومات تصلُح للاستخدام الأمني ضدّهم من دون أن يدروا؟ كيف تستفيد إسرائيل من الأمر؟..

خضر سلامة
أنا الابن الشرعيّ للحرب

أنا الابن الشرعي لحربٍ ذهب إليها جيلٌ كاملٌ ولم يعد منها، لحربٍ أعطت وعودًا كثيرة لم تفِ بها.

خضر سلامة

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة